الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | أسامة بن عبدالله خياط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحكمة وتعليل أفعال الله |
فهل ثَمَّةَ -يا عباد الله- أغلى من دِينٍ ارتضاه اللهُ الحكيمُ العليمُ لخَلْقِه، وجعَلَه السبيلَ المُوصِلَ إليه؟ والطريق إلى رضوانه وغفرانه ونزول رفيع جِنانه؟ كما جعَلَه سببًا لرفعة هذه الأمة المحمدية، والتمكين في البلاد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله مُعِزِّ مَنْ أطاعه وتولَّاه، ومُذِلِّ مَنْ أشرَك به وعصاه، أحمده -سبحانه-، لا رب غيره ولا إله سواه، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أمَر ألَّا نعبدَ إلَّا إيَّاه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، وخِيرَتُه من خلقه ومصطفاه، اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ، وعلى آله وصحبه، قدوةِ كلِّ منيبٍ أوَّاهٍ.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، واذكروا وُقُوفَكم بين يديه، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا مَنْ أتى اللهَ بقلب سليم، وتزوَّدُوا بخير الزاد ليوم المعاد، ولا تَغُرَّنَّكم الحياةُ الدنيا، ولا يَغُرَّنَّكم بالله الغرورُ.
عبادَ اللهِ: إنَّ النَّهج الرَّاشد والمسلك القويم للمُخلَصِين من أولي الألباب، لَيبعَثُ على دوام التذكُّر لنعمة الله عليهم، وإكرامه لهم؛ إذ أحيا قلوبَهم بنور الإيمان وثلَج اليقينِ، وهداهم إلى الحق الذي جاءت به رسلُ الله، فغمرتهم أنوارُ الهداية، فأبصَرُوا ضلالات الضالين وجهالاتهم التي أُركِسوا فيها؛ فلا منجَى لهم منها، ولا مَخْلَصَ لهم من ظُلْمَتِها، ولا نجاةَ لهم من سوء العاقبة فيها؛ (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الْأَنْعَامِ: 122].
وإنهم لَيستيقنون أنَّ الاستجابة لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم- واتباع شريعته، والحذر من اتِّباع أهواء الذين لا يعلمون متعيِّنٌ عليهم، منوطٌ بهم، لازمٌ لهم، كما أَمَرَ -سبحانه- بذلك أشرفَ الخلقِ -صلوات الله وسلامه عليه- في قوله عزَّ قول الله -تعالى-: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[الْجَاثِيَةِ: 18]؛ ليدُلَّ بذلك على كمال هذا الدِّين وشرف هذه الملَّة الحنيفيَّة، والشَّريعة المحمَّديَّة، التي كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "لا تَنالُ العبارةُ كمالَها، ولا يُدْرِكُ الوصفُ حُسنَها، ولا تقترحُ عقولُ العقلاءِ -ولو اجتمعَتْ على عقلِ أكملِ رجلٍ منهم- فوقَها، وحسبُ العقولِ الكاملةِ الفاضلةِ أنْ أدركَتْ حُسنَها، وشهدتْ بفضلها، وأنَّه ما طرَق العالمَ شريعةٌ أكملُ ولا أجلُّ ولا أعظمُ منها، فهي -نفسُها- الشاهدُ والمشهودُ له، والحُجَّةُ والمحتَجُّ له، والدعوى والبرهان، ولو لم يأتِ المرسَلُ ببرهان عليها، لكفى بها برهانًا وآيةً، وشاهِدًا على أنها من عند الله، وكلها شاهِدةٌ له بكمال العِلْم، وكمال الحكمة، وسعة الرحمةِ والبِرِّ والإحسانِ، والإحاطة بالغيب والشهادة، والعِلْم بالمبادئ والعواقب، وأنَّها من أعظم نِعَمِه التي أنعَم بها على عباده، فما أنعَم اللهُ على عباده بنعمة أجلَّ مِنْ أنْ هداهم لهذه الشَّريعة؛ وجعَلَهم من أهلها، وممَّن ارتضاها لهم وارتضاهم لها، فلهذا امتنَّ على عباده بأن هداهم لها؛ قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[آلِ عِمْرَانَ: 164]، وقال مُعرِّفًا لعباده ومُذَكِّرًا لهم عظيمَ نعمتِهِ عليهم بشريعته، مُسْتَدْعِيًا منهم شكرَهم على أن جعَلَهم من أهلها: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[الْمَائِدَةِ: 3]؛ فوصَف الدِّينَ الذي اختاره لعباده بالكمال، ووصَف النعمةَ التي أسبَغَها عليهم بالتمام؛ إيذانًا في الدين بأنه لا نقصَ فيه ولا عيبَ ولا خللَ، ولا شيءَ يخرج عن الحكمة بوجه، بل هو الكامل في حُسْنِه وجلالته، ووصَف النعمةَ بالتمام إيذانًا بدوامها واتصالها، وأنه لا يسلُبُهم إيَّاها بعد إذ أعطاهُمُوها، بل يُتِمُّها لهم بالدوام في هذه الدار، وفي دار القرار". انتهى.
فهل ثَمَّةَ -يا عباد الله- أغلى من دِينٍ ارتضاه اللهُ الحكيمُ العليمُ لخَلْقِه، وجعَلَه السبيلَ المُوصِلَ إليه؟ والطريق إلى رضوانه وغفرانه ونزول رفيع جِنانه؟ كما جعَلَه سببًا لرفعة هذه الأمة المحمدية، والتمكين في البلاد، كما جاء في الحديث الذي رواه أحمدُ في مسنده، والحاكمُ في مستدرَكِه، بإسناد صحيح، عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بشِّرْ هذه الأمةَ بالسَّناءِ، والتَّمكينِ في البلاد، والنَّصرِ، والرِّفعة بالدِّينِ، ومَنْ عَمِلَ منهم بعمل الآخرة للدنيا، فليس له في الآخرة نَصِيبٌ".
عبادَ اللهِ: إنَّ أصحاب البصائر لا يملكون -وهم يسمعون نداءَ الله يُتلى عليهم في كتابه- إلا أنْ يُصِيخوا ويستجيبوا لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ هي دعوةٌ تحيا بالاستجابة لها القلوبُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[الْأَنْفَالِ: 24].
نفعني الله وإيَّاكم بهدي كتابه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الولي الحميد، الفعَّال لما يريد، أحمده -سبحانه-، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ذو العرش المجيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: إنَّ محاسنَ هذه الشريعة المحمدية، والملَّة الحنيفيَّة تربو على العدِّ، وتجِلُّ عن الحصر، وكفى بها شرفًا أنَّ اللهَ -تعالى- حَفِظَ بها الأرواحَ والأنفسَ والأموالَ والعقولَ والأعراضَ؛ إذ حرَّم قتلَ النَّفسِ التي حرَّم اللهُ إلا بالحقِّ، وحرَّم انتهاكَ الأعراض بتلويث الفُرُش بالزِّنا، وحينَ حظَر تعاطيَ كلِّ ما يهدِّدُ أو ينتقصُ من سلامة العقول من المُسْكِرات والمخدِّرات والمفتِّرات، ومنَع أكلَ أموال الناس بالباطل، في كلِّ صوره وألوانه، وأرسى اللهُ بهذه الشريعة قواعدَ العدالة بين الخَلْق كافَّة؛ مسلمهم وكافرهم، وعربيِّهم وعجميِّهم، وأسودِهم وأبيضِهم، وذَكَرِهم وأُنثاهم، وصغيرِهم وكبيرِهم، فجَعَل تقوى الله قاعدةَ التَّفاضُل بينهم؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الْحُجُرَاتِ: 13].
وحفِظ لكل إنسان حقَّه، وأوضَح له واجبَه، في تشريع ربَّانيٍّ فذٍّ، سبَق ما سواه من تشريعات بشرية لحفظ حقوق الإنسان، وَسَلِمَ من ضَعْفِها وقصورها، فرفَع للإنسان قدرَه، وصان كرامتَه؛ ولذا فإنَّ المؤمن حقًّا لا تعتريه حيرةٌ ولا يُخالِجُه شكٌّ في أنَّ شرعَ ربِّه ودِينَه وطريقَه هو سبيل النَّجاةِ، وطريقُ السَّعادة في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة.
وأمَّا مَنْ أعرَض عن ذِكْر ربِّه، فخالَف أمرَه، وحادَ عن سبيله، والتَمَس الهدى والسَّعادةَ في غيره، فقد بيَّنَ اللهُ عاقبةَ أمره بقوله -سبحانه-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)[طه: 124-126]، وضَنْكُ المعيشة -يا عباد الله- ليس بقلَّة ذات اليد، ونقص العَرَض، بل هو كما قال ابن كثير -رحمه الله-: "بأن لا يجد طمأنينةً ولا انشراحًا لصدره، بل صدرُه ضيِّقٌ حَرِجٌ، وإن تنعَّم ظاهرُه، ولَبِسَ ما شاء، وأكَل ما شاء، وسكَن حيث شاء؛ فإنَّ قلبه في قلقٍ وحيرةٍ وشكٍّ؛ فلا يزال في رَيبِهِ يتردَّد".
فاتقوا الله -عباد الله-، وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رسل الله؛ فقد أُمِرتُم بذلك في كتاب الله، حيث قال الله -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك، وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدِّينِ، واجعل هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا، وسائرَ بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأيِّدْ بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا، ووفِّقْه لِمَا تحب وترضى يا سميع الدعاء، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا من إليه المرجع يوم المعاد.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّلِ عافيتِكَ، وفجاءةَ نقمتِكَ، وجميع سخطك، اللهم اكفنا أعداءك وأعداءنا بما شئت يا رب العالمين، اللهم إنا نعجلك في نحور أعدائك وأعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وبَلِّغْنا فيما يرضيك آمالَنا، واختِمْ بالباقيات الصالحات أعمالَنا، اللهم إنَّا نعوذ بكَ من كل داء ووباء وبلاء، اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام وسيئ الأسقام.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، وصلَّى اللهُ وسَلَّمَ على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.