البحث

عبارات مقترحة:

الحسيب

 (الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...

القيوم

كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...

السميع

كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

سورة البقرة

العربية

المؤلف مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - الأديان والفرق
عناصر الخطبة
  1. تعريف بسورة البقرة .
  2. استعراض لمحتواها .
  3. الإشارة إلى معاني بعض آياتها .
  4. فضلها. .

اقتباس

وهي سورة مدنية عنيت بجانب التشريع كسائر السور المدنية، فهي تعالج النظم والقوانين التشريعية التي يحتاج إليها المسلمون في حياتهم الاجتماعية، وقد نزلت بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة. وقد اشتملت على معظم الأحكام التشريعية في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وفي أمور الزواج والطلاق والعدة، وغيرها من الأحكام الشريعة ..

الحمد لله رب العالمين، أنار قلوب عباده المتقين بنور كتابه المبين، وجعل القرآن شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.

قال تعالى وهو أعز من يقول: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:1-5].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) [البقرة:255].

وأشهد نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم البعث والنشور، وعلى آله الطيبين الأطهار، وأصحابه الهادين الأبرار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: لنعش في يومنا هذا مع أطول سورة في كتاب الله الكريم، مع سورة البقرة، السورة الثانية في ترتيب المصحف الشريف بعد سورة الفاتحة، وآياتها مائتان وثمانون وست آيات.

وهي سورة مدنية عنيت بجانب التشريع كسائر السور المدنية، فهي تعالج النظم والقوانين التشريعية التي يحتاج إليها المسلمون في حياتهم الاجتماعية، وقد نزلت بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة. وقد اشتملت على معظم الأحكام التشريعية في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وفي أمور الزواج والطلاق والعدة، وغيرها من الأحكام الشريعة.

وقد تناولت في البدء الحديث عن صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، ووضحت حقيقة الإيمان، وحقيقة الكفر والنفاق، للمقارنة بين أهل السعادة وأهل الشقاء.

كما تحدثت عن بدء الخليقة، فذكرت قصة أبي البشر أدم عليه السلام، وما جرى عند تكوينه من الأحداث والمفاجآت العجيبة التي تدل على تكوين الله عز وجل للنوع الإنساني.

ثم تحدثت بإسهاب عن أهل الكتاب، وبوجه خاص عن بني إسرائيل (اليهود)؛ لأنهم كانوا مجاورين للمسلمين في المدينة المنورة، فنبهت المؤمنين إلى خبثهم ومكرهم وما تنطوي عليه نفوسهم الشريرة من اللؤم والغدر والخيانة ونقض العهود والمواثيق، وغيرها من القبائح والجرائم التي ارتكبها هؤلاء المفسدون، مما يوضح عظيم خطرهم، وكبير ضررهم.

وقد تناول الحديث عنهم ما يزيد عن الثلث من آيات السورة الكريمة، من قوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ * أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [40-46] حتى الآية 123 من السورة الكريمة، وغيرها من الآيات.

وقد تناولت السورة جانب التشريع؛ لأن المسلمين كانوا في بداية تكوين الدولة الإسلامية وهم في أمس الحاجة إلى المنهاج الرباني، والتشريع السماوي الذي يسيرون عليه في حياتهم سواء العبادات أو المعاملات؛ ولذلك فإن أغلب السورة تناول الجانب التشريعي وذلك كما يلي:

1- أحكام الصوم مفصلة ببعض التفصيل وذلك في الآيات من (183) إلى نهاية الآية (187) بدأً من قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [183].

2- أحكام الحج والعمرة وذلك في الآيات من (189) إلى (203) ومن ذلك قول الله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [197].

3- أحكام الجهاد في سبيل الله ومن ذلك الآيات من (216) إلى (218)، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [216].

4- شئون الأسرة وما يتعلق بها من الزواج والطلاق والرضاع والعدة وتحريم نكاح المشركات والتحذير من معاشرة النساء في حالة الحيض وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالأسرة لأنها النواة الأولى للمجتمع وذلك في الآيات من (221) إلى (237).

5- الأمر بالمحافظة على الصلاة لأنها عماد الدين، قال تعالى (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون) [238]، أي واظبوا وداموا على أداء الصلوات في أوقاتها وخاصة صلاة العصر؛ فإن الملائكة تشهدها.

وقوموا لله في صلاتكم خاشعين، فإذا كنتم في خوف من عدو أو غيره فصلوا ماشين على الأقدام أو راكبين على الدواب، فإذا زال الخوف وجاء الأمن فأقيموا الصلاة مستوفية لجميع الأركان على الوجه الذي شرعه الله لكم، وكما أمركم الله سبحانه به.

6- تحدثت السورة الكريمة عن جريمة الربا التي تهدد كيان المجتمع ونقوض بنياته، وحملت حملة عنيفة على المرابين بإعلان الحرب السافرة من الله عز وجل ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على كل من يتعامل بالربا أو يقدم عليه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [278-281].

وأعقبت آيات الربا بالتحذير من ذلك اليوم الرهيب الذي يجازي فيه الإنسان على عمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [281]، وهو آخِر ما نزل من القرآن، وآخر وحي نزل من السماء إلى الأرض، وبنزول هذه الآية انقطع الوحي، وانتقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى جوار ربه بعد أن أدى الرسالة، وبلَّغ الأمانة، عليه الصلاة والسلام.

7- ذكر الله سبحانه القرض الحسن -أي بلا فوائد ربوية-، وذكر الأحكام الخاصة بالدين والتجارة والرهن، وكلها طرق شريفة لتنمية المال وزيادته بما فيه صلاح الفرد والمجتمع، وذلك في آية الدين الآية (282) من سورة البقرة، وهي أطول آيات القرآن الكريم على الإطلاق، مما يدل على عناية الإسلام بالنظم الاقتصادية.

وهي قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [282]، والآية التي تليها.

8- تحدثت السورة الكريمة عن الإنفاق في سبيل الله، ومضاعفة أجره من الله سبحانه: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) [261-263].

9- جاء في السورة الكريمة النهي عن إبطال الصدقة بالمن والأذى، وضربت له المثل بالمرائي، وذلك في الآية (264)، ثم أعقبته بذكر فضل من ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله، وضربت له المثل، وذلك في الآيتين (265، 266)، وعاقبة كل منهما عند الله.

كما أمرت المؤمنين بأن ينفقوا من أطيب ما رزقهم الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [267]، أي: لا تقصدوا الرديء الخسيس فتتصدقوا منه ولستم تقبلونه لو أعطيتموه إلا إذا تساهلتم وأغمضتم البصر، فكيف تؤدون منه حق الله؟.

(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [268]، أي: الشيطان يخوفكم من الفقر إن تصدقتم، ويغريكم بالبخل ومنع الزكاة، والله سبحانه يعدكم على إنفاقكم في سبيله مغفرة للذنوب، وخلفاً لما أنفقتموه زائداً عن الأصل.

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [269]، أي: يعطي العلم النافع المؤدي إلى العمل الصالح مَن شاء من عباده، ومَن أُعطِيَ الحكمة فقد أُعْطِيَ الخير الكثير، فيصير صاحبها إلى السعادة الأبدية وما يتعظ بأمثال القرآن وحكمه إلا أصحاب العقول النيرة الخالصة من الهوى.

عباد الله: هذا جزء يسير مما ورد في سورة البقرة، تلك السورة العظيمة التي أشرنا إلى بعض آياتها، وسنكمل الحديث عن فضلها وعن بعض ما جاء فيها في الخطبة الثانية -إن شاء الله-، وأسأل الله أن ينفعنا بها، ويهدينا لكتابه الكريم، وسنة خاتم رسله، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله القائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [21]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [22].

وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، قال له ربه: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [25]، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم على الحق والهدى إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: استكمالا للحديث عن سورة البقرة فأذكِّركم بأن لها فضلا عظيماً، فعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقْرأُ فيه سورة البقرة" أخرجه مسلم وغيره.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "اقرؤوا سورة البقرة؛ فإنّ أخْذها بركة، وترْكها حسرة، ولا يستطيعها البطَلَة" يعني السحرة. رواه مسلم.

كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان".

كما أن هذه السورة اشتملت على أعظم آية في كتاب الله الكريم، وهي آية الكرسي، وهي قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [255].

وهي من الآيات التي ينبغي للمسلم أن يحفظها ويقرأها في كل يوم صباحاً ومساءً، وعقب الصلوات المفروضة، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن آية الكرسي أفضل آية في كتاب الله، وفيها اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب.

وكما في الحديث الشريف: "اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث سور: البقرة، وآل عمران، وطه، وقال هشام إنه في طه: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111].

وقد اشتملت آية الكرسي على عشر جمل مستقلة متعلقة بالذات الإلهية، وفيها تمجيد الواحد الأحد، الله -سبحانه وتعالى-.

وسميت السورة الكريمة سورة البقرة إحياء لذكرى تلك المعجزة الباهرة التي ظهرت في زمن موسى -عليه السلام- حيث قتل شخص من بني إسرائيل ولم يعرفوا قاتله، فعرضوا الأمر على موسى لعله يعرف القاتل، فأوحى الله تعالى إليه أن يأمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله ويخبرهم عن القاتل، ويكون برهاناً على قدرة الله -عز وجل- في إحياء الخلق بعد الموت.

وتتلخص القصة فيما روى ابن حاتم عن عبده السليماني قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا ولد له وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه فقتله، ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم، حتى تسلحوا وركبوا بعضهم على بعض.

فقال ذوو الرأي منهم والنهي: علام يقتل بعضنا بعضاً وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك فقال: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) [67]، قال: ولو لم يعترضوا لأجازت عنهم أدنى بقرة؛ ولكنهم شددوا فشد الله عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فاشتروها بملء جلدها.

فذبحوها وضربوه بجزء منها فقام، فقالوا من قتلك؟ قال: هذا. وأشار إلى ابن أخيه، ثم مال ميتاً، فلم يُعْطَ من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعد. وفي رواية: فأخذوا الغلام فقتلوه. وهذا في الآيات من (67 إلى 74) من السورة الكريمة.

وقد ختمت سورة البقرة بثلاث آيات كريمات هي قول الله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وما بعدها، وخاصة الآيتين الأخيرتين، وفي هذه الآيات روى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ الآيتين من أخر سورة البقرة كفَتَاه" أخرجه البخاري.

وفي رواية لمسلم أن ملَكاً نزل من السماء فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "أبشِرْ بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته".

ولما نزل قول الله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) [284] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: كُلِّفْنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة؛ وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها!.

فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم (سمعنا وعصينا) [93]؟ قولوا: (سمعنا وأطعنا)" فلما قرأها القوم وجرت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى: (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [285].

ونسخ الله تعالى ما جاء في الآية (284) فأنزل: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [286].

نسأل الله أن يتقبل منا ومن كل مسلم، وأن يجعل سورة البقرة لنا عبرة وعظة، وأن نعمل بما جاء فيها من أحكام وعبادات، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

وصلُّوا وسلِّموا -عباد الله- على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.