الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - المهلكات - المنجيات |
كم هم أولئك الذين يشتكون ضيق الحال وقلة المال، ثم تراهم صفوفًا يدفعون لأجل كأس قهوة عشرات الريالات. وترى نساءهم في المقاهي والكافيهات تفاخر وتباهي بالشكليات والمظاهر! مؤسف أن تغيب هذه الوسطية عن حياة كثير من الناس؛ فكم هم الذين تورطوا في الإسراف والتبذير، وجنحوا عن الاعتدال والترشيد وضبط مصروفاتهم وكأنهم ينحتون المال من عرض الجبل! كم هم الذين تجاوزوا ما يكفي ويغني إلى ما يلهي ويطغي؟!
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
إذا كان ديننا هو دين الوسطية والاعتدال في التصور والاعتقاد والتفكير والشعور، ودين الوسطية في العبادات والنظرة للدنيا والآخرة، ودين الوسطية في الأحكام والمعاملات والحكم على الآخرين، ودين الوسطية في الأخلاق والسلوك.. فإنه مع ذلك كله دين الوسطية في المباحات وشؤون الحياة؛ فالمسلم لا يُسْرِف في المباحات إلى حدّ الإفراط، ولا يحرم نفسه مما أحل الله له من الطيبات.
إن الاعتدال في الإنفاق والبذل وتعاطي المباحات مطلب شرعي قبل أن يكون فرضًا واقعيًّا تحتّمه ظروف الحياة وتقلبات الاقتصاد وتغير الأحوال، إنها تعليمات ديننا ونصوص قرآننا وسنّة نبينا ففي كتاب الله: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[الإسراء: 26- 27]، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف:31].
وفي سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"، ومن ذلك قول قدوتنا -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسرافٍ ولا مخيلةٍ".
إنها وسطية الإسلام التي تحدّد ضوابط الإنفاق، وترشد إلى الترشيد (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوامًا)[الفرقان:67]، (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)[الإسراء: 29].
هذا هو ديننا ينهانا عن الإسراف والتبذير ويأمرنا بالاقتصاد والتوسط والاعتدال في الأمور كلها حتى مع الجِدَة والغِنَى؛ فليس وجود المال وتيسر الحال مبررًا للتبذير وتجاوز الحدود والكفر بنعمة الله والطغيان وتضييع المال واللعب بالحلال.
مؤسف أن تغيب هذه الوسطية عن حياة كثير من الناس؛ فكم هم الذين تورطوا في الإسراف والتبذير، وجنحوا عن الاعتدال والترشيد وضبط مصروفاتهم وكأنهم ينحتون المال من عرض الجبل! كم هم الذين تجاوزوا ما يكفي ويغني إلى ما يلهي ويطغي؟!
كم هم أولئك الذين يشتكون ضيق الحال وقلة المال، ثم تراهم صفوفًا يدفعون لأجل كأس قهوة عشرات الريالات.. وترى نساءهم في المقاهي والكافيهات تفاخر وتباهي بالشكليات والمظاهر!
كم هم أولئك الذين يتذمرون من الواقع الاقتصادي، لكنهم يسابقون إلى كل لهوٍ محرم ويسترخصون لأجله أموالهم بل ومروءتهم!! كم هم أولئك الذين قتلتهم المظهرية الجوفاء فتحملوا الديون الباهظة ليجاروا الأغنياء، ويحاكوا السفهاء في مراكب أو مساكن أو سفريات أو كماليات، غير مدركين أن الدَّيْن همٌّ بالليل ومذلة بالنهار!
كم هم أولئك الذين غصَّت بهم الأسواق، وامتلأت بهم الشوارع يستقبلون رمضان بالمآكل والمشارب في صور ومظاهر من الإسراف والتبذير يندى لها الجبين!
مُهِمّ -يا مسلمون- أن يسعى الناس للتوفير والاقتصاد، لكن الأجمل أن يكون ذلك منهجًا مستديمًا ومدروسًا، لا أن نوفّر ريالات من قيمة الطحين، وننفق المئات في المقاهي والكماليات، وربما في محرمات وتفاهات نرجع منها بخسارة الدنيا والآخرة.
جميل أن نربّي أنفسنا ونعلم أهلنا فنون الاقتصاد والتوفير وأنه ليس كلما اشتهيتم اشتريتم، بل (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف:31]، والأجمل والأكمل أن يصبح الاعتدال في الإنفاق لنا سلوكًا ومنهجًا لا يحرفه ضغط الواقع ولا استجداء الأطفال ولا المطالب التافهة لبعض النساء، وإنما نمارس سياسة الحزم والعزم ممتثلين أمر الله (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطلاق: 7].
جميل أن نربّي أنفسنا وأهلنا وذرياتنا على فقه الأولويات في الشراء، وألا ننخدع بالعروض ودعايات التافهين وإعلانات اللابسين ثوب الزور والمسمون بالمشاهير فأولئك لن يغنوا عنك شيئًا إن ضاقت بك الحياة.
لنأخذ من يومن لغدنا، ومن رخائنا لشدتنا، ومن غنانا لفقرنا، ولنتذكر أنه ربما جاءت سنوات شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون وتدخرون.
الترشيد والاعتدال في الإنفاق سمة الناجحين، الذين يدركون أنهم مسؤولون أمام الله عن أموالهم من أين اكتسبوها وفيم أنفقوها. الترشيد مطلب شرعي في علاقاتنا الاجتماعية فكم نسرف في مداراة الآخرين بشكل تضيع معه حقوق وتُهدر واجبات، و"إن لله عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه".
الترشيد مطلب في تعاملنا مع التقنية ووسائل التواصل، فمؤلم أن نقضي معظم أوقاتنا في تقليب المواقع ومتابعة المقاطع، وننسى أن الله سائلنا عن عمرنا فيم أفنيناه، وعن شبابنا فيم أبليناه، فماذا نحن قائلون، وبأيّ عذر يعتذر المعتذرون.
ما أجمل الاعتدال في كل الأحوال، وما لزمه عبد إلا عاش سعيدًا ومات حميدًا.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
أما بعد: فإذا كان الترشيد مطلبًا شرعيًا في مشترياتنا ومقتنياتنا فهو مطلب في تعاملنا مع نعم ربنا التي تترى ونتقلب في أفيائها، إن وجود النعم وتوفرها لا يعني التبذير والإسراف في استخدامها؛ فإن ذلك صور من صور كفرانها ومؤذن بزوالها (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)[الملك: 30].
الماء فيه حياة الأبدان (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)[الأنبياء: 30]، وهو أرخص موجود وأعز مفقود، وبسببه قامت حروب ونشأت صراعات بين دول، وإذا كنا ننعم في بلادنا بوصول الماء الزلال إلى بيوتنا دون عناء؛ فلنتذكر أولئك الذين يبحثون عنه بكل صور المعاناة وأشكالها.
إن من شكر الله على هذه النعمة أن نقتصد في استعمالها، ونتجنب الإسراف فيها، ولو كنا على نهرٍ جارٍ، فمؤلم تلك المشاهد من صور إهدار المياه نراها في بيوتنا وشوارعنا ومزارعنا؛ فأين شكر هذه النعمة العظيمة؟!
إننا بحاجة إلى وعي شرعي للحفاظ على المياه ونشر ثقافة شرعية معاصرة لترشيد استهلاكها، وكل مسلم مُطالَب أن يطبّقها هو وأهله بدافعٍ ذاتي مبعثه الشعور بتحمل المسؤولية وتطبيق السُنّة النبوية الشريفة بطريقة عملية، وليس بدافع الخوف من قوانين أو تشريعات أو مخالفات وغرامات فاتباع السُنّة النبوية الشريفة في شؤون الحياة اليومية يُعتبر في حد ذاته هدفاً يصبو إليه كل مسلم، وقد رسم لنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- منهجًا في الاقتصاد والترشيد؛ فقد كان يتوضأ بِمُدٍّ ويغتسل بصاعٍ.
وختامًا يا مسلمون فإذا كنا ندعو إلى الاقتصاد والترشيد في كل أمور دنيانا. وإذا كنا نتنادى للحفاظ على أموالنا وضبط مصاريفنا ومشترياتنا فأجمل منه أن نتنادى لضبط تعاملنا مع آخرتنا، وألا نكون ممن (يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا)[الإنسان: 27].
جميل أن نفعل الأسباب للحذر من الإفلاس المالي، لكن الأجمل أن نتقي أسباب الإفلاس المآلي: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة:18]، والمفلس كما قال -صلى الله عليه وسلم- من "يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يُقْضَى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار"؛ فتخففوا من حقوق العباد، و"من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو ماله فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم".
جميل أن تتداركوا خسارة في أموالكم لكن الأجمل أن ندرك أن الخسارة الحقيقية هي لمن خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ولمن يعبدون الله على حرف، ألا ذلك هو الخسران المبين.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.