الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
ولابد في الدعوة من رفق بالمدعوين، ولين جانب معهم، ومعاملة لهم بالمعاملة الطيبة؛ لأن من كان فظاً غليظاً سيء المعاملة لن يحظى بقبولٍ لدعوته، بل سينفض الناس من حوله
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن من محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: معاشر المؤمنين عباد الله: اتقوا الله -تعالى- وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه.
وتقوى الله -جل وعلا- عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
عباد الله: إن من أجل الواجبات الدينية ومن أعظم القربات إلى الله -جل وعلا-: الدعوة إليه سبحانه، والدعوة إلى سبيله، قال الله -تعالى-: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[القصص: 87]، وقال جل وعلا: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: 125].
فذكر جل وعلا في الآيتين الدعوة إليه سبحانه والدعوة إلى سبيله.
أما الدعوة إليه فلأنه جل وعلا هو المعبود المقصود المراد بالدعوة.
وأما الدعوة إلى سبيله فلأنها طريقه الذي ارتضاه لعباده وصراطه المستقيم الذي لا يرضى لعباده طريقاً سواه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأنعام: 153].
والدعوة إلى الله -معاشر المؤمنين- أشرف وظيفة، وأنبل عمل، وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين، وسبيل أولياء الله المقربين: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].
وبالدعوة إلى الله يميز الناس بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والظلمات والنور، ويميز الناس بين الكفر والإيمان، والسنة والبدعة، والصالح والفاسد.
وبالدعوة إلى الله -جل وعلا- يُخلَّص الناس من مهاوي الرذيلة، ومنزلقات الفساد.
وبالدعوة إلى الله -جل وعلا- تحرر القلوب من رَيْن الذنوب، وتسلط الشهوات، ويكون بها إيقاظ للبصائر لتتطلَّع إلى رفيع الدرجات وعالي المقامات.
عباد الله: والدعوة إلى الله وظيفةٌ جليلة، وعمل شريف مبارك، وهو عبادة من العبادات، وقربة من القرب التي يتقرب بها المسلم إلى الله، وكل قربة يتقرب بها المسلم إلى ربه لابد أن تكون لله خالصة وللسنة موافقة؛ ولهذا قال الله -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)[يوسف: 108]؛ فقوله جل وعلا: (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) فيه تنبيه إلى الإخلاص، وابتغاء الله -جل وعلا- ووجهه بالدعوة. وفي قوله: (عَلَى بَصِيرَةٍ على بصيرة) تنبيه على لزوم العلم وضرورة الاتباع والتأسي بالرسول -عليه الصلاة والسلام-.
عباد الله: الداعية إلى الله لابد أن يكون في دعوته مخلصاً لله يبتغي بعمله وجه الله، لا يدعو إلى الله من أجل شهرة يرجوها، ولا دنيًا يطمع بها، ولا محمدة وثناءً من الناس يقصده؛ وإنما يدعو إلى الله -جل وعلا- متقرباً بدعوته إليه، راجياً بذلك ثوابه وأجره سبحانه.
والدعوة إلى الله لابد أن تكون وفق السنة وفي ضوء هدي نبينا -عليه الصلاة والسلام-، ومن دعا إلى الله بغير علم وبدون اتباع فإن ما يفسده أكثر مما يصلحه كما جاء نحو هذا المعنى عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-.
عباد الله: ولابد في الدعوة من رفق بالمدعوين، ولين جانب معهم، ومعاملة لهم بالمعاملة الطيبة؛ لأن من كان فظاً غليظاً سيء المعاملة لن يحظى بقبولٍ لدعوته، بل سينفض الناس من حوله، قال الله -تعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران: 159]، وقال جل وعلا لموسى -عليه السلام- ولأخيه هارون -عليه السلام- (فَقُولَا لَهُ) أي لفرعون (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44].
وإن لم يكن الداعي إلى الله متحلياً بالصبر فإنه سينثني من أول الطريق، قال الله -تعالى-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)[الأحقاف: 35]، وقال جل وعلا: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1-3].
والداعية إلى الله لا يملك هدايةً للناس ولا صلاحاً لقلوبهم؛ فالهداية بيد الله -جل وعلا-، قال الله -تعالى- لنبيه -عليه الصلاة والسلام- خير الدعاة وإمامهم: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)[القصص: 56]، وقال له جل وعلا: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[يوسف: 103]، ولهذا فإن الداعي إلى الله -عز وجل- عليه أن يمضي في دعوته متوكلاً على الله طالباً مدده وعونه ومنّه وتوفيقه، قال الله -جل وعلا- عن نبيه شعيب -عليه السلام-: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هود: 88].
ولهذا -عباد الله- فإن الجدير بالداعية إلى الله أن يدعو الله -جل وعلا- خالصاً صادقاً أن ينفع بدعوته، وأن تؤتي ثمارها وأكلها، وأن يشرح صدور الناس لقبولها، وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا المعنى أحاديث كثيرة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ"، وجاء عنه في هذا المعنى أحاديث.
عباد الله: والدعوة إلى الله تتطلب صدقاً من قلب الداعي، وإذا كان الداعي صادقاً يدعو إلى الله من قلبه فإن ما نبع من القلوب وصل إلى القلوب، وأما ما يخرج من الألسن فقط فإنه لا يتجاوز الأسماع (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ)[الأحزاب: 23-24].
وأهم ما في هذا الباب: الاقتداء التام والتأسي الكامل قدر المستطاع بنبينا -عليه الصلاة والسلام-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله -تعالى-.
عباد الله: إن من الأمور المتقررة المعلومة أنه ما من مبدأ من المبادئ ولا أمرٍ من الأمور لا ينهض في الناس، ولا يتسع انتشاره بينهم؛ إلا بدعوة تقوم على ذلك؛ ولهذا فإن من وراء انتشار المبادئ الهدامة، والدعوات المضلة، والبدع المفسِدة؛ دعواتٍ متواصلة، وعمل دؤوب من أربابها وأهلها في سبيل نشرها في الناس، وتوسيع مساحتها بينهم.
ولما ينشط دعاة الرذيلة، وأرباب الفساد في نشر فسادهم ورذائلهم بين الناس يبدأ الفساد يدب شيئاً فشيئاً بسبب الدعوة والنشاط في نشره، وإذا ابتُلي الناس في وقت من الأوقات بهجماتٍ شرسة من دعاة الرذيلة، وأرباب الفساد في نشر رذائلهم وفسادهم، فإن المقام -عباد الله- يتطلب من أهل الحق والهدى والبصيرة والسداد أن ينشطوا وأن ينهضوا للدعوة إلى الحق والهدى كلٌ قدر استطاعته؛ فالرجل مع أهله وأولاده وكل قدر استطاعته نصحاً لدين الله، ودعوةً إلى الله -جل وعلا-، ودعوةً إلى سبيله القويم: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33]، وقد قال جل وعلا مثنياً ومنوِّهاً بمكانة نبيه -عليه والصلاة والسلام-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)[الأحزاب: 45-46].
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال، وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ووفقنا للدعوة إلى سبيلك القويم وصراطك المستقيم، وأعذنا يا إلهنا من دعاة الشر والفساد وأرباب الأهواء والباطل.
وصلوا وسلموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي الحسنين علي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة المسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، إليك أواهين منيبين، لك مخبتين لك مطيعين.
اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا.
اللهم وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله دقه وجله أوله وآخره سره وعلنه.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].