الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الرحمن الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - صلاة الاستسقاء |
وما صلاة الاستسقاء يا -عباد الله- إلا باب من أبواب الخير مفتوح وطريق للذكر والاستغفار والذل والخضوع والله تعالى يعز من ذل له ويعطي من سأله ويحب الخاشعين التوابين الذاكرين المستغفرين ولكنك لا ترى منهم إلا قليلا؛ يعلن عن صلاة الاستسقاء؛ فلا يتوافد إليها، إلا أفراد...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، -صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم-.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: يزهد الناس في الخير إذا تعلقوا بالدنيا وزخرفها وضعف يقينهم بالآخرة ونعيمها حتى تفتح أبواب الخير؛ فتبصر قلة الداخلين وتظهر طرق الآخرة؛ فتحس ضعف السالكين، وإذا ما انفتح باب من أبواب الدنيا رأيت كثرة المتنافسين وأبصرت شدة المتزاحمين.
وما صلاة الاستسقاء يا -عباد الله- إلا باب من أبواب الخير مفتوح وطريق للذكر والاستغفار والذل والخضوع والله تعالى يعز من ذل له ويعطي من سأله ويحب الخاشعين التوابين الذاكرين المستغفرين ولكنك لا ترى منهم إلا قليلا؛ يعلن عن صلاة الاستسقاء؛ فلا يتوافد إليها، إلا أفراد قلائل أرأيتم -عباد الله- لو كان في وقتها أموالا توزع أو أراضي توهب أو دنيا تقسم أيكون العدد فيها كالعدد في الاستسقاء؟
وإذا كان أكثر الناس قد فرطوا في الواجبات؛ فكيف سيحافظون على المندوبات، إنه ما نزل بالعباد بلاء؛ إلا بذنب و لا رفع، إلا بتوبة، وإن من أعظم الذنب أن يتكبر الخلق على خالقهم ويتقاعسوا عن مواطن الذل له والانطراح بين يديه ورفع الحاجات إليه حتى ظن الظانون منهم؛ أنهم ليسوا محتاجين إليه وأنهم في غنى عن رحمته وعطاءه وفضله فالماء يأتيهم في دورهم والخيرات من كل بلاد الأرض تمتلئ بها بلادهم ولا ينقصهم شيء؛ فلما يستسقون وماذا يسألون إن هذا الأمن هو البلاء وتلك الغفلة هي المصيبة ذلك أن القحط قد يكون نوعا من العذاب، قال البخاري -رحمه الله - في الصحيح: "باب انتقام الرب جل وعلا من خلقه بالقحط إذا انتهكت محارم الله".
وروى عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال "إن قريشا أبطئوا عن الإسلام؛ فدعا عليهم النبي - -صلى الله عليه وسلم- -؛ فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام"، وفي رواية؛ فقال "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأصبتهم سنة فحصت كل شيء حتى كانوا يأكلون الميتة وكان يقوم أحدهم مثل الدخان من الجهد والجوع؛ فجاء أبو سفيان؛ فقال يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا؛ فادعوا الله؛ فقرأ ابن مسعود، (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ [الدخان:10].
ثم عادوا إلى كفرهم؛ فذلك قول الله، (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى)؛ يوم بدر؛ فدعا رسول الله - -صلى الله عليه وسلم- -فسقوا الغيث؛ فأطبقت عليهم سبعا وشكى الناس كثرت المطر؛ فقال "اللهم حوالينا ولا علينا"؛ فانحدرت السحابة عن رأسه فسقوا الناس حولهم" (متفق عليه).
وثبت عنه - -صلى الله عليه وسلم- -أنه استسقى وهو جالس في المسجد ورفع يديه فدعى؛ فأمطرت السماء واستسقى عند أحجار الزيت عند الزوراء وهي خارج المسجد واستسقى في بعض غزواته حين عطش المسلمون؛ فبان أنه - -صلى الله عليه وسلم- -كان يستسقي كثيرا وعلى أحوال متعددة وكثيرا من الناس لا يستسقي الواحد منهم وحده ولا يدعو الله في خلوته أن يغيث العباد والبلاد بل يظنون أن طلب السقي لا يكون إلا في خطبة الاستسقاء أو خطبة الجمعة مع أن دعاء العبد وحده أكثر إخلاصا لله وأعظم أثرا.
وإذا كان العبد يندب له أن يدعو لإخوانه بظهر الغيب؛ فدعاءه بالسقي دعاء للعباد والبلاد والبهائم التي لا ذنوب عليها.
وإن اعظم صور الاستسقاء التي أثرت عن النبي الكريم - -صلى الله عليه وسلم- -خروجه بالناس إلى المصلى وصلاته بهم وموعظتهم والدعاء والتضرع والانطراح بين يدي الرب -جل جلاله- مع كثرة الاستغفار وكثرة الدعاء وتجديد التوبة.
قالت أمنا عَائِشَةَ -رضي الله عنه-، قَالَتْ: "شَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - -صلى الله عليه وسلم- -حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ؛ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ؛ فَكَبَّرَ - -صلى الله عليه وسلم- -، وَحَمِدَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ تَدْعُوهُ وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ" (الحديث" رواه أبو داوود).
وكان -صلى الله عليه وسلم- يستسقي أحيانا في خطبة الجمعة، كما روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - -صلى الله عليه وسلم- -؛ فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، إِذْ قَامَ أَعْرَابِيٌّ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - -صلى الله عليه وسلم- -يَدَيْهِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهُمَا حَتَّى ثَارَ سَحَابٌ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنِ الْمِنْبَرِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْحَدِرُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنَ الْغَدِ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ الَّذِي يَلِيهِ حَتَّى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، أَوْ قَالَ: رَجُلٌ غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - -صلى الله عليه وسلم- -يَدَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا " قَالَ: فَمَا يُشِيرُ بِيَدَيْهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلا تَمَزَّقَتْ حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ، وَسَالَ الْوَادِي وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ رَجُلٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَوَادِي إِلا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ" ( أخرجه البخاري).
وهكذا سائر أنبياء الله ورسوله -صلوات الله عليه وسلامه- وعباد الله الصالحون يستغيثون الله ويستسقونه ويستغفرونه دوما ويطلبون رحمته ويسألونه من فضله؛ فلا غنى لأحد من الخلق عن رحمة الله كائن من كان.
بل إن البهائم فطرت على معرفة بارئها وخالقها؛ فلا تلتجئ إلا إليه وحده على رغم أنها لم تكلف، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - -صلى الله عليه وسلم- -قال " أن سليمان بن داود عليه السلام خرج يستسقي، فرأى نملة مُستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقولُ: اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك، فإما أن تُسقينا وترزقنا، وإما أن تهلكنا، فقال: ارجعوا فقد سُقيتُمْ بدعوة غَيركم" رواه الحاكم وصححه والذهبي كذلك.
فالله الله عباد الله في التضرع إلى الله والتوبة إليه؛ فربنا جل وعلا إذا رأى من عباده صدق التوجه إليه والتعلق به رحمهم؛ فسقاهم وأعطاهم ورفع عنهم البلاء والفتن؛ فخزائنه لا تنفذ وخيره لا ينقطع وعطاءه جل وعلا لا يحظر، (وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:20]) (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28]؛
فهو يعطي لحكمة ويمنع لحكمة جل جلاله وتقدست أسماءه.
أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، اللهم -صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه- ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة؛ فعلها النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدون، كما قال العلماء ونقل الإجماع على ذلك بعضهم.
وقبل خروج المسلمين إليها؛ فإنه ينبغي أن يزيلوا ما في قلوبهم من أكدار الشحناء والبغضاء فذلك أرجى للإجابة وإن قدموا صدقة قبل صلاتهم وبعد صلاتهم وفي كل حال؛ فحسن لأن الصدقة تطفئ غضب الرب -جل وعلا- ولئن المطر رحمة من الله والله يقول (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
والتوبة والاستغفار ورد المظالم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب نزول الغيث قال نوح -عليه الصلاة والسلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10] يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا [نوح:11].
وكما قال هود -عليه الصلاة والسلام-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52].
ومن أسباب نزول الغيث الاستقامة على أمر الله، كما قال -عز وجل-: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا [الجن:16]؛ كما أن من أعظم ما يمنع المطر كثرة الذنوب والمعاصي وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].
وعدم إخراج الزكاة يمنع نزول الغيث، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ، "يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ" وذكر منها "، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا"
(أخرجه ان ماجه).
اللهم يا عفو يا كريم اعفو عنا جميعا اللهم إنا ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا؛ فاغفر لنا يا خير الغافرين.