العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | ماجد بلال |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام - |
كان يجدّون في شعبان، ويتهيأون فيه لرمضان، قال سلمة بن كهيل: "كان يقال شهر شعبان شهر القراء". وكان عمرو بن قيس إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرّغ لقراءة القرآن. قال البلخي: "شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أَيَّهَا المُسْلِمُونَ: ها نحن في شَهْرِ الله شَعْبَانَ، وَهُوَ مِنْ أَيَامِ اللهِ التِي نَحْنُ مُتَعَبِدُونَ لِلهِ بِهَا عَلَى الدَّوَامِ، وخاصة كَثْرَةُ الصِّيَامِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخُصُّهُ بِهَا، حَيْثُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ إِلَّا القَلِيْلَ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ).
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"(رَوَاهُ النَّسَائِيَّ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ).
وفي رواية قالت: "ما رأيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان، كان يصومه إلا قليلاً". وفي رواية لأبي داود قالت: "كان أحب الشهور إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان". وهذه أم سلمة -رضي الله عنها- تقول: "ما رأيت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان".
فَالصِّيَامُ فِي هَذِا الشَّهْرِ كَالرَّاتِبَةِ القَبْلِيَّةِ لِرَمَضَانَ، كَمَا أَنَّ صِيَامَ سِتٍّ مِنْ شَوَّالَ كَالرَّاتِبَةِ البَعْدِيَّةِ، وَاَلذِي يَنْبَغِي لِلعَاقِلِ أَنْ يَغْتَنِمَ أَيَّامَهُ وَلَيَالِيَهِ فِي طَاعَةِ الرَّبِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالصَّوْمُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ فِيْهِ نَوْعُ مَشَقَةٍ لِطُوْلِ اليَوْمِ وَحَرَارَةِ اَلجَوِّ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الإِيْمَانِ يَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ اِبْتِغَاءَ الأَجْرِ، وَطَمَعًا فِي النَجَاةِ مِنْ ظَمَأِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فإن الأجر على قدر النصب.
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ بِهِ المَوْتُ قَالَ: "مَرْحَبًا بِالمَوْتِ زَائِراً مُغَيِّبًا، وَحَبِيْبًا جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ، اَللَّهُمَ إِنِّيْ كُنْتُ أَخَافُكَ وَأَنَا اليَوْمَ أَرْجُوكَ، اللَّهُمَ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحِبُ الدُنْيَا وَطُوْلَ البَقَاءِ فِيْهَا لِجَرْيِ الأَنْهَارِ وَلَا لِغَرْسِ الأَشْجَارِ، وَلَكِنْ لِطُولِ ظَمَإِ الهَوَاجِرِ، وَقِيَامِ لَيْلِ الشِتَاءِ، وَمُكَابَدَةِ السَاعَاتِ، وَمُزَاحَمَةِ العُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ".
ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان، شُرِعَ فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القران، ليحصل التأهب لتلقّي رمضان وتتروض النفوس بذلك على طاعة الرحمن.
أرأيتم ذلك الرياضي قبل المباراة يتدرب حتى تحصل له اللياقة البدنية ولا يصاب بإصابة رياضية، فكذلك المؤمن يستعد لموسم المنافسة والسباق إلى الله، فيتدرّب على الصيام والقيام وقراءة القرآن حتى لا يصاب بالإعياء والكسل في رمضان ويفوته الأجر الكبير، بل إذا جاء رمضان كان أشد الناس قوة وصبرًا وتحملاً للعبادة، وفاز بالأجر العظيم.
ولهذه المعاني المتقدمة وغيرها كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكثر من الصيام في هذا الشهر المبارك شهر شعبان، ويغتنم وقت غفلة الناس، وهو مَن؟ هو رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ولذلك فإن السلف كان يجدّون في شعبان، ويتهيأون فيه لرمضان قال سلمة بن كهيل: "كان يقال شهر شعبان شهر القراء". وكان عمرو بن قيس إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرّغ لقراءة القرآن. قال أبو بكر البلخي: "شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع"، وقال أيضًا: "مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان".
من كان عليه قضاء فليبادر بالصيام ولا يؤخر ولنذكّر نساءنا وزوجاتنا بالقضاء ولنعينهن على ذلك، ومن لم يكن يصوم الاثنين والخميس فإنها فرصة له وفرصة لصيام الأيام البيض.
وقد قال بعض العلماء ان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان ينشغل عن صيام البيض طوال السنة بالمغازي فكان يتفرغ لها ويقضيها في شعبان قبل دخول رمضان، روى جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "الصوم جُنَّة يستجنّ بها العبد من النار"(رواه أحمد).
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا".
جميل أن يصوم رب الأسرة مع أهله وأسرته وأولاده وبناته في جوّ إيماني جميل كله طاعة وإيمان، وذلك من التعاون على البر والتقوى، اللهم بلغنا رمضان وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
الخطبة الثانية:
التهيئة لدخول رمضان مشروع أُسري وليس مشروعاً فردياً، فعلينا أن نُهيّأ أنفسنا وأولادنا لاستقبال رمضان.
أرأيتم القنوات والفضائيات كيف يرسلون الدعايات والتشويقات لبرامج رمضان؟!، أرأيتم تجار البضائع والتموينات كيف يعلنون عن العروض والتخفيضات للمواد الغذائية؟!، أرأيتم المطاعم كيف تعلن عن استعدادها التام لتأمين وجبات الإفطار والسحور؟!، أرأيتم استنفاركم في تأمين البيت بأنواع المأكولات والمشروبات؟!، لا إله إلا الله، أرأيتم كيف الاستعداد لرمضان بغير ما فُرِضَ لأجله؟
اسمعوا الحكمة التي من أجلها فرض الله الصيام على المسلمين، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183]، لعلكم تخافون الله لعلكم تجتنبون معاصيه، لعلكم تقتربون من ربكم، لعلكم تخضعون وتتوبون وتتضرعون وتنيبون إلى ربكم وبارئكم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6]، (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشعراء: 214]، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)[الطور: 21 - 28].
حتى نصل إلى هذه النتيجة السعيدة وننعم بها، لا بد لنا من أن نخطو خطوات عملية مع أسرنا وأولادنا، بالاجتماع بهم وإخبارهم أن شهر رمضان ليس شهر طعام وشراب، كما هو المعروف عند كثيرين، بل هو شهر عبادة وقراءة للقرآن ودعاء وتضرع، وأن نشجعهم وأن نصوم معهم أيامًا من شعبان؛ تدريبًا لهم على الصيام.
ينبغي -عباد الله- أن نرشّد أدوات اللهو في البيوت من قنوات وألعاب إلكترونية وجوالات، ونكون قدوات لهم في البيوت، ونضع من الآن الخطط والبرامج ونشعرهم بأهمية هذا الشهر، وأنه أهم أيام السنة، وأنه من استثمره فهو الفائز في الدارين -بإذن الله-، وكل ذلك يكون بالتحفيز بالحب والجوائز والمتابعة من الوالدين.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.