الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله بن مشاري المشاري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
والوظيفة أمانة يجب أن تقوم بمهامها بجدٍّ وإخلاص، وتنجِزَ المعاملات بلا مماطلة أو تأخير أو عدم مبالاة، وليعلم الموظف أنَّه مسؤول عمَّا أؤتمن عليه من عمل، وكذلك الزوجة أمانة، يجب الإنفاق عليها، وإعطاؤها حقوقها الشرعية، ومعاشرتها بالمعروف...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الحمد لله، أمر عباده بما ينفعهم، ونهاهم عمَّا يضرهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً، أمَّا بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق التقوى, واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى؛ فإنَّ أجسادكم على النار لا تقوى؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الحشر: 18، 19].
عباد الله: إنَّ الله -عز وجل- أمر بحفظ الأمانة وأدائها، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)[النساء: 58]؛ قال السعدي -رحمه الله-: "الأمانات كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به، فأمر الله عباده بأدائها أي: كاملة... لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا ممطولاً بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار, والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله, وقد ذكر الفقهاء على أنَّ من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرزِ مثلها"(تفسير السعدي).
وقال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)[المؤمنون: 8] ؛ قال القرطبي -رحمه الله-: "الْأَمَانَةُ وَالْعَهْدُ يَجْمَعُ كُلَّ مَا يَحْمِلُهُ الإنسان من أمر دينه ودنياه قولاً فعلاً، وَهَذَا يَعُمُّ مُعَاشَرَةَ النَّاسِ وَالْمَوَاعِيدَ وَغَيْرَ ذَلِكَ"(تفسير القرطبي), وقال ابن كثير -رحمه الله-: "أَيْ: إِذَا اؤْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، بَلْ يُؤَدُّونَهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا عَاهَدُوا أَوْ عَاقَدُوا أَوْفَوْا بِذَلِكَ، لَا كَصِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا اؤتمن خَانَ"(تفسير ابن كثير).
وقال السعدي عند هذه الآية: "أي: مراعون لها، ضابطون حافظون، حريصون على القيام بها وتنفيذها، وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق لله، والتي هي حق للعباد"(تفسير السعدي), وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "الأمانة باب واسعٌ جداً وأصلها أمران: أمانة في حقوق الله: وهي أمانة العبد في عبادات الله -عزّ وجلّ-، وأمانة في حقوق البشر"(شرح رياض الصالحين).
عباد الله: إنَّ حفظ الأمانة وأداءها على الوجه المطلوب، من صفات أهل الإيمان، وعلامة على قوة الإيمان، في الحديث الصحيح أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ"(رواه الإمام أحمد والترمذي).
وإذا أدى كل فرد من أفراد المجتمع الأمانة الملقاة على عاتقه، فإنَّه يصلح حال المجتمع، وتقِل فيه الشرور، وتنتشر فيه الفضيلة، وتكثر فيه الخيرات، ويعمُّ الأرض الخير والبركات، وبحفظ الأمانة يُحفظ الدين والعرض والأموال والمكتسبات، ويزدهر الاقتصاد، وينعم الناس بالأمن والرخاء، وبحفظ الأمانة يكون أمن المجتمع؛ فيأمن الناس على دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
عباد الله: إنَّ شأن الأمانة عظيم، قال الله -تعالى-: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب: 72]؛ قال السعدي -رحمه الله-: "يُعظِّم -تعالى- شأن الأمانة، التي ائتمن الله عليها المكلفين، التي هي امتثال الأوامر، واجتناب المحارم، في حال السر والخفية؛ كحال العلانية"(تفسير السعدي).
عباد الله: إنَّ الأمانة تشمل كل العبادات التي أوجبها الله على عباده؛ فالصلاة أمانة، يصليِّها بصفتها المشروعة في أوقاتها المحددة، ولا يتهاون فيها أو يسهو عنها، والزكاة أمانة، يجب إخراجها لمستحقِّها، فلا يؤخرها أو يبخل في إخراجها، والصيام أمانة فيصوم رمضان كما أمر الله، والحج أمانة، يجب على المستطيع تأديته وعدم تأخيره، وكذلك تربية الأبناء أمانة، فيربِّي أبناءه على الصلاح والتقوى، والنصيحة والموعظة والتوجيه والإرشاد، والتعليم أمانة، يجب على من تولاه أن يقوم به خير قيام، فيُعلِّم العلم النافع بتفان وإخلاص.
والودائع أمانة حتى تؤديها إلى أصحابها، والبيع والشراء أمانة، فتَصدُق وتُبيِّن حتى يُبارك لك في بيعك وشرائك، والوظيفة أمانة يجب أن تقوم بمهامها بجدٍّ وإخلاص، وتنجِزَ المعاملات بلا مماطلة أو تأخير أو عدم مبالاة، وليعلم الموظف أنَّه مسؤول عمَّا أؤتمن عليه من عمل، وكذلك الزوجة أمانة، يجب الإنفاق عليها، وإعطاؤها حقوقها الشرعية، ومعاشرتها بالمعروف؛ (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[البقرة: 229], وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ"(رواه مسلم).
عباد الله: إنَّ خير الأجراءِ القوي الأمين، ومن القصص القرآني، قصة موسى -عليه السلام- لمَّا ورد ماء مدين، قال الله -تعالى-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص: 23 - 26]؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أمينٌ فيما وَلِيَ، أمينٌ على ما استُودع"(تفسير الطبري), وقال مجاهد -رحمه الله-: "فَإِنَّهُ نَحَّى لَهُمَا الْحَجَرَ عَنِ الْبِئْرِ فَسَقَى لَهُمَا، وَأَمَّا أَمَانَتُهُ فَغَضَّ طَرْفَهُ عَنْهُمَا حَتَّى سَقَى لَهُمَا فَصَدَرَتَا"(تفسير مجاهد).
وقال السعدي -رحمه الله-: "أي: إنَّ موسى أولى من استؤجر؛ فإنَّه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استؤجر، من جمعهما، أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان، ينبغي اعتبارهما في كلِّ من يتولى للإنسان عملاً بإجارةٍ أو غيرها"(تفسير السعدي).
عباد الله: أدوا الأمانة وقوموا بها؛ كما أمرتم بذلك، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال: 27], وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ"(رواه الإمام أحمد وصححه الألباني).
ولأداء الأمانة ثمرات كثيرة منها: محبَّة الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، أَوْ يُحِبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ فَلْيَصْدُقْ حَدِيثَهُ إِذَا حَدَّثَ، وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ إِذَا ائْتُمِنَ، وَلْيُحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ"(رواه البيهقي وحسنه الألباني).
وأداء الأمانة سبب في تفريج الكروب، قال الإمام ابن باز -رحمه الله-: "أداء الأمانة من أعظم الأسباب في تفريج الكروب وتيسير الأمور، ومن أعظم الأسباب في النجاة من النار"(فتاوى نور على الدرب).
اللهم أعنَّا على أداء الأمانة على الوجه الذي يرضيك عنَّا, بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.