الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | د عبدالعزيز بن حمود التويجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - الحكمة وتعليل أفعال الله |
إن أهل الأرض قد أصابهم من ضرره, وغشاهم من دخانه, فما ذنب الأسوياء؟! وما جريمة المتنزهين من هذا القذر؛ أن تنفث سمومه في وجوههم، أو تلوث طرقاتهم بأبخرتهم، أو تصبغ أثاثهم بنتنه؟؛ بل ما جرم الأطفال والنساء في البيوت والطرقات والمتنزهات أن...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أحمده -سبحانه- وأشكره, أعطى الجزيل ومنح الوفير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, تنزه عن الشبيه والنظير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومَنْ تبعهم بإحسان, وسلم التسليم الكثير.
أما بعد: السعادة لمن تدبر، والسلامة لمن تفكر، والفوز لمن اعتبر وتبصر: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران: 30].
شريعة الإسلام كاملة بأحكامها, متناسقة في تشريعاتها، عالية في أخلاقياتها, لا خير إلا في ثنايا مطلوباتها ومباحاتها, ولا شر ولا ضر إلا في نواهيها وممنوعاتها؛ (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)[المائدة: 4].
ومن أخص أوصاف نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأظهر نعوته: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)[الأعراف: 157].
لقد ابتليت البشرية ببلوى جلبتها لأنفسها, وأنفقت عليها كرائم أموالها, الغني أسير إذا ولج بابه، والفقير سخيه عليه, ليس في الوجود عامل هدم لصحة الأبناء والبنات، ولكفاءاتهم وأخلاقهم مثل هذا البلاء؛ بل لا نظن أن الجنس البشري منذ بدء الخليقة ضعف واستكان أمام عدو من أعدائه؛ كما فعل أمام هذه البلية، لقد أسرته وأذلته وحطمته؛ بل لقد قتلته وأهلكته!.
إنها المدمر لصحة الأفراد، وسلامة الأطفال، وشقاء الأسر، ومصالح المجتمع، وسعادة الأمم، واقتصاد الدول, السفاح القاتل, مهلك الحرث والنسل!؛ ذلكم هو آفة التدخين، وبلاء التبغ والدخان, أجارنا الله وإياكم وأحبابنا وذرياتنا من وبائه وبلائه.
التدخين مغبن غرار، وعدو مكار، عدو الإنسانية، وعامل هدمها وكيانها، الدخان أشد الأوبئة انتشارًا، وأكثرها خطرًا، وأعظمها بلاءً وضررًا!.
لا يستريب عاقل -مدخن وغير مدخن- أن الدخان خبيث لا طيب فيه، مضرٌّ لا نفع فيه، ممرضٌ لا صحة فيه، خسارةٌ لا كسب فيه، ليس بغذاء ولا دواء، لا يسمن ولا يغني من جوع، لا يجني المدخن المسكين سوى هذه الأبخرة المتصاعدة يدخلها في جوفه؛ لتسري في جميع أجزاء جسمه، ويبقى آخرها رمادًا بين أصابعه؛ لتفسد ولا تصلح، وتهدم ولا تبني.
التدخين مرض وهلاك، وضياع مال، وتحطيم أسر؛ بل ضياع أمم, يفسد ولا يصلح، يهدم ولا يبني.
هذه وربكم ليست مبالغات ولا مزايدات؛ بل هو مفتاح المخدرات, وسوء الأخلاق, والميل إلى الكذب والنفاق والسرقة.
يدمر اقتصاد الفرد والأسرة, ويأتي على ما بقي من مال الشخص, إن لم يكن أخذ أساسه, وأبقى للأسرة والحياة فتاته.
هذا بلاء يُمطر الشرَّ منذراً | وهذا وباءٌ يَجرف الشَعب غاشِيا |
إن من المضحك المبكي أن استهلاك الدخان يزيد في الفجوة بين الأغنياء والفقراء؛ فكثير ممن أبلوا انفسهم فيه محرومون من الضروريات الأساسية, حتى إن الإنفاق السنوي على التدخين يمثل ستة أضعاف المُنفَق على الصحة، وضعف المنفق على التعليم!، وكفى بالمرء والدولة إثمًا أن يضيعوا من يقودون.
لا يبالغ إن قيل: إن أهل الأرض قد أصابهم من ضرره, وغشاهم من دخانه, فما ذنب الأسوياء؟! وما جريمة المتنزهين من هذا القذر؛ أن تنفث سمومه في وجوههم، أو تلوث طرقاتهم بأبخرتهم، أو تصبغ أثاثهم بنتنه؟؛ بل ما جرم الأطفال والنساء في البيوت والطرقات والمتنزهات أن تستمرأ أعينهم من منظره، أو يعايش نتنه جوارحهم حتى تألفه نفوسهم؟.
كيف نشأ هذا الوباء العفن واستقته مجتمعات تدعي الرقي والحضارة, واستساغته أفئدة تتسم بالنظافة والنزاهة؟!.
إذا كان الأمر كذلك فيجب على الجميع مكافحة تجارة الموت، وصناعة الهلاك والإهلاك, اقتلوه قبل أن يقتلكم، واهربوا منه قبل أن يلتف عليكم بحباله فيوثقكم، احموا أنفسكم وأطفالكم وأهليكم، واحفظوا أموالكم؛ فـ "لن تَزُولا قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ: عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ؟", وهذا الوباء داخل في المُسائلة يوم القيامة كلها؛ يُفني العمر من غير مكسب, وينفق المال في غير مربح, ويبلي الجسم في سم ونتن, وحجة على من علم ضرره وتحريمه فأصر عليه.
إذا عُلم هذا فيحرم بيعه والاتجار به, ويجب إصدار الأنظمة والقوانين والتعليمات الصارمة لمنع التدخين عن الأفراد والمؤسسات, في كل المنتديات والتجمعات، يجب بحزم منع الترويج له أو الدعاية، يجب إصدار التعليمات الحازمة التي تحفظ صحة الناس وأموالهم، وتؤمن أماكن نظيفة خالية تمامًا من هذا الوباء الفتاك وآثاره؛ (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[البقرة: 195].
أستغفر الله لي ولكم, ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا, وعلى آله وأصحابه والتابعين ومَنْ تبعهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: التدخين عبث بالأبيض والأسود، والحاضر والبادي، والمتعلم والأمي، والشريف والوضيع.
المدخن لا يربح إلا قلبًا سقيمًا، ونفسًا مضطربًا، وذهنا كليلاً، وأعصابًا ثائرةً مهتاجةً، وحيويةً مهدمةً، وحياةً قصيرةً مرهقةً.
إن من اليقين والمعلوم أن المبتلين بهذه الآفة يملكون قلوبًا طيبةً, وعواطفَ قوية جياشة نحو أسرهم وأهليهم ودينهم، إلا إنهم بلوا بهذا البلاء المدمر، وهم لا يكابرون في الاعتراف بأضراره؛ بل لعلهم لا يشكون في حرمته والإثم في تعاطيه، ويؤملون ويتمنون تركه والإقلاع عنه، فلهؤلاء جميعًا حق على إخوانهم أن يعينوهم، ويأخذوا بأيديهم، ويشجعوهم، ويبذلوا الوسائل لإنقاذهم؛ (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الشورى: 36].
يا أيها الشباب، والأبناء، والبنات، ويا أيها الناس جميعًا: نزهوا أنفسكم عن الوقوع في هذه الآفة التي تهلك النفس، وتفسد الصحة، وتضعف القوة، وتذهب بالنضارة، وتضيع المال.
وحذاري أن تسقط في الوهم -أيها الشاب-؛ فتتخيل أنها علامات رجولة, أو استقلال شخصية.
فاتقوا الله -أيها المؤمنون- جميعا، وقوا أنفسكم وأهليكم، وحافظوا على أموالكم وثرواتكم.