المتكبر
كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...
العربية
المؤلف | عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المنجيات |
إن ما نعانيه من لفح ولهيب الصيف وشدة الحر والعواصف المثيرة للأتربة، أمر يستدعي تذكُّرَ حال الضعفاء والعجزة، الذين يعانون منها ولا حيلة لهم، فارحموا ضَعفَهم وعجزهم، وسُدُّوا حاجتَهم، وواسُوهم وأَعِينوهم وتعاهدوهم، فإنما ترحمون وتنصرون بضعفائكم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
عبادَ اللهِ: اتقوا الله -عز وجل-، وكونوا منه على وجَل، ولا تغترُّوا بطول الأمل، ونسيان الأجَل، ولا تركنوا إلى الدنيا؛ فإنها دار زوال وفناء، وفتنة وابتلاء، والآخرة هي دار الخلود والجزاء؛ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آلِ عِمْرَانَ: 185].
أيها الناسُ: يتغير الجو من حال إلى حال، وتتقلب الأيام والليالي، والفصول تمضي على التوالي، فمن شدة البرد إلى شدة الحر، إلى الاستواء والاعتدال، فلله الحكمة البالغة، وكل شيء عنده بمقدار؛ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الْبَقَرَةِ: 164].
أيها المسلمون: إن حرارة الصيف الملتهبة، ولفحات السموم المحرقة؛ لأعظم نذير زائر، وأبلغ واعظ زاجر من عذاب الله، من جهنم نار الله الموقَدة، التي تطَّلع على الأفئدة؛ (إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى)[الْمَعَارِجِ: 15-18]، إنها سموم وحميم، وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم.
عبادَ اللهِ: إن شدة الحر من نفس جهنم وفيحها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اشتكتِ النار إلى ربها فقالتْ: يا ربِّ أكَل بعضي بعضًا، فأَذِنَ لها بنفَسَيْنِ؛ نَفَسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصيف، فهو أشدُّ ما تجدون من الحر، وأشدُّ ما تجدون من الزمهرير"(متفق عليه)، وعن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفَر، فأراد المؤذِّن أن يؤذِّن للظُّهر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَبْرِدْ"، ثم أراد أن يؤذن فقال له: "أَبْرِدْ"، حتى رأينا فيءَ التلول، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن شدة الحر مِنْ فَيْحِ جهنمَ، فإذا اشتدَّ الحرُّ فأبرِدوا بالصلاة"(أخرجه البخاري)؛ فاتقوا النارَ -عباد الله- ولو بشقِّ تمرةٍ، فواللهِ ما لأحدٍ بنار الدنيا من طاقة، فكيف بنار جهنم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نارُكم هذه التي يُوقِد ابنُ آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من حر جهنم، قالوا: واللهِ إن كانت لَكافية يا رسول الله، قال: فإنها فُضِّلَتْ عليها بتسعة وستين جزءًا، كلها مثل حرها"(أخرجه مسلم).
عبادَ اللهِ: إن شدةَ الحرِّ في فصل الصيف أبلغُ واعظٍ يذكِّر بعرصات القيامة، وأهوال الفزع والعرض الأكبر، إذا حشر الناس إلى ربهم ينسلون، حفاةً عُراةً غُرلًا، (كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)[الْمَعَارِجِ: 43-44]، قد عظُم الخَطب واشتد البلاء والكرب، ودنت الشمس من رؤوس الخلائق، واشتد الحَرُّ، وعظم الزحام، وطال الموقف، وثقل الكلام، عن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: "سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: تدنو الشمس يوم القيامة من الخَلْق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العَرَقِ، فمنهم مَنْ يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم مَنْ يكون إلى حقويه، ومنهم مَنْ يُلجِمه العرقُ إلجامًا"(أخرجه مسلم).
مَنْ كان حين تصيب الشمس جبهتَه | أو الغبار يخاف الشَّينَ والشعثَ |
ويألَفُ الظلَّ كي تبقى بشاشتُه | فسوف يسكن يومًا -راغمًا- جَدَثًا |
في قعرِ مُظلِمةٍ غبراءَ مُوحِشةٍ | يُطِيل في قعرها تحت الثرى لُبْثَا |
تَبَلَّغِي بجهازٍ تبلغينَ به | يا نفس قبل الردى لم تُخلَقِي عبثَا |
معاشرَ المسلمينَ: الدنيا نعيم زائل، وظل راحل، وأيام قلائل، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لُقْمَانَ: 33]، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يُونُسَ: 24].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم إنه كان غفورا رحيما.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مغيث المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، وكاشف الكرب عن المكروبين، ومُسبِغ النِّعم على الناس أجمعينَ، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هُودٍ: 6].
عبادَ اللهِ: إن ما نعانيه من لفح ولهيب الصيف وشدة الحر والعواصف المثيرة للأتربة، أمر يستدعي تذكُّرَ حال الضعفاء والعجزة، الذين يعانون منها ولا حيلة لهم، فارحموا ضَعفَهم وعجزهم، وسُدُّوا حاجتَهم، وواسُوهم وأَعِينوهم وتعاهدوهم، فإنما ترحمون وتنصرون بضعفائكم، نفِّسوا الكُرَبَ والهمومَ، وفرِّجوا الأحزانَ والغمومَ، فمَنْ نفَّس عن مؤمنٍ كربةً مِنْ كُرَب الدنيا نفَّس اللهُ عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة، ومَنْ يسَّر على مُعسِرٍ يسَّر اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، ومَنْ ستَر مسلمًا سترَه اللهُ في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
عبادَ اللهِ: أقرِضوا اللهَ قرضًا حسنًا يُضاعِفه لكم ويغفر لكم؛ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)[الْبَقَرَةِ: 245]، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)[الْمُزَّمِّلِ: 20]، وقد أكرَم اللهُ مَنْ أنظَر معسرًا، أو وضَع له، بالظل الظليل يوم القيامة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أنظَر مُعسِرًا أو وضَع له أظلَّه اللهُ يومَ القيامة تحتَ ظل عرشه، يومَ لا ظل إلا ظلُّه"(أخرجه الترمذي).
أيها الناسُ: لا يُقبَل من المسلم أن تكون شدة الحر عاملَ خمول وكسل، يُقعِد عن العبادة والعمل، ويعطِّل عن أداء الصلاة مع الجماعة؛ فاحتساب الأجر في هذه المشقة عظيم، فإن الأجر بقَدْر النَّصَب والعناء، والجنة حُفَّت بالمكاره، وأيام الشدة واللأواء أيام امتحان واختبار وابتلاء، والله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، فأحسِنوا العملَ قبل فوات الأجَل، وقد أكرَم اللهُ مَنْ كان قلبه معلَّقًا بالمساجد بالظل الظليل يوم القيامة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبعة يُظلُّهم اللهُ في ظله، يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه: الإمام العادل، وشابٌّ نشأ في عبادة ربه، ورَجُلٌ قلبُه معلَّقٌ في المساجد، ورجلانِ تحابَّا في الله، اجتَمَعَا عليه وتفرَّقَا عليه، ورجلٌ طَلَبَتْهُ امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ فقال: إني أخافُ اللهَ، ورجلٌ تصدَّق فأخفى صدقتَه حتى لا تعلم شِمالُه ما تُنفِق يمينُه، ورجلٌ ذكَر اللهَ خاليًا ففاضَتْ عيناه"(متفق عليه).
وبعدُ عبادَ اللهِ: فاحمدوا الله على آلائه ونعمه، واشكروه على فضله وكرمه، فهو الذي أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة؛ (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النَّحْلِ: 53]، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إِبْرَاهِيمَ: 34]، فقد جعل لكم من الجبال أكنانًا، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحَرَّ وسرابيل تقيكم بأسكم، ويسَّر لكم الظلال وسخَّر لكم نعمة الكهرباء وأجهزة التكييف وأدوات التبريد، فاذكروا آلاء الله، واشكروه على ذلك، وإن من شكر الله -عز وجل- الاقتصاد فيها والتوفير، وعدم الإسراف والتبذير، والنعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت، والله -تعالى- يقول: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إِبْرَاهِيمَ: 7].
اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمك، الراضين بقضائك، لك الحمد كله، ولك الشكر كله، وإليك يُرجَع الأمرُ كلُّه، اللهم إنا نسألك شكرَ نعمتك، وحسنَ عبادتك يا رب العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وانصر عبادكَ الموحِّدينَ، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين بتوفيقك، وأيِّدْه بتأييدكَ، اللهم وفقه وولي عهده لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء.
اللهم احفظ حدودنا، وانصر جنودنا المرابطين، اللهم اربط على قلوبهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، يا قوي يا عزيز، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عبادَ اللهِ: صلُّوا وسلِّمُوا على مَنْ أمرَكم اللهُ بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.