الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
قَلِيلٌ هُم أُولَئِكَ الأَفذَاذُ مِنَ البَشَرِ، الَّذِينَ يُبقِي لهمُ التَّارِيخُ سِيرَةً وَذِكرًا، أَو يُعلِي لهم ثَنَاءً وَصِيتًا، أَو يَحفَظُ لهم تَأثِيرَهُم في غَيرِهِم، وَإِذَا كَانَ المُؤَثِّرُونَ في الحَيَاةِ مِنَ الرِّجَالِ قَلِيلِينَ في جِنسِهِمُ البَشرِيِّ، فَإِنَّ النِّسَاءَ اللاَّتي خَلَّدَ التَّارِيخُ أَسمَاءَهُنَّ بِمِدَادٍ مِن نُورٍ، أَو حَفِظَ لهنَّ مَوَاقِفَهُنَّ المُشَرِّفَةَ عَلَى صَحَائِفَ مِن ذَهَبٍ، كُنَّ أَقَلَّ مِنَ الرِّجَالِ بِكَثِيرٍ، حَتى لَيَستَطِيعُ العَادُّ أَن يَعُدَّهُنَّ عَلَى الأَصَابِعِ أَو يَكَادُ ..
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: قَلِيلٌ هُم أُولَئِكَ الأَفذَاذُ مِنَ البَشَرِ، الَّذِينَ يُبقِي لهمُ التَّارِيخُ سِيرَةً وَذِكرًا، أَو يُعلِي لهم ثَنَاءً وَصِيتًا، أَو يَحفَظُ لهم تَأثِيرَهُم في غَيرِهِم، وَإِذَا كَانَ المُؤَثِّرُونَ في الحَيَاةِ مِنَ الرِّجَالِ قَلِيلِينَ في جِنسِهِمُ البَشرِيِّ، فَإِنَّ النِّسَاءَ اللاَّتي خَلَّدَ التَّارِيخُ أَسمَاءَهُنَّ بِمِدَادٍ مِن نُورٍ، أَو حَفِظَ لهنَّ مَوَاقِفَهُنَّ المُشَرِّفَةَ عَلَى صَحَائِفَ مِن ذَهَبٍ، كُنَّ أَقَلَّ مِنَ الرِّجَالِ بِكَثِيرٍ، حَتى لَيَستَطِيعُ العَادُّ أَن يَعُدَّهُنَّ عَلَى الأَصَابِعِ أَو يَكَادُ.
أَلا وَإنَّ مِن أُولَئِكَ النِّسَاءِ العَظِيمَاتِ وَالعَقَائِلِ الشَّرِيفَاتِ، خَدِيجَةَ بِنتَ خُوَيلِدٍ، أُولى زَوجَاتِ النَّبيِّ الكَرِيمِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- وَأُمُّ أَولادِهِ وَبنَاتِهِ وَأَحفَادِهِ، وَأَوَّلُ مَن آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، كَانَت تِلكَ السَّيِّدَةُ الكَرِيمَةُ وَالشَّرِيفَةُ العَفِيفَةُ مِن أَفضَلِ نِسَاءِ أَهلِ الأَرضِ وَالسَّمَاءِ، شَهِدَ لها بِذَلِكَ مَن لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى فَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "خَيرُ نِسَائِهَا مَريمُ بِنتُ عِمرَانَ، وَخَيرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنتُ خُوَيلِدٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "خَيرُ نِسَاءِ العَالمِينَ أَربَعٌ: مَريمُ بِنتُ عِمرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنتُ خُوَيلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنتُ محمَّدٍ، وَآسِيَةُ امرَأَةُ فِرعَونَ". رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
وُلِدَت -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- وَنَشَأَت في بَيتٍ مِن أَعرَقِ بُيُوتِ قُرَيشٍ نَسَبًا وَأَعلاهُم حَسَبًا، فَوَرِثَت عَن أَبَوَيهَا جَمَالَ الخَلْقِ وَحُسنَ الخُلُقِ، في بِيئَةٍ مُلتَزِمَةٍ بِالأَخلاقِ الفَاضِلَةِ، بَعِيدًا عَمَّا كَانَت كَثِيرٌ مِن بُيُوتِ قُرَيشٍ غَارِقَةً فِيهِ مِنَ المَلاهِي وَالشَّهَوَاتِ، وَفي ظِلِّ هَذِهِ العَائِلَةِ الكَرِيمَةِ وَفي بَيتِ غِنىً وَنَعِيمٍ وَثَرَاءٍ، مَعرُوفٍ بِإِطعَامِ الطَّعَامِ وَإِكرَامِ الضَّيفِ وَمُسَاعَدَةِ الفَقِيرِ وَقَضَاءِ حَاجَةِ المُحتَاجِ، عَاشَت -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- حَيَاةَ أَبنَاءِ العَوَائِلِ الشَّرِيفَةِ الكَبِيرَةِ، فَشَبَّت مُنَعَّمَةً مُترَفَةً، غَيرَ أَنَّهَا لم تَتَأَثَّرْ في خُلُقِهَا بِكُلِّ ذَلِكَ، فَبَقِيَت عَلَى أَفضَلِ مَا تَكُونُ عَلَيهِ الشَّرِيفَاتُ مِن رَجَاحَةِ العَقلِ وَرَزَانَةِ الفِكرِ وَنَزَاهَةِ السِّيرَةِ، حَتى أُطلِقَ عَلَيهَا بَينَ قَومِهَا لَقَبَ الطَّاهِرَةِ، وَحَتى عُرِفَت بِسَيِّدَةِ نِسَاءِ قُرَيشٍ، وَحَتى كَانَت نِسَاءُ مَكَّةَ إِذَا خَرَجنَ مَعَهَا إِلى البَيتِ العَتِيقِ، خَرَجنَ وَطُفنَ مُتَسَتِّرَاتٍ مُحتَشِمَاتٍ، لا تَجرُؤُ وَاحِدَةٌ مِنهُنَّ عَلَى إِطلاقِ لِسَانِهَا في لَغوٍ أَو أَن تَتَكَلَّمَ بِغَيرِ الجِدِّ وَالحَقِّ.
تَزَوَّجَت -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- في الجَاهِلِيَّةِ مَرَّتَينِ، وَمَاتَ زَوجُهَا الثَّاني وَهِيَ في مُقتَبَلِ العُمُرِ وَزَهرَةِ الشَّبَابِ، فَاتَّجَهَت إِلى التِّجَارَةِ بِالبَيعِ وَالشِّرَاءِ، وَاضطُّرَّت إِلى إِدَارَةِ أَموَالِهَا بِنَفسِهَا، وَبِقَلبٍ كَبِيرٍ مُنفَتِحٍ لِلمِسكِينِ وَالمُحتَاجِ وَالفَقِيرِ، وَبِآمَالٍ عَرِيضَةٍ تَمُدُّهَا رُوحٌ طَيِّبَةٌ، وَيُبَارِكُهَا صِدقٌ وَنَزَاهَةٌ وَأَمَانَةٌ.
استَطَاعَت تِلكَ السَّيِّدَةُ الشَّرِيفَةُ أَن تَسبِقَ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ، فَبَارَكَ اللهُ في مَالِهَا، وَزَكَت تِجَارَتُهَا، وَذَاعَ صِيتُهَا، وَغَدَت مِن أَكبَرِ تُجَّارِ مَكَّةَ، غَيرَ أَنَّ تِلكَ التِّجَارَةَ الرَّابِحَةَ وَالمَالَ المُبَارَكَ، لم يُؤَثِّرْ في ذَلِكُمُ القَلبِ الصَّافي، وَلم يُعَكِّرْ صَفاءَ تِلكَ النَّفسِ الزَّكِيَّةِ، وَمَا كَانَ لِيُمِيتَ ذَلِكُمُ الضَّمِيرَ الحَيَّ، فَمَا زَالَت تَبحَثُ عَنِ الزَّوجِ المُوَافِقِ لِمَا هِيَ عَلَيهِ مِن خُلُقٍ كَرِيمٍ، فَكَانَ أَن تَزَوَّجَت بِخَيرِ البَشَرِ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، حَيثُ عَرَفَتهُ مِن خِلالِ مُتَاجَرَتِهِ بِأَموَالِهَا بِالأَمَانَةِ وَالصِّدقِ وَكُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، فَكَانَ ذَلِكُمُ الزَّوَاجُ المُبَارَكُ بَينَ رُوحَينِ تَوَافَقَتَا عَلَى الخَيرِ، وَكَانَ الأَولادُ وَوُلِدَتِ البَنَاتُ.
وبُعِثَ الحَبِيبُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- فَكَانَت تِلكُمُ المُبَارَكَةُ أَوَّلَ المُؤمِنِينَ بِهِ، وَعَمِلَت جُهدَهَا عَلَى تَثبِيتِهِ وَتَقوِيَةِ عَزمِهِ، فَحَفِظَ التَّارِيخُ لَنَا ممَّا يَدُلُّ عَلَى رَجَاحَةِ عَقلِهَا وَنَبَاهَتِهَا وَسَبرِهَا غَورَ الأُمُورِ، تِلكَ الكَلِمَاتِ الخَالِدَةَ، الَّتي يَعجِزُ عَن قَولِهَا كَثِيرٌ مِنَ العُقَلاءِ إِلاَّ مَن أُوتيَ فِقهًا وَسَعَةَ عِلمٍ وَفَهمًا لِسُنَنِ اللهِ في خَلقِهِ، فَقَد رَوَى البُخَارِيُّ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهَا -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- بَعدَ نُزُولِ الوَحيِ يَقُولُ: "زَمِّلُوني زَمِّلُوني"، وَقَالَ لها: "لَقَد خَشِيتُ عَلَى نَفسِي"، قَالَت لَهُ بِلِسَانِ عَارِفٍ مُحَقِّقٍ: كَلاَّ وَاللهِ لا يُخزِيكَ اللهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحمِلُ الكَلَّ، وَتَكسِبُ المَعدُومَ، وَتَقرِي الضَّيفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ.
وَتَظَلُّ تِلكَ المُبَارَكَةُ تُخَفِّفُ عَلَى الحَبِيبِ مَا يَسمَعُهُ مِن رَدِّ الكُفَّارِ عَلَيهِ، وَتُهَوِّنُ عَلَيهِ تَكذِيبَهُم لَهُ وَعِنَادَهُم إِيَّاهُ، فَيُفَرِّجُ اللهُ عَنهُ بها شَيئًا كَثِيرًا، وَيُذهِبُ عَن قَلبِهِ بِبَرَكَتِهَا عَامَّةَ مَا يَجِدُهُ، حَتى إِذَا كَانَت سَنَةُ ثَمَانٍ مِنَ البِعثَةِ، اختَارَ اللهُ هَذِهِ السَّيَّدَةَ المَصُونَةَ إِلَيهِ، فَفَارَقَتِ الحَبِيبَ إِلى مَا بَشَّرَهَا بِهِ؛ حَيثُ قَالَ فِيمَا رَوَاهُ مُسلِمٌ: "أَتَاني جِبرِيلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: هَذِهِ خَدِيجَةُ قَد أَتَتكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَو طَعَامٌ أَو شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ قَد أَتَتكَ فَاقرَأْ عَلَيهَا السَّلامَ مِن رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ".
وَيَحزَنُ الحَبِيبُ عَلَى وَفَاةِ زَوجِهِ الكَرِيمَةِ، وَيَحمِلُ مِنَ الهَمِّ أَعظَمَهُ، فَيَظَلُّ وَفِيًّا لِتِلكَ الطَّاهِرَةِ طُولَ حَيَاتِهِ، وَيَبقَى مُحسِنًا رِعَايَةَ عَهدِهَا لا يَنسَاهَا وَلا يَمَلُّ مِن تَكرَارِ ذِكرِهَا، حَتى تَبلُغَ شِدَّةُ وَفَائِهِ لها وَكَثرَةُ ذِكرِهِ سِيرَتَهَا العَطِرَةَ مَبلَغًا عَظِيمًا، تَتَحَرَّكُ لَهُ غَيرَةُ الصِّدِّيقَةِ بِنتِ الصِّدِّيقِ وَهِيَ الَّتي لم تَرَهَا، فَفِي الصَّحِيحَينِ عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: مَا غِرتُ عَلَى أَحَدٍ مِن نِسَاءِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مَا غِرتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ يُكثِرُ ذِكرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثم يُقَطِّعُهَا أَعضَاءً ثم يَبعَثُهَا في صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَيَقُولُ: "إِنَّهَا كَانَت وَكَانَت وَكَانَت، وَكَان لي مِنهَا وَلَدٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَفي رِوَايَةٍ لِمُسلِمٍ عَنهَا قَالَت: مَا غِرتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ عَلَى خَدِيجَةَ، وَإِني لم أُدرِكْهَا. قَالَت: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ يَقُولُ: "أَرسِلُوا بها إِلى أَصدِقَاءِ خَدِيجَةَ"، قَالَت: فَأَغضَبتُهُ يَومًا فَقُلتُ: خَدِيجَةُ؟! فَقَالَ: "إِني رُزِقتُ حُبَّهَا".
وَفي البُخَارِيِّ عَنهَا -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: مَا غِرْتُ عَلَى امرَأَةٍ مَا غِرتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَلَقَد هَلَكَت قَبلَ أَن يَتَزَوَّجَني بِثَلاثِ سِنِينَ لِمَا كُنتُ أَسمَعُهُ يَذكُرُهَا، وَلَقَد أَمَرَهُ رَبُّهُ أَن يُبَشِّرَهَا بِبَيتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لَيَذبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهدِي في خُلَّتِهَا مِنهَا.
وَعَنهَا -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: جَاءَت عَجُوزٌ إِلى النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ عِندِي، فَقَالَ لها رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "مَن أَنتِ؟!"، قَالَت: أَنَا جَثَّامَةُ المُزَنِيَّةُ. فَقَالَ: "بَل أَنتِ حَسَّانَةُ المُزَنِيَّةُ، كَيفَ أَنتُم؟! كَيفَ حَالُكُم؟! كَيفَ كُنتُم بَعدَنَا؟!"، قَالَت: بِخَيرٍ بِأَبي أَنتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ. فَلَمَّا خَرَجَت؛ قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: تُقبِلُ عَلَى هَذِهِ العَجُوزِ هَذَا الإِقبَالَ؟! فَقَالَ: "إِنَّهَا كَانَت تَأتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسنَ العَهدِ مِنَ الإِيمَانِ". رَوَاهُ الحَاكِمُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
تِلكُم -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- لَمحَةٌ مُوجَزَةٌ عَن حَيَاةِ سَيِّدَةٍ مِن سَيِّدَاتِ نِسَاءِ العَالمِينَ، خَدِيجَةُ بِنتُ خُوَيلَدٍ، أُمُّ القَاسِمِ وَعبدِ اللهِ وَزَينَبَ وَرُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلثُومٍ وَفَاطِمَةَ أَبنَاءِ رَسُولِ اللهِ، فَرَضِيَ اللهُ عَنهَا وَأَرضَاهَا، وَرَضِيَ عَن جَمِيعِ أُمَّهَاتِ المُؤمِنِينَ، وَجَمَعَنَا بهم وَنَبِيِّنَا في عِلِّيِّينَ، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، ذَلِكَ الفَضلُ مِنَ اللهِ، وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا. وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ لي وَلَكُم وَلجمِيعِ المُسلِمِينَ مِن كُلِّ ذَنبٍ.
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى، وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ: (وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ) [النور: 52].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَد نَقَلَ التَّارِيخُ فِيمَا نَقَلَ مِن سِيرَةِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- كَثرَةَ الرَّاغِبِينَ في الاقتِرَانِ بها، وَالطَّامِعِينَ في القُربِ مِنهَا؛ لِثَرَائِهَا وَكَثرَةِ مَالِهَا، غَيرَ أَنَّ تِلكَ العَفِيفَةَ الشَّرِيفَةَ الطَّاهِرَةَ لم تَرضَ أَن تَضَعَ عَينَيهَا عَلَى أَيٍّ مِن أُولَئِكَ السَّادَاتِ مِن قُرَيشٍ، وَلم تَحمِلْهَا تِجَارَتُهَا عَلَى أَن تَشتَرِكَ مَعَهُم في أُمُورٍ تَتَّصِلُ بِتِلكَ التِّجَارَةِ مُبَاشَرَةً، وَلم تَتَّخِذْ مِنَ التِّجَارَةِ ذَرِيعَةً لِلاتِّصَالِ بهم أَو سَبَبًا لِتَقوِيَةِ الرَّوَابِطِ بَينَهَا وَبَينَهُم، لا في مَكَّةَ وَلا في غَيرِ مَكَّةَ، نَعَم، لم يَنقُلِ التَّارِيخُ أَنَّهَا اتَّصَلَت بِالتُّجَّارِ أَوِ اشتَرَكَت مَعَهُم في اجتِمَاعٍ خَاصٍّ أَو عَامٍّ، أَو أَنَّهَا سَارَت في رِكَابِهِم مُشَرِّقَةً أَو مُغَرِّبَةً أَو ذَاهِبَةً أَو آيِبَةً، أَو أَنَّها ذَهَبَت بِتِجَارَتِهَا إِلى الأَسوَاقِ في الدَّاخِلِ أَوِ الخَارِجِ، لا وَاللهِ وَكَلاَّ، بَل لَقَد كَانَت تُنِيبُ عَنهَا في ذَلِكَ الرِّجَالَ مِن خَدَمِهَا وَعَبِيدِهَا، أَو مِن رِجَالِ قُرَيشٍ الآخَرِينَ، وَالَّذِينَ كَانَ عَلَى رَأسِهِم مَولاهَا المُخلِصُ مَيسَرَةُ، وَالصَّادِقُ الأَمِينُ محمَّدٌ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-.
هَكَذَا كَانَت -عَلَيهَا مِنَ اللهِ الرَّحمَةُ وَالرِّضوَانُ-، فَحِينَ تَأتي شَرَاذِمُ ممَّن رَضُوا بِأَن يَجعَلُوا ظُهُورَهُم جُسُورًا لِمُرُورِ مَشرُوعَاتِ تَغرِيبِ المَرأَةِ في هَذِهِ البِلادِ، فَيُنَظِّمُوا مُؤتَمَرًا بِاسمِ هَذِهِ الطَّاهِرَةِ العَفِيفَةِ الشَّرِيفَةِ، ثم لا تَرَى في ذَلِكَ المُؤتَمَرِ إِلاَّ اختِلاطَ الرِّجَالَ بِالنِّسَاءِ، وَكَشفَ النِّسَاءِ وُجُوهَهُنَّ وَرُؤُوسَهُنَّ بَل وَسِيقَانَهُنَّ، وَالدَّعوَةَ الصَّرِيحَةَ لِتَمَرُّدِ النِّسَاءِ عَلَى أَزوَاجِهِنَّ وَأَولِيَائِهِنَّ، وَدَفعَهُنَّ لِلمُطَالَبَةِ بِالخُرُوجِ مِن مَنَازِلِهِنَّ وَالبَحثِ عَن عَمَلٍ بَينَ الرِّجَالِ في بِيئَاتٍ مُختَلِطَةٍ، أَقُولُ حِينَ يَحصُلُ كُلُّ ذَلِكَ، فَقَد ظُلِمَت هَذِهِ الكَرِيمَةُ العَظِيمَةُ، وَأُسِيءَ إِلى تِلكُمُ الشَّرِيفَةِ العَفِيفَةِ، بَل وَاعتُدِيَ مِن وَرَاءِ ذَلِكَ عَلَى زَوجِهَا الحَبِيبِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- الَّذِي جَاءَ مِن عِندِ رَبِّهِ بِأَمرِ النِّسَاءِ بِالقَرَارِ في بُيُوتِهِنَّ وَحِفظِ أَعرَاضِهِنَّ وَعَدَمِ خُضُوعِهِنَّ بِالقَولِ، فَلْنَتَّقِ اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَلْنَنتَبِهْ لِمَا يُرَادُ بِنَا في هَذِهِ البِلادِ، فَإِنَّ الخِطَطَ المَاكِرَةَ عَادَت وَاضِحَةً لِكُلِّ ذِي عَقلٍ وَلُبٍّ.
وَإِنَّهُ حِينَ يُفتي الرَّاسِخُونَ في العِلمِ بِعَدَمِ جَوَازِ عَمَلِ المَرأَةِ مُختَلِطَةً بِالرِّجَالِ، فَلا حَاجَةَ بِنَا بَعدُ إِلى مَؤتَمَرَاتٍ يُشَارِكُ فِيهَا مَن لم يُعرَفْ بِعلمٍ وَلا اجتِهَادٍ، وَيُدعَى إِلَيهَا أَشخَاصٌ يَجلِسُونَ إِلى النِّسَاءِ جَنبًا لِجَنبٍ وَهُنَّ كَاشِفَاتٌ وُجُوهَهُنَّ وَنَحُورَهُنَّ بَل وَسِيقَانَهُنَّ.
وَإِنَّنَا لَعَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ لَن يَأتيَ خَيرٌ وَلا فَلاحٌ ولا صَلاحٌ مِن مُؤتَمَرَاتِ كَهَذِهِ المُؤتَمَرَاتِ بَلِ المُؤَامَرَاتِ، نَعَم، لَن يَأتيَ خَيرٌ مِن محفَلٍ تَختَلِطُ المَرأَةُ فِيهِ بِالرَّجُلِ، وتُجلَبُ فِيهِ المُغَنِّيَاتُ، وَيُحتَفَي فِيهِ بِالكَافِرَاتِ، وَتُتَّهَمُ فِيهِ الصَّحَابِيَاتُ بِالتَّقصِيرِ وَعَدَمِ المُطَالَبَةِ بِالحُقُوقِ، وَيُقَالُ فِيهِ عَلَى اللهِ بِغَيرِ عِلمٍ، وَتُنسَبُ فِيهِ أَحكَامُ الشَّرِيعَةِ لِلتَّقَالِيدِ، وَيُسخَرُ فِيهِ مِنَ المَحرَمِ، وَتُوصَفُ فِيهِ القِوَامَةُ بِأَنَّهَا تَدَخُّلٌ في الحُرِّيَّةِ، وَتَكرِيسٌ لِسُلطَةِ الرَّجُلِ أَو نَحوِ ذَلِكَ، وَتَبلُغُ الوَقَاحَةُ بِأَحَدِ كُبَرَاءِ المُشَارِكِينَ إِلى أَن يُعلِنَ بِجُرأَةٍ سَافِرَةٍ أَنَّ العَمَلَ عَلَى تَوظِيفِ المَرأةِ لَن يَقِفَ إِلاَّ عِندَ حَدِّ التِحَامِ أَجسَادِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ.
وأَمَّا حِينَ يَحصُلُ كُلُّ ذَلِكَ بِاسمِ أُمِّ المُؤمِنِينَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- وَيُدَّعَى أَنَّهَا كَانَت سَيِّدَةَ أَعمَالٍ مُتَحَرِّرَةً تُمَارِسُ التِّجَارَةَ، وَتَغشَى مَحَافِلَ الرِّجَالَ وَتَختَلِطُ بهم في الأَسوَاقِ، فَلا وَأَلفُ لا، وَمَا أَحَقَّنَا حَينَئِذٍ أَن نُبَرِّئَهَا مِن كُلِّ هَذَا الكَذِبِ وَالزُّورِ، الَّذِي مَا هُوَ إِلاَّ تَدنِيسٌ لِعِرضِهَا وَتَعَرُّضٌ لِكَرَامَتِهَا وَإِنزَالٌ لَهَا عَن مَكَانَتِهَا، وَإِيذَاءٌ لِلحَبِيبِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- وَلا خَيرَ فِينَا إِذَا نَحنُ لم نَفعَلْ ذَلِكَ، لا خَيرَ فِينَا إِذَا أُوذِيَ نَبِيُّنَا بِابتِذَالِ عِرضِهِ ثم سَكَتْنَا: (وَالَّذِينَ يُؤذُونَ رَسُولَ اللهِ لهم عَذَابٌ أَلِيمُ) [التوبة: 61].
وإِنَّ مِثلَ هَذِهِ المُؤتَمَرَاتِ وَاللِّقَاءَاتِ المَشبُوهَةِ، وَإِن رَأَسَهَا مَن رَأَسَهَا، أَو شَارَكَ فِيهَا مَن شَارَكَ، أَو دَعَمَهَا مَن دَعَمَهَا مِن أُمَرَاءَ أَو وُزَرَاءَ أَو كُبَرَاءَ، أَو استُضِيفَ فِيهَا بَعضُ مَن زِيُّهُم زِيُّ العُلَمَاءِ، إِنَّهَا لَحَربٌ عَلَى الفَضِيلَةِ وَتَأصِيلٌ لِلرَّذِيلَةِ، وَأَمَّا مَا يُرَدَّدُ فِيهَا مِن شِعَارَاتِ، كَالحُرِّيَّةِ وَالمُسَاوَاةِ وَالعَدلِ، وَالتَّنمِيَةِ وَالمُشَارَكَةِ، وَغَيرِهَا مِنَ الشِّعَارَاتِ البَرَّاقَةِ الخَدَّاعَةِ، فَإِنَّمَا هِيَ في حَقِيقَتِهَا مُنَاقَضَةٌ سَافِرَةٌ لِكَثِيرٍ مِن تَشرِيعَاتِ الإِسلامِ وَمُبَادِئِهِ، مُصَادَمَةٌ لِقِيَمِ المُجتَمَعِ وَعَادَاتِهِ وَأَخلاقِ أَهلِهِ، وَأَيُّ حُرِّيَّةٍ تِلكَ الَّتي تُخرِجُ المَرأَةَ مِن عِصمَةِ الرَّجُلِ لِتُسَافِرَ وَحدَهَا، وَتَخلُوَ بِمَن أَرَادَت بِلا مَحرَمٍ. وَوَاللهِ لَو كَانُوا صَادِقِينَ في مُنَاقَشَةِ قَضَايَا المُجتَمَعِ وَمُشَارَكَةِ المَرأَةِ هُمُومَهَا، لَمَا طَالَبُوا بِإِخرَاجِهَا مِن بَيتِهَا وَتَعرِيضِهَا لِمُخَالَفَةِ أَوَامِرِ رَبِّهَا، وَكَيفَ يَحِقُّ لهم أَن يَزعُمُوا أَنهم حَرِيصُونَ عَلَى المَرأَةِ وَهُم أَنفُسُهُم مَن يُبَارِكُ أَعمَالَ الفَنِّ وَيَدعَمُ قَنَوَاتِ العُهرِ؟! أَلا سَاءَ مَا يَحكُمُونَ. أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَلْنَنتَبِهْ لما يُرَادُ بِنَا، فَإِنَّ السَّعِيدَ مَن وُعِظَ بِغَيرِهِ.