الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه |
أيها المؤمنون: ما أحوجنا أمة الإسلام إلى القرآن الكريم معرفةً بعظمته، وإدراكًا لمكانته، واهتداءً بهداياته، ولزومًا بما يدعو إليه، ولما فيه صلاح العباد وفلاحهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم، إنه كتاب رب العالمين، وتنزيل العلي الحكيم، أنزله سبحانه هدايةً للعباد، وصلاحًا للناس، يخرجهم به من الظلمات إلى النور. وما أحوجنا إلى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-، وراقبوه جلَّ في علاه في أعمالكم وحركاتكم وسكناتكم مراقبةَ من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه.
أيها المؤمنون: ما أحوجنا أمة الإسلام إلى القرآن الكريم معرفةً بعظمته وإدراكًا لمكانته، واهتداءً بهداياته، ولزومًا بما يدعو إليه، ولما فيه صلاح العباد وفلاحهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم، إنه كتاب رب العالمين، وتنزيل العلي الحكيم، أنزله سبحانه هدايةً للعباد، وصلاحًا للناس، يخرجهم به من الظلمات إلى النور.
وما أحوجنا -عباد الله- إلى معرفة بصفات القرآن العظيمة، ونعوته الجليلة الدالة على عظيم مكانته، ورفعة شأنه؛ لتكون هذه المعرفة عونًا لنا على الإقبال بقلوبنا على القرآن تدبرًا، واهتداءً بهداياته العظيمة.
أيها المؤمنون: وهذه وقفة مع آيتين من سورة المائدة اشتملتا على نعوتٍ عظيمة للقرآن، وصفات جليلة ندرك من خلالها عظمة هذا الكتاب العظيم التي ما أحوجنا إلى أن ندركها حقًا وإيمانًا وإقبالا على هذا الكتاب العظيم، يقول الله -تبارك وتعالى-: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[المائدة: 15-16] جمعت هاتان الآيتان الكريمتان سبع صفات عظيمة للقرآن: الأولى: في قوله جل وعلا: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ) فهو كتاب منزلٌ من رب العالمين، تكلم الله -جل وعلا- به وسمعه منه جبريل، ونزل به جبريل على محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)[الشعراء: 192-194]، ومن نبينا -عليه الصلاة والسلام- سمعه الصحابة الكرام، ومن الصحابة سمعه تابعوهم، ومن التابعين تابعو الأتباع، وهكذا تلقاه الآخِر عن الأول بالأسانيد المضبوطة مصونًا محفوظا مؤيدا بتأييد الله -جل في علاه-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9].
الثانية -عباد الله-: في قوله: (نُورٌ) نور الحق والهدى، نورٌ يهتدى به في الظلمات، يستضيء به السالك وينجو بإضاءته من المهالك، يهتدي به العباد، فلا هداية إلا بنور القرآن، نورٌ يُخرج به العباد من الظلمات إلى النور؛ من الظلمات بأنواعها والشرور بأصنافها لا خروج منها، ولا نجاة من هذه المهالك إلا بنور القرآن.
الثالثة والرابعة: في قوله جل وعلا: (وَكِتَابٌ مُبِينٌ) "كتاب" بمعنى مكتوب، وهو من الكتب وهو الجمع والضم؛ لأنه كتاب جمع العلوم والأخبار والقصص والأحكام على أتم الوجوه وأكملها وأتقنها وأحسنها، و "الكتاب" اسم من أسماء القرآن الكريم.
وقوله جل وعلا: (مُبِينٌ) هذه من صفات القرآن العظمة؛ فهو مبين للحق موضح له مرشدٌ إليه يهدي العباد إلى التي هي أقوم، ويدلهم إلى التي هي أرشد، ففيه بيان مصالح العباد كلها ومنافعهم جميعها في دنياهم وأخراهم.
الخامسة: في قوله جل وعلا: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) فهو كتابٌ فيه هداية العباد إلى سبل السلام، أي طرق الخير ودروبه، وهي شعب الإيمان وخصال الدين المتنوعة العظيمة، فالقرآن يهدي إلى سبل السلام، أي إلى هذه الطرق التي يصل العبد من خلالها إلى السلامة، والنجاة من المهالك في الدنيا والآخرة.
والسادسة -عباد الله-: في قوله جل وعلا: (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) فهو كتابٌ يخرج العباد من الظلمات بأنواعها؛ ظلمات الكفر والبدعة والمعصية والجهل والغفلة إلى نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم، وذكر الله -جل في علاه-، ولا يكون شيء من ذلك إلا بإذن الله -جل وعلا-، قال: (بِإِذْنِهِ) أي بتوفيقه ومنِّه وهدايته وتسديده جل في علاه.
السابعة -عباد الله-: في قوله في تمام هذا السياق: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي سبيلٍ قويمٍ واضحة بينة يصل من خلالها العبد إلى رضوان الله، والفوز بجنات النعيم، (صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي صراط الله وهو دينه الذي رضيه لعباده، ولا يرضى لهم دينًا سواه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأنعام: 153].
نسأل الله -جل وعلا- أن يرزقنا قلوبًا معظمةً للقرآن، مدركةً لمكانة القرآن، معتنيةً بالقرآن، متدبرةً للقرآن، مهتديةً بهدايات القرآن؛ إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله؛ فإن في تقوى الله خلَفًا من كل شيء، وليس من تقوى الله خلَف.
أيها المؤمنون: في قول الله -جل وعلا-: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[المائدة: 16] فيها أن الهادي هو الله -جل في علاه-، وأن سبيل الهداية وسببها عنايةٌ بهذا القرآن العظيم الذي به يهدي الله العباد، وبه يخرجهم من الظلمات إلى النور، فلا بد في هذا المقام من أمرين عظيمين جليلين: الأول: لجوء صادق إلى الله -جل وعلا- بطلب الهداية والتوفيق منه، فإن الهداية بيده وهو الهادي -جل في علاه-، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
والأمر الثاني: الأخذ بأسباب الهداية وسلوك سبيلها، وأعظم ذلك وأساسه: عناية صادقة بهذا القرآن تدبرًا وعملًا واهتداءً بهداياته.
نسأل الله -جل وعلا- أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا، وأن يذكِّرنا منه ما نُسِّينا وأن يعلِّمنا منه ما جهلنا، وأن يرزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيه عنا.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: ٥٦]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعِينا وحافظًا ومؤيِّدا، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك وابع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك وأعنه على طاعتك وسدده في أقواله وأعماله يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفقه وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم إنَّا نسألك الهدى والتقى والعفَّة والغنى.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.