الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | د عبدالحميد بن سعد السعودي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
واعلموا أن صلاح الأسرة طريق أمان المجتمع كله، فهيهاتَ هيهاتَ أن يصلح مجتمع وهَت فيه حبالُ الأسرة، كيف وقد امتنَّ الله -سبحانه وتعالى- علينا بهذه النعمة؛ نعمة اجتماع الأسرة وتآلفها وترابطها...
من اختيارات الشيخ رحمه الله
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أهله، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أحمده -سبحانه- وأشكره على نعمه، وأسأله المزيدَ من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسَلَه بالهدى ودين الحق بشيرًا ونذيرًا، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الإخوة في الله: كثير من الناس يطلب السعادة ويتلمس الراحة، وينشد الاستقرار وهدوء النفس والبال، كما يسعى إلى البعد عن أسباب الشقاء والاضطراب ومثيرات القلق، بل جميع العقلاء يتشوَّقون إلى هذا المطلب، ويتطلَّعون إلى تحقيق هذا المقصد.
وليعلم أن ذلك كله لا يتحقق إلا بالإيمان بالله وحده، والتوكل عليه، وتفويض الأمور إليه، مع الأخذ بما وضَعَه من سنن، وشرَعَه من أسباب، وإن من أعظم ما يؤثِّر في ذلك على الفرد وعلى الجماعة بناء الأسرة واستقامتها على الحق.
فالله -سبحانه وتعالى- بحكمته جعلها المأوى الكريم الذي هيَّأه للبشر من ذكر وأنثى، يستقر فيه ويسكن إليه.
تأمل قوله -تبارك وتعالى-: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم: 21].
نعم ليسكن إليها، ولم يقل ليسكن معها، بل قال عز وجل: (ليسكن إليها)؛ ليُحقق معنى الاستقرار في السلوك، والهدوء في الشعور، ويُحقق الطمأنينة بأسمى معانيها، فكل من الزوجين يجد في صاحبه الهدوء عند القلق، والبشاشة عن الضيق، بعد ذلك تقع السعادة والطمأنينة والراحة مواقعها.
إن أساس العلاقة الزوجية الصحبة والاقتران القائمان على الود والأنس والتآلف، إن هذه العلاقة عميقة الجذور، بعيدة الآماد، متينة متماسكة مترابطة متداخلة، إنها أشبه ما تكون بصلة للمرء بنفسه، بيَّنها ربُّنا -عز وجل- بقوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)[البقرة: 187].
فضلًا عما تُهيِّئه هذه العلاقةُ من تربية البنين والبنات، وكفالة النشء التي لا تكون إلا في ظل أمومة حانية، وأبوة كادحة، وأسرة متفاهمة، وبيئة صالحة تقية زكية.
أيها الإخوة في الله: هناك أمور كثيرة يقوم عليها بناء الأسرة المسلمة، وتتوطد فيه العلاقة الزوجية، ويلتئم فيها شمل هذه اللَّبِنة، وتبتعد فيها عن رياح التفكك، وأعاصير الانفصام والتصرم، وأول هذه الأمور وأهمها: التمسُّك بعروة الإيمان الوثقى، الإيمان بالله واليوم الآخر، والخوف من المطلع على ما تكنه الضمائر، ولزوم التقوى والمراقبة، والبعد عن الظلم، والتعسف في طلب الحق؛ (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق: 2-3].
ويقوِّي هذا الإيمانَ.. الاجتهادُ في الطاعة والعبادة، والحرص عليها، والتواصي بها، استمعوا إلى قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "رَحِمَ اللهُ رجلًا قام من الليل فصلَّى، وأيقَظ امرأتَه فصلَّت، فإن أبت نضَح في وجهها الماء -يعني رشَّ عليها الماء رشًّا رفيقًا-، ورحم الله امرأةً قامت من الليل فصلَّت وأيقظَتْ زوجَها فصلَّتْ، فإن أبى نضَحَتْ في وجهه الماء"(حديث صحيح، أخرجه أحمد وأبو داوود وابن ماجه وغيرهم).
إن العلاقة بين الزوجين ليست علاقة دنيوية مادية، ولا شهوانية بهيمية، إنها علاقة روحية كريمة، وحينما تصحُّ هذه العلاقة وتصدُق هذه الصلة، فإنها تمتدُّ إلى الحياة الآخِرة بعدَ الممات، (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)[الرعد: 23]، (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[الطور: 21].
أيها الإخوة في الله: وإن ممَّا يحفَظ هذه العلاقةَ ويحافظ عليها المعاشَرة بالمعروف، ولا يتحقَّق ذلك إلا بمعرفة كل طرف ما له وما عليه، وإنَّ نَشْدَ الكمالِ في البيت وأهل البيت أمرٌ متعذَّرٌ، والأمل في استكمال كل الصفات فيهم أو في غيرهم شيء بعيد المنال في الطبع البشري.
ومن رجاحة العقل ونضج التفكير توطين النفس على قبول بعض المضايقات، والغض عن بعض المنغصات، وأنت أيها الرجل أنت رب الأسرة، مطالب بتصبير نفسك أكثر من المرأة، وقد علمت أنها ضعيفة في خَلقها وخُلقها، إذا حوسبت على كل شيء عجزت عن كل شيء، والمبالَغة في تقويمها يقود إلى كسرها، وكسرُها طلاقُها، يقول المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم-: "واستوصُوا بالنساء خيرًا، فإنهن خُلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تُقِيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزل أعوجَ، فاستوصُوا بالنساء خيرًا"، فالاعوجاج في المرأة من أصل الخِلقة، فلا بدَّ من مسايرته، والصبر عليه، فعليك -أيها الزوجُ- ألا تسترسلَ مع ما قد يظهر من مشاعر الضيق من أهلك واصرف النظر عن بعض جوانب النقص فيهم، وتذكَّر ولا تتنكَّر لجوانب الخير فيهم، وإنك لَواجد في ذلك شيئًا كثيرًا.
وفي مثل هذا يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفرك مؤمن مؤمنة -أي لا يبغض ولا يكره- إِنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ"، تأنَّ في ذلك، فلئن رأيتَ ما تكره فأنتَ لا تدري أين أسباب الخير، وموارد الصلاح؛ (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: 19].
كيف تكون الراحة؟ وكيف يحصل السكن والمودة؟ وكيف تتحقق الطمأنينة والسعادة إذا كان رب البيت ثقيل الطبع، سيئ العشرة، ضيق الأُفُق، يغلبه حمقٌ، ويعميه تعجُّلٌ، بطيء في الرضا، سريع في الغضب، إذا دخل فكثير المنِّ، وإذا خرج فسيئ الظنِّ، وقد عَلِمَ أن حُسْنَ العِشرةِ وأسبابَ السعادةِ لا تكون إلا في اللِّين، والبعد عن الظنون والأوهام التي لا أساس لها، إن الغيرة قد تذهَب ببعض الناس إلى سوء ظن يحمله على تأويل الكلام والشك في التصرفات؛ مما ينغِّص العيشَ، ويقُلِق البالَ، من غير مستنَد صحيح.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فاتقوا الله أيها الإخوة، واعلموا أنه بحصول الوئام تتوفَّر السعادة، ويتهيَّأ الجو الصالح للتربية، وتنشأ الناشئة في بيت كريم، مليء بالمودة، عامر بالتفاهم، بين حنان الأم ورأفة الأب، بعيد عن صخب المنازَعات والاختلاف، وتطاوُل كل واحد على الآخَر، فلا شقاق ولا نزاع، ولا إساءة إلى قريب أو بعيد.
واعلموا أن صلاح الأسرة طريق أمان المجتمع كله، فهيهات هيهات أن يصلح مجتمع وهَت فيه حبال الأسرة، كيف وقد امتنَّ الله -سبحانه وتعالى- علينا بهذه النعمة؛ نعمة اجتماع الأسرة وتآلفها وترابطها، فقال سبحانه: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)[النحل: 72].
اللهم في هذه الساعة المباركة هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين لنا واجعلنا للمتقين إمامًا..
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة في الله: صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".
فكيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعاشر أهله؟ يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله-: وكان من أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- يتودد إليها بذلك، قالت: "سابقني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني، فقال: هذه بتلك"، ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء، وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب: 21].
فرحم الله رجلًا محمود السيرة، طيب السريرة، سهلًا رفيقًا، لينًا رؤوفًا، رحيمًا بأهله، حازمًا في أمره، لا يكلف شططًا، ولا يرهق عسِرًّا، ولا يهمل مسؤولية، ولا يفرط في أمانة.
هذا واعلموا ان أصدق الحديث كتاب الله.