البحث

عبارات مقترحة:

القادر

كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...

القهار

كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...

إرادة الحق

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. إرادة الحق أسمى المقاصد .
  2. تجرد المسلم لطلب الحق.
  3. عقبات في طريق إرادة الحق .
  4. فضائل إرادة الإنسان للحق .
  5. قدوات في طريق إرادة الحق. .

اقتباس

حِينَمَا يَلْتَبِسُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَيَكْثُرُ الضَّبَابُ فِي سَمَاءِ الْمَعْرِفَةِ، وَيَشْتَدُّ عُودُ الْخِدَاعِ الْفِكْرِيِّ، وَتَسْتَحْكِمُ قُرُونُ الشَّرِّ؛ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَرَّدَ لِلْحَقِّ، وَيَبْحَثَ عَنْهُ حَتَّى يَعْتَنِقَهُ وَيَعْمَلَ بِهِ، وَيَصْقُلَ قَلْبَهُ مِنَ...

الخطبة الأولى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا مَعْرَكَةٌ مُحْتَدِمَةٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَتَحْتَ غُبَارِ هَذِهِ الْحَرْبِ الْمُسْتَعِرَةِ أُنَاسٌ غَايَتُهُمْ إِرَادَةُ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَايَتِهِمُ الْمَجِيدَةِ سُيُوفٌ وَرِمَاحٌ وَسِهَامٌ، إِنْ وَجَدَتْ مِنْهُمْ قُوَّةً صُلْبَةً فَسَتَنْكَسِرُ نِصَالُهَا وَيُفَلُّ حَدِيدُهَا، وَسَتَنْتَصِرُ تِلْكَ الْغَايَةُ السَّامِيَةُ، وَإِنْ وَجَدَتْ صُدُورًا لَا تُرُوسَ لَهَا نَفَذَتْ إِلَى الْقُلُوبِ وَذَهَبَتْ تِلْكَ الْإِرَادَةُ الْمُدَّعَاةُ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ إِرَادَةَ الْحَقِّ أَسْمَى الْمَقَاصِدِ، وَغَايَةٌ لَا تَطْلُبُهَا إِلَّا النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ، وَلَا تَرْنُو إِلَيْهَا إِلَّا الْعُقُولُ الرَّاقِيَةُ؛ لِأَنَّهَا تَعْرِفُ مَا فِي الْحَقِّ مِنَ الظَّفَرِ، وَمَا فِي الْبَاطِلِ مِنَ الضَّرَرِ.

وَقَدْ سَمَا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ بِلَالٌ الْحَبَشِيُّ، فِي حِينِ أَبَاهَا أَبُو جَهْلٍ الْقُرَشِيُّ، وَسَمَا إِلَيْهَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ الْأَعْجَمِيُّ يَوْمَ أَعْرَضَ عَنْهَا أَبُو لَهَبٍ الْهَاشِمِيُّ.

وَسَافَرَ إِلَيْهَا أُنَاسٌ مِنْ أَقَاصِي الدُّنْيَا حَتَّى ظَفِرُوا بِهَا، وَفَرَّ مِنْهَا آخَرُونَ وَهِيَ فِي بُيُوتِهِمْ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ!!.

وَسَمَا إِلَيْهَا آبَاءٌ دُونَ أَبْنَاءٍ، وَأَبْنَاءٌ دُونَ آبَاءٍ، وَأَزْوَاجٌ دُونَ زَوْجَاتٍ، وَزَوْجَاتٌ دُونَ أَزْوَاجٍ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[الْأَنْعَامِ: 125].

وَقَالَ الشَّاعِرُ:

لَعَمْرُكَ مَا الْإِنْسَانُ إِلَّا بِدِينِهِ

فَلَا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالًا عَلَى النَّسَبِ

فَقَدْ رَفَعَ الْإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ

وَقَدْ وَضَعَ الشِّرْكُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبِ

عِبَادَ اللَّهِ: هُنَاكَ عَقَبَاتٌ تَحُولُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَإِرَادَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ، وَلَنْ يَتَجَرَّدَ الْإِنْسَانُ لِلْحَقِّ حَتَّى تَنْسَلِخَ عَنْهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرَى نُورَ الْحَقِّ، فَمِنْ ذَلِكَ:

تَقْلِيدُ الْآبَاءِ وَالْكُبَرَاءِ؛ فَكُفَّارُ قُرَيْشٍ مَنَعَ بَعْضَهُمْ عَنْ إِرَادَةِ الْحَقِّ حُبُّهُ عَدَمَ مُخَالَفَةِ آبَائِهِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزُّخْرُفِ: 23].

وَمِنَ الْعَقَبَاتِ فِي طَرِيقِ إِرَادَةِ الْحَقِّ: التَّعَصُّبُ لِجِهَةٍ مُعَظَّمَةٍ، مِنْ شَيْخٍ أَوْ إِمَامٍ أَوْ حِزْبٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ طَائِفَةٍ... أَوَ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْجِهَةُ عَلَى خَطَأٍ أَوْ ضَلَالٍ، وَلَكِنَّ بَعْضَ مُتَّبِعِيهَا لَا يُحِبُّ سُلُوكَ الْحَقِّ؛ كَرَاهِيَةً لِخِلَافِهَا، وَيَصِيرُ حَالُهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ

غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ

وَمِنَ الْعَقَبَاتِ فِي طَرِيقِ إِرَادَةِ الْحَقِّ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، حَتَّى إِنَّهُ لَيَحْمِلُ أَصْحَابَهُ عَلَى جِدَالِ أَهْلِ الْحَقِّ تَمَادِيًا فِي الْبَاطِلِ، قَالَ -تَعَالَى- عَنِ الْمُشْرِكِينَ: (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)[الزُّخْرُفِ: 58]؛ (أَيْ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ -هَذَا الْمَثَلَ- إِلَّا لِأَجْلِ الْجَدَلِ وَالْخِصَامِ وَالْغَلَبَةِ فِي الْقَوْلِ، لَا لِطَلَبِ الْحَقِّ حَتَّى يُذْعِنُوا لَهُ عِنْدَ ظُهُورِهِ"(التَّفْسِيرَ الْوَسِيطَ).

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ)[الْقَصَصِ: 50]؛ قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ".

وَمِنَ الْعَقَبَاتِ فِي طَرِيقِ إِرَادَةِ الْحَقِّ: الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ؛ فَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ قَدْ سَمِعْتُمْ عَنْهُمْ -أَيُّهَا الْفُضَلَاءُ-أَنَّهُمْ حَادُوا عَنِ الْحَقِّ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ؛ طَمَعًا فِي مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ تُرْجَى، أَوْ خَوْفًا عَلَيْهَا مِنْ أَنْ تَذْهَبَ؛ فَقَدْ أَرَادَ بَعْضُ قُرَيْشٍ الِامْتِنَاعَ عَنِ الْإِسْلَامِ خَوْفًا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَأَمَّنَهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[الْقَصَصِ: 57].

وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: "لَتُقْطَعَنَّ عَنَّا الْأَسْوَاقُ، وَلَتَهْلِكَنُّ التِّجَارَةُ، وَلَيَذْهَبَنَّ عَنَّا مَا كُنَّا نُصِيبُ فِيهَا مِنَ الْمَرَافِقِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ)[التَّوْبَةِ: 28]"(تَفْسِيرَ ابْنِ كَثِيرٍ).

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: حِينَمَا يَلْتَبِسُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَيَكْثُرُ الضَّبَابُ فِي سَمَاءِ الْمَعْرِفَةِ، وَيَشْتَدُّ عُودُ الْخِدَاعِ الْفِكْرِيِّ، وَتَسْتَحْكِمُ قُرُونُ الشَّرِّ؛ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَرَّدَ لِلْحَقِّ، وَيَبْحَثَ عَنْهُ حَتَّى يَعْتَنِقَهُ وَيَعْمَلَ بِهِ، وَيَصْقُلَ قَلْبَهُ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ السَّابِقَةِ، وَالْعَقَبَاتِ الْمَانِعَةِ، الَّتِي تَمْنَعُ عَنْهُ قَبُولَ الْحَقِّ وَالتَّسْلِيمَ لَهُ.

وَيَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِسُؤَالِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ وَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؛ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

أَلَا فَلْيَقُمِ الشَّاكُّ وَالَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَحْثِ عَنْهُ بِصِدْقٍ وَسَيَجِدُهُ، يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)[سَبَأٍ: 46]؛ "أَيْ: أَنْ تَقُومُوا لِلْبَحْثِ عَنِ الْحَقِيقَةِ، وَطَلَبِ الْحَقِّ بِكَامِلِ التَّجَرُّدِ وَالْإِخْلَاصِ لِوَجْهِ اللَّهِ"(التَّيْسِيرَ فِي أَحَادِيثِ التَّفْسِيرِ).

وَهَذِهِ الْآيَةُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- دَعْوَةٌ لِنَتَجَرَّدَ لِلْحَقِّ بَعِيدًا عَنِ الرَّوَاسِبِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ الَّتِي تَحْجُبُ صَفَاءَ الْحَقِيقَةِ، وَتُوقِعُ فِي اللَّبْسِ وَالْخَلْطِ فَلَا يَظْهَرُ مَعَهَا صَبَاحُ الْحَقِّ مِنْ لَيْلِ الْبَاطِلِ.

وَلَقَدْ ضَرَبَ الْيَهُودُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ مَثَلَ سَوْءٍ فِي عَدَمِ تَجَرُّدِهِمْ لِلْحَقِّ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ، وَرُؤْيَتِهِمْ بَصَائِرَهُ وَدَلَائِلَهُ، وَغَدَوْا أَصْحَابَ حِيَلٍ لِلتَّنَصُّلِ عَنِ الْحَقِّ وَتَرْكِ مُتَابَعَةِ أَهْلِهِ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 146]، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، قَالَ: "سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى بَنِيهِ: لَئِنْ أَنَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ، لَتُتَابِعُنِّي عَلَى الْإِسْلَامِ"، قَالُوا: فَذَلِكَ لَكَ..."، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ تَحَيَّلُوا لِلْخُرُوجِ مِنْ مَأْزِقِهِمْ، وَأَبَوُا الْإِسْلَامَ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَحَسْبُ مُرِيدِ الْحَقِّ تِلْكَ الْبَشَائِرُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي وَعَدَهُ بِهَا صَاحِبُهَا؛ فَمِنْ ذَلِكَ:

التَّوْفِيقُ لِلْهِدَايَةِ؛ فَمَنْ صَدَقَ اللَّهَ فِي الْبَحْثِ عَنِ الْحَقِّ وَإِرَادَتِهِ بَلَّغَهُ اللَّهُ مُنَاهُ، حَتَّى وَلَوْ طَالَ طَرِيقُهُ، وَلَقِيَ فِيهِ مِنْ صُنُوفِ الْبَلَاءِ مَا لَقِيَ.

وَمِنْ آثَارِ إِرَادَةِ الْحَقِّ: نَيْلُ ثَنَاءِ الْعُقَلَاءِ وَاحْتِرَامِهِمْ؛ فَهُمْ يُعَظِّمُونَ الشَّخْصِيَّةَ الصَّادِقَةَ الَّتِي لَا تَكُونُ إِمَّعَةً وَذَائِبَةً فِي الشَّخْصِيَّاتِ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا تَتَحَرَّى مَا تَعْتَقِدُ وَتَسْلُكُ، فَتَبْحَثُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَسْكُنُهَا الِاطْمِئْنَانُ، وَيَعْمُرُهَا الْإِيقَانُ.

وَمِنْ آثَارِ إِرَادَةِ الْحَقِّ: الْفَوْزُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ اعْتِنَاقَ الْحَقِّ يُورِثُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا سَلَامَةَ الطَّرِيقِ، وَاسْتِقْرَارَ النَّفْسِ، وَالْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، وَيُعْطِيهِ فِي الْآخِرَةِ الظَّفَرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، قَالَ -تَعَالَى-: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الْمُلْكِ: 22].

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى نَلْقَاهُ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ هُنَاكَ قُدْوَاتٍ صَالِحَةً فِي طَرِيقِ إِرَادَةِ الْحَقِّ، تُمَثِّلُ مَصَابِيحَ مُنِيرَةً لِلسَّالِكِينَ، وَنَمَاذِجَ فَذَّةً لِلْمُهْتَدِينَ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ، فَأَخْبِرْنِي، فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ. قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ؟ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ. فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ، قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ؟ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ؛ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ. فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

أَرَأَيْتُمْ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- إِلَى زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو -رَحِمَهُ اللَّهُ-، كَيْفَ أَرَادَ الْحَقَّ فَطَلَبَهُ حَتَّى وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلدِّينِ الْحَقِّ فَاعْتَنَقَهُ.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَالْقُدْوَةُ الثَّانِيَةُ نَمُوذَجٌ فَرِيدٌ، عُرِفَ بِالْبَاحِثِ عَنِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ تَنَقَّلَ عَبْرَ أَزْمَانٍ وَأَمَاكِنَ وَأَشْخَاصٍ حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهَا، هَذَا الْقُدْوَةُ هُوَ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ: سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ أَنَّهُ: "تَدَاوَلَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَبٍّ إِلَى رَبٍّ"؛ أَيْ: مِنْ سَيِّدٍ إِلَى سَيِّدٍ.

وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ: "أَنَّهُ هَرَبَ مِنْ أَبِيهِ لِطَلَبِ الْحَقِّ -وَكَانَ مَجُوسِيًّا- فَلَحِقَ بِرَاهِبٍ، ثُمَّ بِرَاهِبٍ، ثُمَّ بِآخَرَ، وَكَانَ يَصْحَبُ كُلًّا إِلَى وَفَاتِهِ حَتَّى دَلَّهُ الْأَخِيرُ عَلَى ظُهُورِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَصَدَهُ مَعَ بَعْضِ الْأَعْرَابِ، فَغَدَرُوا بِهِ فَبَاعُوهُ فِي وَادِي الْقُرَى لِيَهُودِيٍّ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ يَهُودِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَدِمَ بِهِ الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وَرَأَى عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ أَسْلَمَ".

فَسُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي عَلِمَ صِدْقَ سَلْمَانَ فِي إِرَادَةِ الْحَقِّ حَتَّى أَوْصَلَهُ مِنْ فَارِسَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَبْرَ هَذِهِ الْمَرَاحِلِ وَالْعَقَبَاتِ!

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: تَجَرَّدُوا لِلْحَقِّ، وَاعْمَلُوا بِهِ، وَلَا تَجْعَلُوا عَقَبَةً تَمْنَعُكُمُ الْوُصُولَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ الْمَنْشُودَةِ، وَالنِّهَايَةِ الْمَحْمُودَةِ، وَاعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- أَنَّ إِرَادَتَكُمُ الْحَقَّ، وَحُسْنَ سَبِيلِكُمْ إِلَيْهِ يُوصِلُ إِلَى خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاقْرَؤُوا فِي سِيَرِ الْمُهْتَدِينَ؛ فَفِيهَا مَوْعِظَةٌ لِلسَّالِكِينَ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.