الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | السيد مراد سلامة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أركان الإيمان |
أخطأ كثير من الناس في فهم حرية التعبير وإبداء الرأي؛ فجرفهم هذا الخطأ إلى شفا جرف هار, يكاد أن ينجرف بهم إلى نار جهنم؛ حيث إنهم يبدون آراءهم في القواعد والثوابت الشرعية, ويخضعونها للعقل والرأي؛ فهذا يتكلم ويناقش قضية المواريث....
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الإخوة الأحباب: خلق الله -تعالى- الإنسان مولودا حرا مكرما, تعشق نفسه وروحه الحرية, وتطمح أن تعيش كما تريد وكما تهوى, لا كما يريد لها الآخرون ويهوون, وفي هذه الخطبة سنقف مع عرف العبير في بيان حرية التعبير؛ لنتعرف على تلك الحرية من خلال كتاب رب البرية, وسنة صفوة البشرية -صلى الله عليه وسلم-, فما هي حرية التعبير؟ وكيف أفسح الكبير المتعال المجال لتلك الحرية, وضبطها بضوابطها الشرعية؟.
تعريف حرية التعبير؛ عرفها المجمع الفقهي بأنها: "تمتع الإنسان بكامل إرادته في الجهر بما يراه صوابا ومحققا؛ للنفع له وللمجتمع, سواء تعلق بالشؤون الخاصة, أو القضايا العامة" ويضبط هذا التعريف لو أضفنا إليه "ألا يصادم نصا أو قاعدة, أو مبدأً شرعيا.
أيها الإخوة: إن الذي يتدبر القران الكريم يجد أن الله -تعالى- قد كفل للفرد حرية التعبير؛ بل منحه مساحة لإبداء رأيه, ولنأخذ على ذلك أمثلة:
لما أراد ربنا -سبحانه- أن يخلق آدم -عليه السلام- عرض الأمر على الملائكة المقربين, وهنا أتاح الله -تعالى- لهم أن يعبروا عن رأيهم في قضية خلق آدم -عليه السلام- قال الله -تعالى- (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)[البقرة: 30 - 33]؛ في هذه الآيات أبدت الملائكة المقربون رأيهم في خلق أبينا آدم -عليه السلام-, ثم بين الله -تعالى- لهم خطأ رأيهم؛ بأن علم أبينا آدم الأسماء كلها, ثم سأل الملائكة عن هذه الأشياء, فردوا العلم إلى الله -تعالى-, وهنا أمر الله -تعالى- آدم أن يخبرهم بأسماء هذه المسميات فأخبرهم بها, وأعلمهم الله -تعالى- أنه يعلم ما يبدون وما يكتمون.
ومن صور حرية التعبير في القرآن: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقد كفل الإسلام لأبناء المجتمع -ذكورا كانوا أو إناثا- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقال -سبحانه وتعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)[التوبة: 71]؛ أي: إن المجتمع الإسلامي بشقيه الرجولي والنسوي (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ) يتمتع بحرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا لا يقتصر على الأمور الدينية والعبادات والعقائد؛ بل كل نشاط إنساني في التفكير، والنقد والمعارضة, وتقييم الأمور السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
لقد أسس النبي -صلى الله عليه وسلم- لمبدأ حرية التعبير, وإبداء الراي والرأي الآخر في مواطن كثيرة من سنته المطهرة, نذكر منها -أيها الأحباب- ما يلي :
ما جاء عن ابْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ عُمَرُ: "وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي الجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا؛ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ، وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ، إِذْ قَالَتِ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا لَكَ، وَلِمَا هَا هُنَا؟! وَفِيمَ تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟!، فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ!، مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ؛ وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ! إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ؟!، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ، فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ، وَغَضَبَ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَا بُنَيَّةُ! لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِيَّاهَا -يُرِيدُ عَائِشَةَ-, قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا، فَكَلَّمْتُهَا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ!، دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَزْوَاجِهِ، فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا"(متفق عليه).
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَال: في الحديث الطويل: "فَسَارَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُبَادِرُهُمْ إِلَى الْمَاءِ حَتَّى نَزَلَ بَدْرًا, فَسَبَقَ قُرَيْشًا إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ عَلَيْهِ, فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّاهُ وَلَا نُقَصِّرُ عَنْهُ؟ أَمْ هُوَ الرَّأيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَلْ هُوَ الرَّأيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ", فَقَالَ الْحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ! فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، وَلَكِنِ انْهَضْ حَتَّى تَجْعَلَ الْقُلُبَ كُلَّهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِكَ، ثُمَّ غَوِّرْ كُلَّ قَلِيبٍ بِهَا, إِلَّا قَلِيبًا وَاحِدًا، ثُمَّ احْفِرْ عَلَيْهِ حَوْضًا، فَنُقَاتِلُ الْقَوْمَ؛ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ: "قَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأيِ"(الجامع الصحيح للسنن والمسانيد).
وقد أجاز الإسلام حرية الرأي في كافَّة الأمور الدنيوية؛ مثل الأمور العامَّة والاجتماعيَّة، وفي مثال يُجَسِّد ذلك ما ظهر من سعد بن معاذ وسعد بن عبادة -رضى الله عنهما- حين استشارهما الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مهادنة غطفان على ثلث ثمار المدينة؛ حتى يخرجوا من التحالف يوم غزوة الأَحْزَاب, عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء الحارث الغطفاني إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد! شاطرنا تمر المدينة, قال: "حَتَّى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ", فبعث إلى سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود -رضي الله عنهم-، فقال: "إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ الْـحَارِثَ يَسْأَلُكُمْ أَنْ تُشَاطِرُوهُ تَمْرَ الْـمَدِينَةِ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْفَعُوا إِلَيْهِ عَامَكُمْ هَذَا حَتَّى تَنْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ بَعْدُ", قالوا: يا رسول الله! أوحيٌ من السماء؛ فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك أو هواك؛ فرأينا تبع لهواك ورأيك؟ فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا؛ فوالله! لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا تمرة إلا بشرى أو قرى"؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هو ذا تسمعون ما يقولون"(رواه الطبراني).
وأما الخلفاء فكان عمر -رضي الله عنه- يترك الناس يُبدون آراءهم السديدة, ولا يقيدهم ولا يمنعهم من الإفصاح عما تكنه صدورهم, ويترك لهم فرصة الاجتهاد في المسائل التي لا نص فيها؛ فعن عمر: "أنه لقي رجلاً فقال: ما صنعت؟, قال: قضى علي وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟, قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك ما قال علي وزيد", وهكذا ترك الفاروق الحرية للصحابة يبدون آراءهم في المسائل الاجتهادية، ولم يمنعهم من الاجتهاد، ولم يحملهم على رأي معين!.
ولقد ظلّت سياسات الخلفاء الراشدين واجتهاداتهم وتصرفاتهم موضع نقد ومراجعة؛ بإقرار من الخلفاء أنفسهم، وبرضاهم وتشجيعهم؛ فقد عورض أبو بكر ونوقش في محاربة أهل الردة، وإنفاذ جيش أسامة، وتوزيع المنح وإقطاع الأراضي؛ فكان يُقنع أو يقتنع، ولكنّه لم يمنع أحداً ولم يلُم أحداً على مخالفته ومعارضته، كيف وهو الذي ناشد الناس في أوّل عهده بالخلافة أن يقوّموه إذا أساء؟!.
أيها الأحباب: أخطأ كثير من الناس في فهم حرية التعبير وإبداء الرأي؛ فجرفهم هذا الخطأ إلى شفا جرف هار, يكاد أن ينجرف بهم إلى نار جهنم؛ حيث إنهم يبدون آراءهم في القواعد والثوابت الشرعية, ويخضعونها للعقل والرأي؛ فهذا يتكلم ويناقش قضية المواريث التي فصلها الله -تعالى- في كتابه, وأعطى كل ذي حق حقه وبين له نصيبه؛ فنسمع من يقول: "إن الإسلام ظلم المرأة في الميراث, وأنه يجب أن نسوي بينها وبين الرجل", وآخر يجرم الحجاب ويعترض عليه, يسب من لبسته ويقول: "حرية رأي, وحرية تعبير"!.
هؤلاء يريدون تحت ستار الحرية أن يعملوا على تحريف الدين عن حقيقته، والإتيان بدين آخر غير الدين الذي عرفه المسلمون خلال أربعة عشر قرناً، وقرأوه في القرآن، وعرفوه في السنة، وذاكروه في دواوين الأمة, الله -تعالى- يقول: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً)[المائدة:3], وللأسف الشديد، نجد في عصرنا بعض الناس يريدون أن يقولوا: "إن الدين لم يكتمل، وأن الشريعة لم تتم"!، ويريدون أن يتمموا هم الدين، ويكملوا هم الشريعة؛ باجتهادات فجة من عند أنفسهم, يريدون أن يحلوا الحرام، وأن يحرموا الحلال، وأن يسقطوا الفرائض، وأن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله.!
يريدون أن يعيدوا تفسير أو قراءة القرآن، يقرأون القرآن قراءة يسمونها قراءة معاصرة لا تبالي بما بين الرسول من أحاديث، ولا بما جاء عن الصحابة من تفاسير، ولا بما جاء عن التابعين، ولا عن مفسري الأمة طوال العصور, يريدون أن يكون لهم فهم جديد؛ أي: دين جديد، يعلنونه للناس، وهذه مشكلة كبرى؛ لأن الكامل لا يقبل الزيادة ولا النقص, إن هذه هي بمعناها الصواب حرية الكفر, لا حرية الفكر والرأي!.
كل أمر جاء به الشارع وحكم فيه بنص، سواء تعلق الأمر بالعبادات، أو المعاملات، فهذا ليس للإنسان فيه إلا أن يعمل بمقتضى الدليل؛ قال –تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الأحزاب: 36].
وإن وجد مجال للرأي، فهو في فهم الدليل وتنزيله، وليس في إلغائه، أو ردِّه، وحتى في مجال الاجتهاد الذي منه القياس، فإنه إذا خالف النص؛ فإنه يسمى فاسد الاعتبار, قال الشاطبي: "الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان: أحدهما: الاجتهاد المعتبر شرعًا، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد، وهذا هو الذي تقدم الكلام فيه, والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمَّن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه؛ لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض، وخبط في عماية واتباع للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه، فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذي أنزل الله"(الموافقات).
أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله, وبعد:
أيها الإخوة الأحباب: ومن صور الحريات المزعومة والمدعومة التي يرفضها الإسلام أيضا: السب والشتم وازدراء الأديان؛ فرأينا من يسب الأنبياء والمرسلين, ورأينا من ينتقص من الذات الإلهية؛ كما شاهدنا في الفترة الأخير الحملة الهوجاء على سيد الأصفياء -صلى الله عليه وسلم-.
إن الإسلام أمرنا ألا نسب آلهة الغير, وحذرنا من ذلك ربنا -سبحانه- فقال: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 108]؛ قال القرطبي في تفسيره: "فنهى -سبحانه- المؤمنين أن يسبوا أوثانهم؛ لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا… قال العلماء: حكمها باقٍ في هذه الأمة على كل حال؛ فمتى كان الكافر في منعة، وخيف أن يسبَّ الإسلام أو النبي -عليه الصلاة والسلام- أو الله -عز وجل-؛ فلا يحل لمسلم أن يسبَّ صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية"(تفسير القرطبي), وقال ابن كثير في تفسيره: "يقول -تعالى- ناهيًا لرسوله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة؛ إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو".
ومن الحريات المزعومة: حرية السب والشتم والتعدي على الأعرض التي صانها الله -تعالى-؛ فرأينا وسمعنا السب والشتم بدعوى الحرية, والله -تعالى- نهانا عن أن نخوض في أعراض الغير وحذرنا من الخوض فيها,
الكثير يعتقد أن الحرية هي التفلت من القيود والضوابط والأخلاقيات, وهذا هو الفهم السيئ لمعنى حرية التعبير وحرية الرأي؛ فنسمع من يسب ويقدح في الصحابة وعلماء الأمة, ويقول: "لمَ تحجرون علينا؛ هم رجال ونحن رجال!.
أخي المسلم: أنت حر ما لم تضر, وما لم تنتهك الأخلاقيات والقيم, والإسلام علمنا أن نلتزم بأخلاقه في الحوار وفي إبداء الرأي, ونهانا عن السخرية والقدح في الآخرين, قال الله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)[الحجرات: 12، 12].
يقول الشيخ محمد عبده: "وَلَيْسَتْ سَعَادَةُ الْإِنْسَانِ فِي حُرِّيَّةِ الْبَهَائِمِ؛ بَلْ فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي دَائِرَةِ الشَّرْعِ وَمُحِيطِهِ، فَمَنِ اتَّبَعَ هِدَايَةَ اللهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَمَتَّعُ تَمَتُّعًا حَسَنًا، وَيَتَلَقَّى بِالصَّبْرِ كُلَّ مَا أَصَابَهُ، وَبِالطُّمَأْنِينَةِ مَا يَتَوَقَّعُ أَنْ يُصِيبَهُ؛ فَلَا يَخَافُ وَلَا يَحْزَنُ"(تفسير المنار).
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم؛ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).