الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- بفعل الأسباب من أخذ العُدَّةِ، واختيار الصاحب، ومعاونةِ الدليل، والتمويهِ في الخروج خلاف اتجاه المدينة، والمكثِ في الغار ثلاثةَ أيام، والسيرِ في طريق المدينة بشكل مُتَعَرِّج غيرِ مستقيم مع التوكل على الله، ودعا ربه قبل الهجرة....
الخطبة الأولى:
لقد كانت الهجرة النبوية فتحًا ونصرًا، وعزًا للإسلام وأهله، وهي حدث أخبر بها ورقةُ بنُ نوفل رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- حين نزل عليه الوحي أول مرة، -أي قبل هجرته بثلاثة عشر عامًا- بأنه سَيُخْرَجُ من بلده فقال له: "هذا الناموس -أي جبريل عليه السلام- الذي أُنْزِلَ على موسى، يا ليتني فيها جذعًا حين يخرجك قومك، قال: أو مخرجيَّ هُم؟، قال: نعم، لم يأتِ أحد بما جئتَ به إلا عُودِيَ وأُوذِيَ"(متفق عليه).
وحين ظهور أمارات الهجرة -ببيعة العقبة الثانية بين النبي -صلى الله عليه وسلم- والأنصار، وزيادة الابتلاء والاضطهاد، وتكذيب زعماء قريش وعامتهم للدعوة، ومخافة الصحابة على أنفسهم من الفتنة في الدين، - زادت على إثرها كثرة المهاجرين إلى المدينة، واقتربت ساعة هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتجهزِ لها أنزل الله -عز وجل-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفَال: 30]، كما نزل قوله -تعالى-: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)[الإسرَاء: 80].
وقد روى الحاكم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل: "من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر الصديق"، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- قد أراد الهجرة قبل ذلك، فاستَبْقاه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ أي: أمره بالبقاء والمكث-؛ ليصحبه في هجرته عندما يُؤذَن له، وظل أبو بكر -رضي الله عنه- يستعد لذلك اليوم، فاشترى راحلتين وأخذها يعلفها لمدة أربعة أشهر وحينما حانت ساعة الرحيل والهجرة أتى أبو بكر يحمل ماله.
وقد حثَّ الله على الهجرة ورغب فيها، لما فيها من تنوُّع المصالح، فوعد الله المهاجر ابتغاء مرضاته، (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)[النِّسَاء: 100]، فالمهاجر يجد في الأرض مكانًا ومتحولاً ينعم فيه بما يكون سببًا في قوته وذلة أعدائه، مع السعة في رزقه وعيشه الهنيء.
ومما يدل على فضل ومكانة الهجرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار"(متفق عليه).
وفي الهجرة النبوية ظهرت آياتُ وفضائلُ ولطفُ المولى:
أولاها: حِفْظُ الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- مع كثرة الأعداء وقربهم منه، سواءً كان ذلك في الخروج إلى الغار، أو في المكث في الغار، أو في طريق المدينة، مع اجتماعهم على أن يضروه؛ حيث عناية الله ومعيته الخاصةُ لهما، كما قال -سبحانه-: (إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التّوبَة: 40].
الوقفة الثانية: قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- بفعل الأسباب من أخذ العُدَّةِ، واختيار الصاحب، ومعاونةِ الدليل، والتمويهِ في الخروج خلاف اتجاه المدينة، والمكثِ في الغار ثلاثةَ أيام، والسيرِ في طريق المدينة بشكل مُتَعَرِّج غيرِ مستقيم مع التوكل على الله، ودعا ربه قبل الهجرة: أن يدخله مدخل صدق، وهو المدينة، وأن يخرجه مخرج صدق وهو مكة، وأن يجعل له من الله سلطانًا ونصيرًا.
الوقفة الثالثة: شَرُفَ أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بالصحبة في أحلك الظروف، وأقسى الأيام، فأجهد نفسه في حماية النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطريق إلى الغار، وفي الغار، وفي المسير إلى المدينة، وعرّض نفسه للأخطار حيث عرضت قبيلةُ قريش جائزةً كبيرةً قدرها مائة من الإبل لمن يأتي بالرسول -صلى الله عليه وسلم- حيًا أو ميتًا، وبمائة أخرى لمن يأتي بأبي بكر حيًا أو ميتًا.
فقدّم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- نفسه وماله وولده لله ولرسوله ولنصرة دينه، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناهُ ما خلا أبابكر فإن له عندنا يدًا يُكافيه الله بها يوم القيامة"(رواه الترمذي).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما نفعني مالٌ قطُّ ما نفعني مالُ أبي بكر"، فبكى أبوبكر وقال: "هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله"(رواه ابن ماجه).
الوقفة الرابعة: في طريق الهجرة وقوع ما أخبر به الصادق الأمين حين لحقهم سراقة بن مالك، فقال بعد أن طلب سراقة بن مالك الأمان من النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن كان طالبًا الظفر بهما - فقال: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى".
وطلب سراقة من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب له كتاب أمان، فأمر أبا بكر فكتب له كتابًا، ثم ألقاه إليه، وأبقاه عنده إلى أن فرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من حُنينٍ والطائف، فأسلم سراقة، فأتى بالكتاب سنة ثمان للهجرة، فوفّاه له النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "يوم وَفاء وبِرّ".
فلما انتشرت الفتوحات في عهد عمر -رضي الله عنه- وبعد معركة القادسية سنة ست عشرة من الهجرة، أُتي بسوارَيْ كسرى ومَنْطِقتِه وتاجِه، فدعا عمرُ -رضي الله عنه- سراقةَ بنَ مالك، فألبسه إياها، فكان هذا وعدَ صدقٍ وبشائرَ من النبي -صلى الله عليه وسلم- بفتح المدائن العظمى في ذلك الزمن.
الوقفة الخامسة: الفَرَج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، فقد خَرجَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة مع صاحبه -رضي الله عنه- متخفيين، ثم لم تمر عليه ثمانِ سنين إلا ويدخل مكة فاتحًا منتصرًا بجيش قَوامه عشرة آلاف، ويكسر الأصنام التي حول الكعبة ويقول: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الإسرَاء: 81].
الوقفة السادسة: حِلم النبي -صلى الله عليه وسلم- على قريش مع عدائهم الطويل له وحربهم معه، فقد عفا عمن عفا من الناس، وقال: "من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن"(رواه مسلم).
الوقفة السابعة: محبة الأنصار للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونصرتُهم وإيواؤهم له يومَ قلَّ الناصرُ من أهل الأرض، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "الأنصار شعار، والناس دثار، ولو أن الناس استقبلوا واديًا أو شعبًا، واستقبلت الأنصار واديًا، لسلكْتُ واديَ الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار"(متفق عليه).
وأثنى عليهم بقوله -عليه السلام- "لا يحب الأنصار إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"(متفق عليه)، وقد امتدحهم الله بقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحَشر: 9].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الهجرة النبوية غيرّت مجرى التأريخِ -ليس الإسلامي فقط-، وإنما التاريخ الإنساني، فكان دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة يومًا مشهودًا، وحدثًا عظيمًا لم تشهد مثلَه المدينةُ، وكبَّر المسلمون فرحًا بقدومه، وارتَجَّت البيوت والسِّكَك به.
قال البراء بن عازب -رضي الله عنه-: "أول من قدم علينا: مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، وكانوا يُقرئون الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-"(رواه البخاري).
قال أنس -رضي الله عنه-: "ما رأيت يومًا قطُّ كان أحسنَ ولا أَضْوَأَ من يومٍ دخل علينا فيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وما رأيت يومًا كان أقبحَ ولا أظلمَ من يومٍ مات فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم-".
وانجفل الناس -أي: أقبلوا- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دخل المدينة قال عبد الله بن سلام -وكان حَبرًا من أحبار اليهود-: فكنتُ فيمن انجفل، فلما تبينت وجْهَهُ عرفت أنَّ وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أولّ شيء سمعته يقول: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"(رواه ابن ماجه).
نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- بقباءٍ، وأقام بها، وأسس فيها مسجدًا، ثم ركب إلى المدينة، وجَمَّع بأصحابه بالمسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أولَ جمعة داخل المدينة، ثم دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وكان لا يمر بدار من دار الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته قائلين: هلم إلى العَددِ والعُدَّة، والسلامِ والمَنَعة، فكان يقول لهم: "خلّوا سبيلها؛ فإنها مأمورة"؛ -أي: أن الآمر لها هو الله-.
فسارت به حتى وصلت موضع المسجد النبوي، فبركت، فلم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً، ثم التفتت ورجعت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني النجار أمام دار أبي أيوب الأنصاري، فبادر أبو أيوب إلى الرَّحْل فأدخله بيته.
وكان في قوله: "خلوا سبيلها فإنها مأمورة"؛ لأن الأوس والخزرج بينهما حروب طويلة لم تتوقف إلا قبل مجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- بخمس سنين، قالت عائشة -رضي الله عنه-: "كان الحَيَّان مُتنافسين على الخير، وكانا متنافسين مثلَ ذلك على الشر في القتال".
فكانت في إجابته لهم بأنها مأمورة أي من الله وليس هو -صلى الله عليه وسلم- الآمر، فيكون ذلك مانعًا لوساوس الشيطان.
فالتفت إلى الناقة فوجدها عارية عن الرحل، فسأل عن رحله، فقالوا احتمله أبو أيوب إلى بيته، فقال: "المرء مع رَحْله"، فَشرُف أبو أيوب وأهلُه بضيافة خير الورى، وأفضلِ من وطِئ الحصى، فكان يصنع للنبي -صلى الله عليه وسلم- الطعام، فإذا جاء به إليه سأل عن موضع أصابعه، فيتتبع موضع أصابعه.
كان أمامَ منزله ساحةٌ ونخلٌ وماء، فقال لمن هذا النخل؟ فثامنهم عليه بعشرين دينارًا دفعها أبو بكر -رضي الله عنه-، وشرع النبي -صلى الله عليه وسلم- حالاً في قطعِ النخيل، وتسويةِ الأرض، ونبشِ قبور المشركين، وإقامةِ المسجد.
شَرُفت المدينة بهجرته إليها وصحابتِه، فصارت حصنًا منيعًا للمسلمين، ودارَ هدى للعالمين.
في هجرة الصحابة -رضي الله عنهم- للحبشة ثم المدينةِ وهجرةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة دروسٌ عديدة، وفوائدُ كثيرة، فهي عبادة محفوفة بالأخطار، فَيقْدم على أرض ليست بأرضه، وأهلٍ ليسوا بأهله، فلا أهل ولا مال ولا ولد، ولذا قدّم الله المهاجرين على الأنصار في آيات القرآن الكريم (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ)[التّوبَة: 117]، (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ)[التّوبَة: 100].
وحَدَثُ الهجرة أقام كيان الإسلام، وتهاوت معاقلُ الخصوم، ودخل النبي -صلى الله عليه وسلم- في العام الثامن من الهجرة فاتحًا مكة، ولم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أصبحت الجزيرة العربية تحت إمرته، وبعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربع سنين وعدة أشهر سقطت مملكة فارس، وهكذا توالت الفتوحات.
ولذا عرف المسلمون أهميةَ حدثِ الهجرة، فأرّخوا التاريخ به لعظم شأنه.
جزى الله نبينا خير ما جزى به نبيًّا عن أمته، ورضى الله عن صحابته الكرام -مهاجريهم وأنصارِهم-، وجمعنا بهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجنات.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.