المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | عدنان مصطفى خطاطبة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
"الوصية"، وهي تشريع رباني عظيم، -وللأسف- أغفله اليوم كثير من الناس، أو جهلوه أو تناسوه، فماتوا وقد خسروا أو فاتهم الخير الكثير، أو لحقتهم الذمم إلى قبورهم. لذلك فلا بد لنا من وقفة شرعية مع أحكام الوصية؛ لأن الوصية تخصّ كل نفس مؤمنة حية..
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أما بعد: يقول الله -سبحانه-: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[الجاثية:18]. يقول السعدي: "أي: ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى عن كل شرّ من أمرنا الشرعي (فَاتَّبِعْهَا) فإن في اتباعها السعادة الأبدية والصلاح والفلاح، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي: الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ولا ماشية خلفه، وهم كل من خالف شريعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هواه وإرادته فإنه من أهواء الذين لا يعلمون".
أيها الإخوة: إن الله -تعالى- قد قرَّر لنا شريعة وأحكامًا فقهية، لا بدّ لكل مؤمن بالله وبلقائه أن يتّبعها، وأن يأخذ بها؛ لأن فيها الخير، كل الخير، له في الدنيا والآخرة.
ومن عظمة شريعة الله، أن الله -تعالى- شرع لنا أحكامًا ننتفع بها بعد موتنا، ويعود علينا خيرها وبركتها ونجاتنا، بعد رحيلنا من هذه الدنيا، ومن هذه التشريعات والأحكام: "الوصية"، وهي تشريع رباني عظيم، -وللأسف- أغفله اليوم كثير من الناس، أو جهلوه أو تناسوه، فماتوا وقد خسروا أو فاتهم الخير الكثير، أو لحقتهم الذمم إلى قبورهم.
لذلك -أيها الإخوة- فلا بد لنا من وقفة شرعية مع أحكام الوصية؛ لأن الوصية تخصّ كل نفس مؤمنة حية تؤمن بالموت، وبالبعث، وبلقاء الله -تعالى-، فنحن أمة مسلمة، ولله الحمد، فلا بد لنا من أن نحيا بالشريعة، وأن نموت على الشريعة، لنبعث على الشريعة، (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام:162].
فما هي الوصية -أيها الإخوة- وما أحكامها وما فوائدها، وما مخالفاتها، واسمحوا لي أن تكون خطبتنا هذه فقهية، نتعلم فيها معًا أحكام الله -تعالى- وشريعته في "الوصية"، فـ"مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"(صحيح البخاري).
الوصية -أيها الإخوة- في الشرع: هي التبرع بالمال بعد الموت، وسمّيت بهذا الاسم؛ لأن الموصي وَصَل ما كان في حياته بما كان بعد مماته.
والوصية من لطف الله ورحمته بعباده إذ جعل لصاحب المال جزءًا من ماله يعود عليه ثوابه وأجره بعد موته، قال -تعالى-: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)[النساء:11]، وقد أجمع العلماء على جوازها.
أيها الإخوة: الوصية التي شرعها الله، وبيّنها لنا رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قسمان: وصية واجبة، ووصية مستحبة.
أما الوصية الواجبة: فهي الوصية التي تجب على مَنْ عليه حق، ليس فيه إثبات أو بينة. ففي صحيح البخاري، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ".
وفي صحيح مسلم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ". جاء في تعليق البغا: ""ما حق" لا ينبغي له وليس من حقه. "شيء يوصي فيه" مال يمكن أن يوصي بجزء منه".
وجاء في شرح محمد فؤاد عبد الباقي: "ما حق امرئ مسلم" قال الشافعي -رحمه الله- معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده؛ فيستحب تعجيلها وأن يكتبها في صحته ويُشْهِد عليه فيها، ويكتب فيها ما يحتاج إليه".
وقال السندي: "قوله: إنه حق، أي: لائق به. أن يبيت: هكذا في نسخ "المسند"، والظاهر أنه من حذف "لا"، ثم هو مبتدأ، خبره "حق". وله ما يوصي فيه: ما ينبغي له أن يوصي فيه من المال وغيره، كالدين والأمانة، ونحوهما. والجملة حال. إلا ووصيتُهُ مكتوبة: هذه الجملةُ حال مستثنى من أعم الأحوال، ولذلك صدرت بالواو".
وقال ابن عمر -رضى الله عنهما-: "ولم أبت ليلة إلا وصيتي مكتوبة عندي".
وقوله في الحديث: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ": أي ليس من الحق والحزم لمن عنده شيء يريد أن يوصي به، أن يهمله حتى تمضي عليه المدة الطويلة، بل عليه أن يبادر إلى كتابته وبيانه، وغاية ما يسمح به من التأخير الليلة والليتين، فإن الإنسان لا يدري ما يعرض له في هذه الحياة.
ولذلك أيها الإخوة: إذا كان لديك أمانات، ودائع لأشخاص آخرين، قلّت أو كثرت، فلا بد أن توثّقها وأن توصي بها، وإذا كان عليك ديون، وللآخرين حقوق في ذمّتك، فوثقها، وأوصي بها، قبل أن يفجأك الموت والرحيل الأبدي.
أيها الإخوة: وأريد هنا، أن أنبّه إلى أمر، وهو أنّ بعض الناس يستدين من آخرين أو في ذمته حقوق، غير موثّقة، وهو لا يخبر عنها أحدًا حتى زوجته، أو أيًّا من أفراد أسرته، فيموت وتبقى في ذمته، إلى يوم القيامة، وقد حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الديون أيّما تحذير. فقد بوّب الترمذي في سننه بابًا بعنوان: "بَابُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ".
وساق فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ". والحديث صحيح. أي نفسه بعد موته، محبوسه ومرهونة، حتى يُقْضَى عنه الدَّيْن الذي في ذِمّته. وفي مسند أحمد بإسناد صحيح، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصُّبْحَ، فَقَالَ: "هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ"، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "إِنَّ صَاحِبَكُمْ مُحْتَبَسٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ".
فاكتب وصيتك، وبيِّن فيها ما عليك من ديون، وبعض النساء عندها أمانات لنساء أخرى قريبات أو جارات أو صديقات، فلا بد أن تُوصِي، وأن تُعْلِم زوجها بذلك حتى لا تبقى دينًا تحتبس به إلى يوم القيامة. فهذه هي أحكام الوصية الواجبة.
أيها الإخوة: أما الوصية المستحبة، والتي أسأل الله -تعالى- أن يمنّ عليَّ وعليكم بها، فهي الوصية التي تكون لمن ترك مالاً، أو عنده مال، ويريد أن يوصي بشيء من ماله في طرق الخير، والصدقات الجارية وأعمال البر، ليصل إليه ثوابها بعد موته، فمن رحمة الشارع بنا، أن أذِنَ للمسلم أن يتبرع بثلث ماله كحد أعلى، لتكثير حسناته، فتنفق في الأعمال الصالحة بعد موته، ولنصغي معا إلى هذا الحديث:
في صحيح البخاري، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: جَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا، قَالَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: "لاَ"، قُلْتُ: فَالشَّطْرُ، قَالَ: "لاَ"، قُلْتُ: الثُّلُثُ، قَالَ: "فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ، فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ"، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ابْنَةٌ.
قال البغا: ""وهو" أي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقيل سعد -رضي الله عنه-. "ابن عفراء" هو سعد بن خولة، ويحتمل أن ابن عفراء لقب له، وقيل غير ذلك. "تدع" تترك. "عالة" فقراء جمع عائل وهو الفقير. "يتكففون" من التكفف وهو بسط الكف للسؤال أو سؤال الناس كفافًا من الطعام. "يرفعك" يطيل عمرك. "فينتفع بك ناس" من المسلمين بالغنائم التي ستغنم مما يفتح الله على يديك من بلاد الشرك. "ويُضر بك آخرون"، وهم الذين سيهلكون على يديك من أهل الباطل والشرك. وهذا معجزة من معجزاته -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث أخبر عنه قبل وقوعه، ووقع كما أخبر به فقد فتح الله -تعالى- على يديه بلاد العراق".
وفي صحيح مسلم، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَنِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: "لَا"، قَالَ: قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: "لَا، الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ، إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي، قَالَ: "إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ، إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ".
جاء في شرح محمد فؤاد عبد الباقي" "أشفيت منه على الموت" أي: قاربته وأشرفت عليه، قاله الهروي. "ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة" أي لا يرثني من الولد وخواص الورثة وإلا فقد كان له عصبة وقيل معناه لا يرثني من أصحاب الفروض. "والثلث كثير" بالمثلثة وبعضها بالموحدة كبير، وكلاهما صحيح، قال القاضي يجوز نصب الثلث الأول ورفعه، أما النصب فعلى الإغراء أو على تقدير فعل، أي أعط الثلث وأما الرفع فعلى أنه فاعل أي يكفيك الثلث أو أنه مبتدأ وحذف خبره أو خبر محذوف المبتدأ.
"إنك إن تذر ورثتك أغنياء" قال القاضي -رحمه الله- روينا قوله إن تذر بفتح الهمزة وكسرها وكلاهما صحيح والمعنى تركك إياهم مستغنين عن الناس خير من أن تذرهم عالة أي فقراء. "يتكففون الناس" أي يسألونهم بمدّ أكفهم إليهم. "حتى اللقمة" بالجر على أن حتى جارة وبالرفع على أن كونها ابتدائية والخبر تجعلها وبالنصب عطفًا على نفقة. "أخلف بعد أصحابي" قال القاضي: معناه أخلف بمكة بعد أصحابي؟ فقاله إما إشفاقًا من موته بمكة لكونه هاجر منها وتركها لله -تعالى- فخشى أن يقدح ذلك في هجرته أو في ثوابه عليها أو خشى بقاءه بمكة بعد انصراف النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الى المدينة وتخلفه عنهم بسبب المرض.
"إنك لن تخلف" المراد بالتخلف طول العمر والبقاء في الحياة بعد جماعات من أصحابه. "ولعلك تخلف حتى ينفع بك أقوام"؛ هذا الحديث من المعجزات فإن سعدًا -رضي الله عنه- عاش حتى فتح العراق وغيره، وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم، وولي العراق فاهتدى على يديه خلائق وتضرر به خلائق بإقامته الحق فيهم من الكفار ونحوهم".
أيها الإخوة: فمن كان عنده مال، ويريد أن يوصي بشيء من ماله، لأوجه الخير والإحسان، فليوصي بالثلث وأقل، ولا يزيد عن الثلث. ليعود عليه نفعه بعد مماته، وأنصح أن يوصي بأن يكون ماله المتبرع به في باب الصدقة الجارية، ليبقى عليه أجرها إلى يوم القيامة.
أيها الإخوة: وكذلك أنصح نفسي وإخواني، ونحن أحياء، أن نجعل لأنفسنا صدقة جارية، وقد لا تكلفك إلا بضعة دنانير، مثلاً: أن تشترى كتابًا أو مصحًفا، تضعها في بيت من بيوت الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
أيها الإخوة: ولا بد من تنبيهات على أخطاء مهلكة يقع فيها بعض المسلمين في الوصية، من ذلك:
أنه لا تجوز الوصية لوارث، فكل مَن يرثك لا يجوز أن تُوصِي له بشيء من مالك بعد موتك. وقد بوّب البخاري في صحيحه بابًا بعنوان: "بَابٌ: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ". وكذلك في سنن الترمذي "بَابُ مَا جَاءَ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ".
وساق فيه الحديث الصحيح، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ: "إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ".
قَالَ يَحْيَى وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: "السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عِنْدَنَا الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ. إِلاَّ أَنْ يُجِيزَ لَهُ ذلِكَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ. وَأَنَّهُ إِنْ أَجَازَ لَهُ بَعْضُهُمْ. وَأَبَى بَعْضٌ. جَازَ لَهُ حَقُّ مَنْ أَجَازَ مِنْهُمْ. وَمَنْ أَبَى، أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ ذلِكَ". ومعنى: "إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت": لأن المنع في الأصل لحق الورثة فإذا أجازوه لم يمتنع".
أيها الإخوة: إن بعض الناس لا يوصي لبعض ورثته، لكن يتحايل على الوصية، ويبحث عن طريق أخرى، ليحابي بعض أولاده على حساب بعض، أو ليحرم بعضهم، أو بعضهن من ورثته، فيبادر إلى تسجيل شيء باسمه، أو يعطيه سرًّا، أو يوصي له بطريقة ملتوية، كبيع صوريّ أو غير ذلك. وهذا من الجَوْر والظلم العظيم. ولذلك في حياتك: اعدل بين أولادك في العطية، وبعد موتك، إياك إن تكون قد أوصيت لبعضهم أو سجلت باسم بعضهم، لتحرم بعضهن، فتلقى الله وهو عليك غضبان.
أيها الإخوة: ومن الأمور التي لا بد من التنبيه إليها: إن الوصية لا تنفذ مباشرة، بعد موت الإنسان، وإنما يكون الترتيب كالآتي: بعد موت الإنسان، أولا: يُكَفّن ويُجَهّز من ماله الخاص. ثم ثانيًا: تُسَدّد الديون التي عليه "حقوق الناس المالية"، وحقوق الله كذلك، كالكفارة والنذور. ثم ثالثًا: تنفيذ وصيه بالعدل. ثم رابعًا: يوزع ما بقي على الورثة.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: "وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَنْفِيذَ مَا يُوصِي بِهِ الْمَيِّتُ يَجِيءُ بَعْدَ الدَّيْنِ وَقَبْل أَخْذِ الْوَرَثَةِ أَنْصِبَاءَهُمْ مِنَ التَّرِكَةِ؛ لِقَوْلِهِ -تعالى-: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)[النساء:11]، وَلاَ يَكُونُ تَنْفِيذُ مَا يُوصَى بِهِ مِنْ أَصْل الْمَال؛ لأنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْفِينِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ قَدْ صَارَ مَصْرُوفًا فِي ضَرُورَاتِهِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا، وَالْبَاقِي هُوَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي ثُلُثِهِ".
أيها الإخوة: ومن الأمور التي لا بد من التنبيه إليها: أن شكل الوصية، كما استحبه العلماء يكون كالآتي: الشهادة، ثم الوصية للأهل بالتقوى، ثم بيان الديون الواجبة، ثم بيان التبرعات المستحبة.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خاصة.