الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالرحمن الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - المنجيات |
يحبون أن تشيع أن تُتناقل هذه الأخبار، وأن تترسخ الفاحشة وأخبارها ووقائعها في المجتمع، فهؤلاء متوعدون بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ولذا يقول عليه الصلاة والسلام: "لا يبلغني أحد عن أحد شيئًا"، هكذا أنت لا تقبل ممن يخبرك بشيء من هذه الأخبار، ليكن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: امتثلوا آداب القرآن الكريم وما جاء به النبي الأمين، فإنها آداب كريمة وأخلاق سامية شريفة من تمسك بها هُدِي إلى الخير وآل وإلى كل بر.
وإن من جملة الأخلاق التي عُنِيت بها الشريعة الغرَّاء: ما يتعلق بسلامة القلوب والحفاظ على الصلات الكريمة، والروابط الشريفة بين أفراد المجتمع، فحثَّت على كل خلق كريم، ورغَّبت في كل منهج سليم يُحقق هذه الغاية السامية، كما حذَّرت الشريعة الغراء من كل سببٍ يؤول إلى انفراط عِقد تواصل المجتمع، وائتلاف قلوب أهله، وما ينبغي أن يكونوا عليه من الصلات الكريمة، فمنعت كلَّ سبب يؤدي إلى الإحن وإلى القطيعة، وإلى إيغار الصدور وإلى الظنون السيئة، وما أشبه هذه الأوضار والأخلاق التي تؤول إلى فساد.
ولذلك جاءت النواهي المؤكدة عن الأسباب التي تؤول إلى انفراط عِقد المجتمع، وما يكون من ألفة أهله، فمنعت الشريعةُ الغرَّاء الأمورَ التي تؤدي إلى هذا الفساد، فمُنِع على سبيل المثال بيع الرجل على بيع أخيه، ومُنِعت وحُرِّمت خطبته على خطبة أخيه؛ لأنه إذا أراد أن يشتري سلعة يعلم أن أخاه يريد شراءها، وحمله ذلك على الزيادة في الثمن، أدَّى هذا إلى التباغض وإلى التقاطع، وهكذا إذا خطب على خطبة أخيه، يعلم أنَّه تقدَّم إلى أناس لخطبة موليتهم بنتهم أو أختهم، ثم يأتي ليتقدم هو، فربما اختاروه وتركوا الأول، فرأى الأول أنَّ هذا نوعًا من الإضرار به، فأدَّى إلى التصارم والتقاطع.
وهكذا ما يكون من الأخلاق السيئة الأخرى؛ مثل: الغيبة والنميمة، والتجسس والاستهزاء ببعض، وغير ذلك مما يؤدي إلى تصارم القلوب وإرث الشحناء، ولذا كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يؤكد أن يحافظ المسلمون على الصلات فيما بينهم كريمةً شريفةً ساميةً، بعيدةً عن الأحقاد، وعما تحمله القلوب من ضغينة أو بُغض نحو الآخرين، ووعدت الشريعة الغراء أصحابَ القلوب السليمة على إخوانهم بحسن العاقبة، فإنها صفة أهل الجنة، ولا يدخل الجنة أحدٌ في قلبه غلٌّ على أحد من إخوانه المسلمين، ولذا وصف الله أهل الجنة بقوله سبحانه: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[الحجر: 47]، كما أنه قد جاء تأكيد منع وقطع الأسباب التي تؤول بالإنسان إلى إيغار صدره نحو إخوته المسلمين.
وفي هذا الباب جاء قول ربنا -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6]، فهو نداء من الله -جل وعلا- وخطاب كريم منه سبحانه لعباده المؤمنين؛ لأنهم الذين يلتزمون بأوامره ونواهيه، فيمتثلون ما أُمروا به وينتهون عما نهوا عنه، وقال لهم: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)[الحجرات: 6]: إن جاءكم شخص بخبر من الأخبار، (فَتَبَيَّنُوا)[الحجرات: 6]: تثبتوا من هذا الخبر، والسبب في ذلك قال: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ)[الحجرات: 6]، فلربما بنيتم على هذا الخبر أمرًا من الأمور، وتصرَّفتم تصرفًا من التصرفات، فأدَّى بكم ذلك إلى الخطأ الفاحش وإلى الغلط البيِّن، فحينئذٍ تصبحون على ما فعلتم من هذه العجلة، وهذا الموقف المتسرع دون تثبت، تَصيرون نادمين؛ لأنكم رأيتم ثمرة تعجُّلكم سيئة غير مقبولة، فماذا يضيركم أن تتثبتوا وأن تتبيَّنوا قبل أن تتعجلوا؟!
وهذا الأمر يحتاجه الإنسان في كل مراحل حياته أن يكون عنده ضبط وتصفية لكل خبر يصل إليه، فلا يأخذ الخبر على ظاهره، ولا يبني عليه لأول وهلة، وإنما يتثبت مهما كان هذا الذي أخبرك من الناس موثوقًا عندك، وتأملوا أن الآية جاءت مقيدة المجيء بالخبر على لسان الفاسق: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ)[الحجرات: 6]، وهذا والله أعلم إشارة إلى أن الذين يحملون الأخبار الكاذبة يتصفون بهذا الوصف، وهو الفسق، وهو الخروج عن الطاعة، والخروج عن الاستقامة، وإلا فإن المؤمن لا ينقل إلا الأخبار الطيبة، ولا يروي إلا الأحاديث الصادقة إصلاحًا وخيرًا وبرًّا، وإحسانًا إلى الناس.
لكن ربما تصرَّف بعض الناس تصرفًا عن اجتهاد منه يبلغه الخبر من شخص يظنه صادقًا، ثم يتبين له أن هذا الذي نقل له الخبر؛ إما أن يكون كاذبًا، وإما أن يكون مخطئًا غير متثبت أيضًا، فحينئذٍ تكون المشكلة، فكم من الأواصر والأرحام التي قطعت بسبب الأخبار التي لم يتثبت منها! بل كم من الأرواح قد أزهقت بسبب خبر لم يتثبت منه!
وفي هذا المقام يورد العلماء -رحمهم الله- سبب نزول هذه الآية العظيمة التي هي أساس وأصل عظيم في نقل الأخبار وتلقِّيها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6]، قال العلماء: إنها نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فقد جاء عن قتادة أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط مصدقًا إلى بني المصطلق، بعثه ليحضر صدقاتهم؛ إذ كانوا قد دخلوا في الإسلام، فلما ذهب إليهم وأبصروه، أقبلوا نحوه، فهابهم لما رأى إقبالهم إليه، خاف منهم وظن أن هذا العدد الذي أقبل إليه يريد به شرًّا، وأنهم لم يكونوا قد صدقوا في إسلامهم، فحينئذٍ هاب هذا الجمع وخاف منه، فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فهو لَمَّا رآهم مقبلين نحوه بعددهم الكبير، ظن أنهم يريدون به شرًّا وسوءًا، وأنهم لا يريدون إخراج الزكاة؛ لأنهم ارتدوا، فنقل هذه الحال إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، وأمره أن يتثبت ولا يَعجل، فانطلق خالد -رضي الله عنه- حتى أتاهم ليلًا، فبعث عيونه، فلما جاؤوا أخبروا خالدًا أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم، وسمعوا صلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد -رضي الله عنه-، ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخبره بهذا الواقع، فنزلت هذه الآية.
ومن هنا يُروى عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "التأني من الله والعجلة من الشيطان".
فهذا الأصل -أيها الإخوة في الله- نحتاجه اليوم احتياجًا عظيمًا على وجه الخصوص في أيامنا هذه، وخاصة مع وجود وسائل التواصل ونقل الأخبار التي تتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي، وما يبث عبر الشبكة العالمية الإنترنت أخبار كثيرة جدًّا، بل إن بعضها تجده مرفقًا به صور ومقاطع مصورة، فيظن الإنسان أنها براهين على هذا الخبر المنقول، وليعلم أنه في القضاء لا يعتمد القضاة مثل هذه الصور، ولا المقاطع المصورة؛ لأنها خاضعة للتزوير وللكذب، فبإمكان التقنيين أن ينشؤوا صورًا كاذبة خاطئة، بل مقاطع مصورة كاذبة خاطئة، قد تظهر الإنسان في مكان يَسوءُه، وقد تصور مكانًا بصورة معينة، وهذا معروف لدى معظم الناس أنه يمكن أن يغير ويبدل في الصور والمقاطع المصورة، ولذلك من عقل الإنسان وفهمه وإدراكه أنه لا يعتمد على هذه الصور، ولا هذه المقاطع ولا هذه الأخبار، وخاصة إذا كانت في أمور عظيمة، أو كانت تتعلق بالقدح في أشخاص، أو كانت متعلقة بأخبار عامة تهم المجتمع، أو كانت متعلقة بأصحاب الشأن والهيئة والمكانة والإدارة والمسؤولية؛ لأنهم مستقصدون بأن يظهر عنهم من الأخبار والأقوال ما يسيء إليهم، وهذا الأمر ممنوع مع كل أحد أن يصدق فيه الخبر، دون أن يتثبت منه.
وأيضًا يتأكد هذا الأمر في أيامنا هذه، وخاصة نحن أهل هذه البلدة الطيبة المباركة المملكة العربية السعودية، فإنه قد ثبت من خلال التقنيين المتخصصين في الجهات المختصة أنه يبث عن المملكة من الأخبار والأقاويل والشائعات في كل دقيقة عبر الشبكة العالمية ومواقع التواصل، يبث مئات، بل آلاف الأخبار الملفقة التي يراد بها الإساءة إلى هذه البلاد، وإلى ولاتها وإلى أهلها وساكنيها على وجه العموم، وذلك لزعزعة الأمن وإفقاد الثقة فيما بين الناس بعضهم البعض، وفيما بين الناس وبين ولاتهم، فإن أول الأفعال والأحداث السيئة مبدؤها معلومة مغلوطة، فكم من إنسان بنى تصرفًا وفعلًا على خبر ومعلومة غير دقيقة، وهذا الأمر الإلهي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6].
هذا الخبر والأمر الرباني ينبغي أن يكون منهجًا واضحًا بيِّنًا لكل إنسان يحترم عقله وأخلاقه، بل قبل ذلك يحافظ على دينه؛ حتى لا يبهت أحد، ولا يسيء لأحد، ولا يظن بأحد ظنًّا في غير محله، وكما تقدم، كم من الوقائع المؤسفة والتصرفات السيئة التي بدرت من أناس بسبب اعتمادهم على أخبار ملفقة، أو أحداث غير متثبت منها، فكان حريًّا بالمؤمن أن يكون هذا منهجه، وأن يكون هذا سبيله دائمًا لا يجعل عقله وفكره مفتوحًا لكل خبر يؤثر فيه، ولكن عنده من المرشحات والمصفيات ما يجعل هذه الأخبار وإن طرقت سمعه، لكنها بعيدة عن التأثير في فكره؛ حتى لا يتصرف التصرفات الخاطئة، ولا تدخل عليه التشويش في نفسه؛ لأن مجرد بلوغ الخبر الملفق يؤثر في نفسية الإنسان، والإنسان في غنى عن مثل ذلك، فليس هو مكلف بأن يحيط بالعالمين علمًا، ولا أن يطلع على أخبارهم وأحداثهم، فحسبه خصوص نفسه، وألا يتعلق بأمور الآخرين؛ لا يدري أصدقت أم كذبت، حتى لو كانت صادقة فليس معنيًّا بها.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: فإن هذا الخطاب الرباني في الأمر بالتثبت والتبين في الأخبار كما تقدم، منهج ينبغي أن يسلكه المؤمن في كل أمور حياته في الأخبار التي ترده، ويتأكد هذا الأمر في مقامين عظيمين: الأول مقام عام، والثاني مقام خاص.
أما المقام العام فهو فيما يتعلق بالأخبار التي يتوقف عليها شأن عام يتعلق بالناس بعامة، أو الوطن، أو أمة الإسلام، أو يتعلق بأمة وفئام من الناس، ومثل هذه الآية منهج أصيل فيه.
ثم أيضًا جاءت آية أخرى لتبين أن الإنسان ينبغي ألا يتوجه في الأمور إلا فيما يعنيه، فإن ذلك من حسن إسلامه؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: "مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه"؛ لأن بعض الناس يجعل من نفسه مسؤولاً عن كل شيء، ويريد أن يدلي في كل شيء، ولكن الأمر كما قال ربنا -سبحانه-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء: 83]، فهذا أصل عظيم في الأمور المهمة والأمور العامة.
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ)[النساء: 83]، وهذا لعظم شأن الأمن -وكذلك ما يؤثر فيه ويؤدي إلى الخوف- بيَّن الله -تعالى- أن الذين يتلقفونه لأول وهلة يذيعون به، فيسببون القلاقل والأفكار السيئة والتخوف في نفوس الناس، لكن المنهج الرشيد: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ)[النساء: 83] في حياته عليه الصلاة والسلام، وإلى ما تأمر به سنته بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وإلى الذين هم مُخوَّلون بذلك (وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ)[النساء: 83]: أهل الاختصاص بهذه القضايا، فماذا تكون الحال؟ (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء: 83] أهل الاختصاص لديهم القدرة على التثبت من هذه الأخبار المتعلقة بالشؤون العامة التي لها تأثير على المجتمع بأسْره، وهذا مآله إلى الرشد والخير.
وهذا يقتضي أنه إذا كان الأمر يتصل بحقيقة واقعة فبإمكان الإنسان أن يتواصل مع أهل الاختصاص في كل مجال؛ في مجال الأمن، أو في الأمور الشرعية، أو في الأمور الاقتصادية، أو في غير ذلك، يحيل إليهم هذا الأمر وهم بخبرتهم ودِرايتهم، وما علَّمهم الله وما كلَّفهم به، يستطيعون أن يتبينوا.
والأمر الثاني الذي يحتاج إليه تأكيدًا في نقل الأخبار والتثبت منها عند بلوغها: ما يتعلق بخاصة الإنسان، وأعني بذلك أهل بيته وأرحامه وجيرانه، فكثيرًا ما تتقطع أواصر القربى ويتفرق الزوجان، وتتقاطع الأرحام، بسبب أخبار غير مُتثبت منها، ولذلك فإن الأصل أن الإنسان لا يقبل ما يشاع عن أهل بيته، ولا عن قرابته وأرحامه، وأن يحمله على باب النميمة التي نُهِي عن نقلها، وألا يكون متقبلًا لكل خبر وأمر ينقل إليه، فإن هذا سيفتح من أبواب الشكوك بينه وبين زوجه، وأبواب القطيعة بينه وبين أرحامه شيئًا كثيرًا.
ومن خلال الوقائع التي تمر على أهل الاختصاص يشاهد أنه ربما وقع الطلاق بسبب تشكُّك مصدرُه خبرٌ فتح الإنسان أذنيه له، فأدى به إلى الشك وإلى التحسس، وإلى المتابعة التي آلت إلى الفراق والطلاق، ومع أرحامه إلى القطيعة؛ لأنه نقل هذا الخبر وبلغه ذاك، ولهذا كان العقل الرشيد الذي تأمر به الشريعة أن الإنسان لا يقبل في هذا المجال على وجه الخصوص خبرًا، ولا يتتبعه؛ لأن من تتبع شيئًا لا بد أن يجد شيئًا يؤثر في نفسيته، ويؤدي به إلى التشكك طيلة دهره، ولذلك ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس منا من خبَّب امرأة عن زوجها"، ومن التخبيب أن يكون نقل هذه الأخبار التي تجعل المرأة تزهد في زوجها، ويجعل الزوج يزهد في زوجته، ولكنَّ الزوجين كليهما مخاطبان بألا يفتحا هذا الباب للتشكيك فيما بينهما، فالأصل فيهما هو السلامة والحفظ، والبعد عما يراد من هذه الألفاظ الكاذبة.
وفي هذا المقام أيضًا وضع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أساسًا راسخًا لا بالنسبة للإنسان الذي يبلغه الخبر، ولا بالنسبة للناس الذين يتناقلون فيما بينهم الأخبار؛ ثبت فيما رواه الإمام أبو داود وغيره أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئًا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".
تأملوا إلى هذا المنهج الرشيد من هذا النبي الكريم: "لا يبلغني أحد من أصحابي" ينهاهم، يقول: لا يحدثني بعضكم عن بعض بشيء مما تكرهونه فيما بينكم، وهذا يقتضي أن يكون مع التثبت أيضًا ستر الناس بعضهم على بعض، فلا خير في مجتمع يتناقلون فيه الأسرار، ويهتكونها ويشيعونها؛ لأن منهج الشريعة هي الستر حتى لو وقع شيء من خطأ، فالمنهج الشرعي هو ستر الناس بعضهم على بعض، لا أن يشيعوا ما يقع وما تزل به الأقدام، وقد حذَّر الله من ذلك فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)[النور: 19].
يحبون أن تشيع أن تُتناقل هذه الأخبار، وأن تترسخ الفاحشة وأخبارها ووقائعها في المجتمع، فهؤلاء متوعدون بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ولذا يقول عليه الصلاة والسلام: "لا يبلغني أحد عن أحد شيئًا"، هكذا أنت لا تقبل ممن يخبرك بشيء من هذه الأخبار، ليكن أول سؤال حين يبلغك ما الفائدة؟ ما الثمرة في بلوغ هذا الخبر؟ وأي شيء يعنيني فيه؟ فإن كان مختصًّا بي، فهو نوع من الغيبة والنميمة، فلا تقبلها وتردها على صاحبها.
"لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئًا، فإني أحب أن أخرج سليم الصدر"، وما أحسن أن يكون صدر الإنسان سليمًا نحو الجميع! وما أحسن أن يفرغ البال والفكر من المشوشات التي يتناقلها الناس بدون فائدة!
وبعد -أيها الإخوة المؤمنون- فكم نحتاج إلى هذا الأدب العظيم، وخاصة في مثل أيامنا هذه، ينبغي أن نتواصى بهذا الأدب، وأن نجعله منهجًا راسخًا، نربي أنفسنا عليه، ونربي أهلينا وأولادنا، ويوصي به بعضنا بعضًا، فبذلك خير وفلاح المجتمع وسعادته، وسلامته من مثل هذه الأمراض النفسية، والعلل الأخلاقية التي إن حلت بمجتمع أفسدته -عياذًا بالله من كل ذلك-!
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا ربنا بذلك، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
الله صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءًا، فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الدعاء.
اللهم أَدِمْ علينا في بلادنا الأمن والطمأنينة، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم رحمة على العباد والبلاد، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، وأبعِد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، وارفع ما بهم من الضر والبلاء.
اللهم عجِّل بالفرج لإخواننا المبتلين في سوريا وفي العراق وفي اليمن، وبورما وليبيا، وفي غيرها من البلاد.
اللهم أنزل عليهم الأمن والطمأنينة، اللهم نَجِّهم من الكرب، ومن الفجائع والشدائد يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار.