المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد - الحياة الآخرة |
أيها المؤمنون: إن هذه الحياة الدنيا مَيدان للجهاد. والجهاد في هذه الحياة في مجالين عظيمين وبابين كبيرين ألا وهما: ملازمة الطاعات، والمحافظة عليها، وتجنب المعاصي، والبعد عنها. ومن أكرمه الله -عز وجل- بتحقيق هذا الجهاد فاز يوم القيامة فوزاً عظيماً. وليُعلم أن الجنة لها...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى- وراقبوه عز وجل، واعملوا بطاعته وتجنبوا معصيته فإن في ذلك سعادة الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون -عباد الله-: إن هذه الحياة الدنيا مَيدان للجهاد، والله -تعالى- يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمـَعَ المـُحْسِنِين)[العنكبوت: 69].
والجهاد -عباد الله- في هذه الحياة في مجالين عظيمين وبابين كبيرين ألا وهما: ملازمة الطاعات، والمحافظة عليها، وتجنب المعاصي، والبعد عنها.
ومن أكرمه الله -عز وجل- بتحقيق هذا الجهاد؛ فاز يوم القيامة فوزاً عظيماً، قال الله -تعالى-: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النـَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنـَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحْيَـَاةُ الدُّنْيـَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُور)[آل عمران: 185].
نعم -عباد الله- يفوز يوم القيامة بالزحزحة عن النار، وبدخول الجنة دار الأبرار.
وليُعلم -عباد الله- أن الجنة لها أمور حفت بها وحُجِبت، والنار كذلك لها أمور حفت بها وحجبت، ولابد في هذه الحياة من مجاهدة للنفس على السلامة مما حفت به النار والوقاية منه؛ لئلا يقع فيه العبد فيدخل النار، وكذلك على الإقبال على ما حُفت به الجنة وحُجبت به ليفوز بدخولها، روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ"، ورواه البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ولفظه: "حُجِبَتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ".
عباد الله: وإذا علم العبد أن للجنة حُجبا، وأن للنار حُجبا؛ فليعلم أن من هتك الحجاب وصل إلى ما وراءه، فمن هتك حُجُبَ النار وصل إليها، والنار محجوبة بالشهوات، ومن اقتحم حُجب الجنة وصل إليها، والجنة حجبت بالمكاره.
والمكاره -عباد الله- التي حجبت بها الجنة هي طاعات الله وفرائضه التي أمر الله بها عباده، وإن شقت على النفوس ووقع في القلوب شيء من الكراهية لها.
والشهوات التي حجبت بها النار عموم المعاصي؛ وإن مالت إليها القلوب وتاقت إلى فعلها.
أيها المؤمنون: ومما يوضح هذا الحديث ويزيده بيانا ما رواه الإمام أحمد في مسنده وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا؛ قَالَ: فَجَاءَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لأَهْلِهَا فِيهَا؛ قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ؛ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِي قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لاَ يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: اذْهَبْ إِلَى النَّارِ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا؛ فَإِذَا هي يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا" أي من شدة أهوالها وعظم نكالها وعذابها "فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا. فَرَجَعَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا"(وهو حديث صحيح ثابت).
عباد الله إن العاقل إذا تأمل في هذا الأمر وأدرك هذه الحقيقة أحسن في إقباله على ربه، وأحسن في مجاهدته لنفسه؛ فإن الطاعة -أيها المؤمنون- والعبادة والبعد عن المعاصي والذنوب قد تكون في أول وهلة مرارة، ولكنها مرارة قليلة تعقبها حلاوة دائمة غير منقطعة، فإن مرارة الدنيا قصيرة وحلاوة الآخرة دائمة غير منقطعة؛ ولأن يصبر العبد على مرارة في الدنيا منقطعة فينال حلاوة الآخرة غير المنقطعة خير له من أن ينشغل في هذه الحياة بحلاوة زائفة ولذة فانية تعقبها حسرة دائمة ومرارة باقية.
عباد الله: على العبد العاقل أن يتأمل في هذا الأمر جيدا، وأن يحقق الجهاد في هذا الباب، وهو في هذا المقام يحتاج إلى نوعين من الصبر: صبر على الطاعات، وصبر عن المعاصي.
يحتاج في هذا المقام إلى صبر على طاعة الله -عز وجل-، ويحافظ على الطاعة التي لا غنى له عن ثوابها، ويتجنب المعصية التي لا صبر له يوم القيامة على عقابها، وإن من الغُبْن العظيم والخسران الكبير ألا يصبر الإنسان على الطاعة في هذه الحياة وأن يقتحم المعصية ثم يبوء يوم القيامة بحسرات دائمة وندم لا يفيد.
عباد الله: الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات وحجبت بذلك، والعاقل يتنبه لهذا الأمر؛ فإذا كانت الطاعات فيها ثقل على النفوس أو في النفوس شيء من الكراهية لها فليصبر، ليصبر على الفرائض، وليصبر على الطاعات وإن ثقلت على النفوس وكان في القلوب شيء من الكراهية لها، وإذا دعته النفس إلى شهوة محرمة ولذة ممنوعة فليمنع نفسه منها؛ لأنه إذا أقحم نفسه في هذه الشهوة وهتك حجابها أوصلته إلى ما وراءها، وإن وراء المعصية النار.
عباد الله: في الدعاء المأثور عن نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ".
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد ن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله: ليعلم كلٌّ منا أن الجنة قريبة من أهلها، وأن النار مثل ذلك، فليس بين صاحب الجنة والجنة إلا أن يموت، وليس بين صاحب النار والنار إلا أن يموت، ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا ولا تدري نفس بأي أرض تموت.
وعجبا -عباد الله- لمن يحتمي من الأطعمة النافعة خوف مضرتها؛ كيف لا يحتمي من الذنوب والمعاصي خوف معرتها يوم يلقى ربه -عز وجل- يوم القيامة؟
قد تلوح للعبد لذة ويبرق برقها فينساق وراءها فيأتيه عقِبها صاعقة الندم وحسرة الألم ولا ينفعه ذلك يوم لقاء الله -عز وجل-؟
ألا -عباد الله- فلنـتقِ الله -عز وجل-، ولنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ولنزن أعمالنا قبل أن توزن؛ فإن الكيس من عباد الله من عمل بطاعة الله -عز وجل-، واستعد لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة.
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد. وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك اللهم من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر: 10].
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].