البحث

عبارات مقترحة:

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

الرحيم

كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...

الملك

كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...

فلا تزكوا أنفسكم

العربية

المؤلف إبراهيم بن صالح العجلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - المهلكات
عناصر الخطبة
  1. مفاسد إطراء النفس ومديحها .
  2. نهي القرآن عن مدح النفس.
  3. أحوال مادحي أنفسهم .
  4. صور معاصرة من مدح الإنسان لنفسه وتزكيتها لها .
  5. أقبح صور مدح النفس .
  6. حالات جواز مدح النفس .
  7. هدي السلف في التواضع وهضم النفس. .

اقتباس

خُلُقٌ مرذولٌ مُسْتَبْشَعٌ، وَقَوْلٌ مَشِيْنٌ مُسْتَقْبَحٌ، هُو مَزْلَقٌ خَطِيرٌ، حذَّرَ منه اللطيفُ الخبير، ربَّما استصغرَهُ النَّاسُ، فَنَبَتَ وَتَعاظَمَ بغيرِ إحْسَاسٍ؛ (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [النجم: 32].. كم جرَّت تزكيةُ النفسِ بأَصحابِها إلى النُّكوص على الأعقابِ، والضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ، وكمْ كانت تزكيةُ النَّفسِ قنطرةً للاعتدادِ بالرأي، وعدم التسليم للشرع، فكانت نهاية أهلها قدح في الأحكام، وكراهية لما أنزل رب الأنام.

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ...

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:

خُلُقٌ مَرْذُولٌ مُسْتَبْشَعٌ، وَقَوْلٌ مَشِينٌ مُسْتَقْبَحٌ، هُوَ مَزْلَقٌ خَطِيرٌ، حَذَّرَ مِنْهُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، رُبَّمَا اسْتَصْغَرَهُ النَّاسُ، فَنَبَتَ وَتَعَاظَمَ بِغَيْرِ إِحْسَاسٍ.

(فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [النَّجْمِ: 32]، خِطَابٌ إِلَهِيٌّ صَرِيحٌ، نَاهٍ عَنِ الْإِطْرَاءِ لِلنَّفْسِ وَالْمَدِيحِ، بِالتَّصْرِيحِ كَانَ أَمْ بِالتَّلْمِيحِ، فَنِهَايَةُ دِيبَاجَةِ مَدْحِ النَّفْسِ إِعْجَابٌ وَغُرُورٌ، وَاسْتِعْلَاءٌ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَنُفُورٌ.

كَمْ جَرَتْ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِأَصْحَابِهَا إِلَى النُّكُوصِ عَلَى الْأَعْقَابِ، وَالضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، وَكَمْ كَانَتْ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ قَنْطَرَةً لِلِاعْتِدَادِ بِالرَّأْيِ، وَعَدَمِ التَّسْلِيمِ لِلشَّرْعِ، فَكَانَتْ نِهَايَةُ أَهْلِهَا قَدْحًا فِي الْأَحْكَامِ، وَكَرَاهِيَةً لِمَا أَنْزَلَ رَبُّ الْأَنَامِ.

لَقَدْ قَصَّ عَلَيْنَا رَبُّنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ أَخْبَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، فَاغْتَرُّوا وَبَطَرُوا، وَتَعَالَوْا عَلَى الْخَلْقِ وَمَا شَكَرُوا، وَبَلَغَ مِنْ مَدِيحِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ قَالُوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [الْمَائِدَةِ: 18]، بَلْ تَعَدَّتْ بِهِمْ نَزَغَاتُ الْغُرُورِ وَالتَّعَالِي إِلَى حَصْرِ الْهِدَايَةِ فِيهِمْ: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) [الْبَقَرَةِ: 135]، وَزَعَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ وَجَنَّتَهُ هِيَ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [الْبَقَرَةِ: 111].

وَلِأَجْلِ تَزْكِيَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِعَمَلِهِمْ عَابَهُمُ اللَّهُ وَذَمَّهُمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ كَذِبَهُمْ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا) [النِّسَاءِ: 49 - 50].

أَيُّهَا الْكِرَامُ: مَدَّاحُ نَفْسِهِ لَا يَرَى إِلَّا ذَاتَهُ، وَلَا يَهْتَمُّ إِلَّا بِشَخْصِهِ، تَرَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْبَشَرِ مُصَابًا بِدَاءِ الْعَظَمَةِ، هَائِمًا فِي عَالَمِ النَّرْجِسِيَّةِ، مُسْتَغْرِقًا مَعَ خَيَالَاتِ الطَّاوُوسِيَّةِ.

أَفْكَارُهُ هِيَ الْمُخْتَارَةُ، وَأَقْوَالُهُ هِيَ الْمُقَدَّمَةُ، فَهُوَ الْأَفْهَمُ وَالْأَقْدَرُ، وَهُوَ الْأَحْرَصُ وَالْأَنْقَى.

لِسَانُ حَالِهِ أَنَّهُ صَوَابٌ وَغَيْرُهُ خَطَأٌ، هُوَ مَعْرِفَةٌ وَسِوَاهُ نَكِرَةٌ، هُوَ حَاضِرٌ وَالْبَاقِي غَائِبٌ.

هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَشَرِ إِنْ تَحَدَّثَ فَدَنْدَنَتُهُ حَوْلَ نَفْسِهِ، لَا يَفْتَأُ مِنْ ذِكْرِ مَحَاسِنِهِ وَبُطُولَاتِهِ، وَتَارِيخِهِ وَمُغَامَرَاتِهِ.

هَذَا الْمَدَّاحُ الْمُنْتَفِخُ اللَّمَّاعُ يَرَى نَفْسَهُ هِيَ الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ، لَا تَهُمُّهُ مَصَالِحُ الْآخَرِينَ، لَا يَعْنِيهِ شَأْنُ أُمَّتِهِ، وَلَا يُحْزِنُهُ تَدَهْوُرُ أَوْضَاعِهَا.

هَذَا الْكَائِنُ الْبَشَرِيُّ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ يَتَذَكَّرَ حَقِيقَتَهُ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا؛ وَهُوَ أَنَّهُ بِالْأَمْسِ كَانَ نُطْفَةً قَذِرَةً، وَهُوَ الْيَوْمَ يَحْمِلُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ عَذِرَةً، وَهُوَ غَدًا مَحْمُولٌ إِلَى حُفْرَةٍ.

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: تَزْكِيَةُ النَّفْسِ لَهَا صُوَرٌ وَأَشْكَالٌ، قَدْ تَأْتِي بِلِسَانِ الْمَقَالِ، وَقَدْ تَكُونُ بِلِسَانِ الْحَالِ، قَدْ تَأْتِي فِي سِيَاقِ الْوُضُوحِ وَالصَّرَاحَةِ، وَقَدْ تَجِيءُ فِي صُوَرِ التَّعْرِيضِ وَالتَّلْمِيحِ.

الْحَدِيثُ عَنِ النَّفْسِ فِي سِيَاقِ الْإِطْرَاءِ صُورَةٌ صَرِيحَةٌ.

مُرَاءَاةُ النَّاسِ بِالْأَعْمَالِ صُورَةٌ لِلرِّيَاءِ، وَغَايَتُهَا إِظْهَارُ النَّفْسِ وَإِشْهَارُهَا.

النَّقْدُ اللَّاذِعُ لِلْآخَرِينَ، وَحَشْدُ هَفَوَاتِهِمْ، وَتَقْزِيمُ آرَائِهِمْ، وَاحْتِقَارُ أَفْعَالِهِمْ، هِيَ رَسَائِلُ خَفِيَّةٌ صَامِتَةٌ فِي تَلْمِيعِ الذَّاتِ.

التَّعَصُّبُ لِلرَّأْيِ، وَعَدَمُ الرُّجُوعِ لِلْحَقِّ، خَشْيَةَ التَّعَرُّضِ لِلْقَدْحِ وَالتَّنَقُّصِ، مُؤَشِّرَاتٌ عَلَى الْإِعْجَابِ بِالنَّفْسِ وَحُبِّ تَزْكِيَتِهَا.

وَأَقْبَحُ صُوَرِ مَدْحِ النَّفْسِ أَنْ يَمْدَحَ ذَاتَهُ لِشَيْءٍ لَمْ يَعْمَلْهُ، وَمِنْ صِفَاتِ يَهُودَ فِي الْقُرْآنِ: (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) [آلِ عِمْرَانَ: 188]، فَمَنْ فَعَلَهَا فَقَدْ كَسَا نَفْسَهُ زُورًا وَغُرُورًا؛ "وَالْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ"، قَالَهَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

عِبَادَ اللَّهِ:

وَدَفْعًا لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ نَهَى اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْعِبَادَ أَنْ يَسْتَكْثِرُوا أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ؛ فَمَهْمَا بَلَغَ الْعَبْدُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَاجْتَهَدَ وَتَعَنَّى، فَلَنْ يُوَازِيَ نَصَبُهُ وَمَا عَمِلَ نِعْمَةً وَاحِدَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الْكَرِيمِ الْأَجَلِّ.

وَلِذَا جَاءَ النَّهْيُ عَنِ اسْتِكْثَارِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [الْمُدَّثِّرِ: 6].

وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ بِعْثَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ وَالَّتِي لَمْ تَنْزِلُ فِيهَا التَّشْرِيعَاتُ بَعْدُ.

قَالَ الْحَسَنُ: "لَا تَمْنُنْ بِعَمَلِكَ عَلَى رَبِّكَ تَسْتَكْثِرُهُ".

نَعَمْ... قَدْ يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إِلَى تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ لِحَاجَةٍ، تَتَحَقَّقُ بِهَا مَصْلَحَةٌ، فَيَكُونُ الْمَدْحُ وَسِيلَةً لِغَايَةٍ حَمِيدَةٍ، كَمَنْ يَقُولُ حَقًّا وَيَمُدُّ نَفْسَهُ لِنَفْعِ الْغَيْرِ.

كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يُوسُفَ: 55]، وَكَمَا قَالَ خَيْرُ مَنْ تَوَاضَعَ وَتَزَكَّى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ".

وَقَدْ يَكُونُ الْمَدْحُ دِفَاعًا عَنِ النَّفْسِ وَدَفْعًا لِضَرَرٍ مُتَوَقَّعٍ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ وَحَاصَرَهُ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَقَدَحَ فِيهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَخْلَعَ الْخِلَافَةَ، فَذَكَّرَهُمْ بِمَحَاسِنِ نَفْسِهِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، مِنْ بِشَارَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ بِالْجَنَّةِ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، وَحِينَ حَفَرَ بِئْرَ رُومَةَ.

فَقَدْ يَتَحَدَّثُ الْمَرْءُ عَنْ نَفْسِهِ لِحَاجَةٍ، لَا كِبْرًا وَلَا مُفَاخَرَةً، وَإِنَّمَا مِنْ بَابِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، أَوْ لِلتَّحَدُّثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضُّحَى: 11].

وَالْمِيزَانُ فِي ذَلِكَ مَقْصِدُ الْقَلْبِ، وَمَا يُكِنُّهُ الصَّدْرُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَفِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [الْبَقَرَةِ: 235].

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعْدُ: فَحِينَمَا نُقَلِّبُ سِيَرَ سَلَفِنَا وَصَالِحِي أُمَّتِنَا نَرَى فِي أَخْبَارِهِمْ عَجَبًا، وَفِي سِيَرِهِمْ تَرْبِيَةً وَعِبَرًا، وَمَثَلًا وَدُرَرًا؛ لَقَدْ حَسُنَتْ عَلَاقَتُهُمْ بِرَبِّهِمْ وَعَظُمَتْ، فَعَظُمَ أَدَبُهُمْ، وَظَهَرَ تَوَاضُعُهُمْ، وَبَانَتْ تَقْوَاهُمْ عَلَى جَوَارِحِهِمْ؛ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِأَضْعَافِ هَذَا الْإِطْرَاءِ، كَانَ أَحَدُهُمْ يَبْلُغُ مَنْزِلَةً رَفِيعَةً، وَمَكَانَةً عَالِيَةً فَيَضْطَرِبُ فُؤَادُهُ فَرَقًا أَنْ يَكُونَ هَذَا فِتْنَةً وَاسْتِدْرَاجًا.

هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْ عُمَرَ- يَحْكُمُ أَطْرَافًا مُتَبَاعِدَةً، وَمَفَاوِزَ مُتَنَائِيَةً، فَيَمْلَؤُهَا عَدْلًا وَقِسْطًا، مَا سَلَكَ أَبُو حَفْصٍ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَهُ، وَافَقَهُ الْقُرْآنُ فِي بِضْعَةِ مَوَاضِعَ، بَشَّرَهُ الرَّسُولُ بِالْجَنَّةِ، وَبِقَصْرٍ مُنِيفٍ فِيهَا.

فَمَاذَا كَانَ عُمَرُ يَرَى أَعْمَالَهُ الَّتِي قَدَّمَهَا؟

يُحَدِّثُنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنْ حِوَارٍ دَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ فَيَقُولُ: قَالَ لِي عُمَرُ: "هَلْ يَسُرُّكَ أَنَّ إِسْلَامَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَهِجْرَتَنَا مَعَهُ، وَشَهَادَتَنَا وَعَمَلَنَا، كُلُّهُ يُرَدُّ عَلَيْنَا، لِقَاءَ أَنْ نَنْجُوَ كَفَافًا، لَا لَنَا وَلَا عَلَيْنَا".

فَيُجِيبُهُ أَبُو مُوسَى: "لَا وَاللَّهِ يَا عُمَرُ، فَلَقَدْ جَاهَدْنَا، وَصَلَّيْنَا، وَصُمْنَا، وَعَمِلْنَا خَيْرًا كَثِيرًا، وَإِنَّا لَنَرْجُو ثَوَابَ ذَلِكَ".

فَيَقُولُ عُمَرُ وَدُمُوعُهُ تَتَحَدَّرُ: "أَمَّا أَنَا فَوَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ يُرَدُّ عَلَيَّ، ثُمَّ أَنْجُوا كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ".

وَلَمَّا دَنَا أَجَلُ عُمَرَ وَحَضَرَتْ وَفَاتُهُ قَالَ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: "ضَعْ خَدِّي فِي التُّرَابِ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَ عُمَرَ".

وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- مِنْ أَوْفَرِ النَّاسِ حِلْمًا وَعَقْلًا وَسَخَاءً، قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: صِفْ لَنَا نَفْسَكَ، فَقَالَ: "أَمَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَمَا هَمَمْتُ بِمَلَامَةٍ، وَلَا حُمْتُ عَلَى تُهْمَةٍ، وَلَمْ أُرَ إِلَّا فِي خَيْلٍ مُغِيرَةٍ، أَوْ نَادِي عَشِيرَةٍ، أَوْ حَامِي جَرِيرَةٍ، وَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ؛ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) فَأُعْجِبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ.

وَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، أَوْقَفَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا بِلَيْلِهَا وَنَهَارِهَا فِي خِدْمَةِ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، يَتَمَنَّى فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَمَاذَا يَتَمَنَّى؟! يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ: "لَيْتَنِي أَنْقَلِبُ مِنْهُ -أَيْ: عِلْمِ الْحَدِيثِ- كَفَافًا لَا لِي وَلَا عَلَيَّ".

وَهَذَا الْعَالِمُ الْعَامِلُ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَالصَّبْرِ وَالْوَرَعِ، أَثْنَى عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَعَلَا الْغَمُّ قَسَمَاتِ وَجْهِهِ، فَقَالَ مُحْتَقِرًا نَفْسَهُ: بَلْ جَزَى اللَّهُ الْإِسْلَامَ عَنِّي خَيْرًا، مَنْ أَنَا؟! وَمَا أَنَا؟!

فِي مِحْنَةِ الْقُرْآنِ عَجَّتْ لَهُ مُدُنٌ بِالدُّعَاءِ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مُبَشِّرًا، فَقَالَ: "أَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِدْرَاجًا"، قَالَ عَنْهُ رَفِيقُ حَيَاتِهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: "مَا رَأَيْتُ مِثْلَ أَحْمَدَ، صَحِبْنَاهُ خَمْسِينَ سَنَةً، مَا افْتَخَرَ عَلَيْنَا بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ".

هَذِهِ بَعْضُ سِيَرِ الرِّجَالِ وَرُوَّادِ الْأَجْيَالِ، صَدَقُوا مَعَ رَبِّهِمْ، وَهَضَمُوا حَظَّ أَنْفُسِهِمْ، فَخَلَّدَ اللَّهُ ذِكْرَهُمْ، وَأَبْقَى الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ عَطِرًا تَتَنَاقَلُهُ الْأَجْيَالُ.

وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَمْسَكَ لِسَانَهُ وَاحْتَقَرَ عَمَلَهُ.

وَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ تَبَصَّرَ فِي عُيُوبِهِ، فَسَاءَتْهُ خَطِيئَتُهُ، وَسَعَى حَقَّ السَّعْيِ لِآخِرَتِهِ.

(فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النَّجْمِ: 32].

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...