الباسط
كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الأديان والفرق - أهل السنة والجماعة |
وبدعة الإرجاء قد أنكرها السلف الصالح كما أنكروا بدعة التكفير والخروج سواء بسواء، قال النخعي رحمه الله تعالى: لأنا لفتنه المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة.أهـ والأزارقة فرقة من الخوارج، وقال أيضا: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابِرِي، والسابري من الثياب هو الرقيق جدا، والمعنى أنهم جعلوا الإسلام رقيقا لما أخرجوا العمل عن الإيمان، وقال الزهري رحمه الله تعالى: ما ابتُدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء، وكان يحيي بن أبى كَثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء. وذكر القاضي شريك بن عبد الله المرجئة فقال: هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثا، ولكن المرجئة يكذبون على الله تعالى.
الحمد لله رب العالمين؛ أكمل لنا دينه، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام دينا، فكان أحسن دين وأقومه وأتمه (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [النساء:125] نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فهو سبحانه مانحُ الهبات، ومزجي العطايا والخيرات (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله) [النحل:53] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ فتح الله تعالى به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فأخرجهم من ظلمات الجهل والهوى إلى نور العلم والهدى (رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [الطَّلاق:11] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن في التقوى تكفير السيئة، والظفر بالمغفرة، والعصمة من الشهوة، والحصانة من الشبهة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ) [الأنفال:29] .
أيها الناس: من أعظم أمراض الأمة، وأشدها فتكا بالقلوب: الاختلاف والتفرق؛ ولذا نهى الله تعالى عباده عنه، وحرمه عليهم، وحذرهم منه (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103] وفي آية أخرى (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ) [آل عمران:105] وفي آية ثالثة (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشُّورى:13].
والتفرق نوعان: تفرقٌ لأجل الدنيا، وهو سبب في فساد القلوب، ووَغَر الصدور، وذهاب الأخوة، وضعف اللُحمة، وانقطاع الرابطة، وقد يصل إلى حدِّ الاحتراب والاقتتال الذي يكون به ذهاب الدين والدنيا، وهو ما خافه النبي عليه الصلاة والسلام على أمته حين قال: "فَوَالله ما الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كما بُسِطَتْ على من كان قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ" رواه الشيخان.
ومن إهلاك الدنيا للناس تنافسهم على جاهها وأموالها تنافسا يؤدي إلى القطيعة والبغضاء وربما القتال.
والنوع الثاني التفرق في الدين، وهو أعظم من الأول وأخطر؛ لأن أصحابه يتخذونه دينا يدينون به، وينتج عنه التكفير والتبديع والتفسيق بلا حجة توجب ذلك، ولا برهان يدل عليه.
ومن قَدَر الله تعالى أن هذين النوعين من الافتراق واقعان في الأمة لا محالة؛ لحكم عظيمة يريدها الرب جل جلاله وهو الحكيم العليم، ومن أبين الحِكَم وأظهرها ابتلاء العباد بذلك ليظهر الثابتون على دينهم من الناكصين على أعقابهم، روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ على إِحْدَى أو ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفَرَّقَتْ النَّصَارَى على إِحْدَى أو ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي على ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً" رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح.
لقد عاش الصدر الأول من هذه الأمة على أحسن حال من: كمالِ إيمان، وصلاح أعمال، وطهارة قلوب، وصفاء نفوس، لم يختلفوا في دينهم، وما فرقتهم دنياهم، مع عظم الفتوح، وتدفق الغنائم والكنوز، فكان الإزراء بالنفس ديدنهم، وكان إيثار إخوانهم سلوكهم، وكان الزهد في الدنيا طريقتهم، مع تعظيمهم للسنة، والتزامهم بأحكام الشريعة.
هكذا كانوا رحمهم الله تعالى ورضي عنهم زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خليفتيه أبي بكر وعمر وصدرا من خلافة عثمان رضي الله عن جميعهم، فبدأت الدنيا تتسرب إلى قلوب أبنائهم، واندس في المسلمين حاقدون عليهم من اليهود والمجوس، فأَغروا ضعاف القلوب بالدنيا حتى سعَّروا أول فتنة في هذه الأمة وهي الخروج على عثمان رضي الله عنه وقتلُه ظلما وعدوانا، وتتابعت الدماء في إثر دمه خليفة بعد خليفة، ودولة في إثر دولة إلى يومنا هذا، وستظل الدماء تسيل بسبب التفرق والاختلاف إلى آخر الزمان حيث يجتمع الناس على المسيح ابن مريم عليه السلام.
لقد كانت بدعةُ الخوارج أولَ مسمارٍ دُقَّ في اجتماع المسلمين وتآلفهم، أدى إلى تفرقهم وتباغضهم، فسن الخوارج بدعة الخروج على الأئمة سواء كان خروجا بسبب أم كان بغيا بلا سبب، لا برهان من الله تعالى عندهم فيه.
وما خرج الخوارج على عثمان رضي الله عنه إلا بعد أن طعنوا فيه، بل كفَّره بعضهم فسنت الخوارج الطعن في المسلمين وتكفيرهم بلا موجب يوجب ذلك.
ولما تولى لبني أمية الطاغيةُ الظالم الحجاج بن يوسف وأمعن في قتل الناس وأذيتهم كانت المسوغات للخروج على بني أمية موجودةً بظلم ولاتهم، وهي الحجة التي تذرع بها الخارجون عليهم؛ حتى إن العلماء آنذاك وقعوا في حيرة عظيمة بين فتنة الخوارج ومظالم الحجاج، وكانوا يهدئون الناس ويأمرونهم بالصبر، فكان الخوارج والمتعاطفون معهم يحتجون عليهم بظلم الحجاج وولاته.
والناس ينقسمون تجاه انتشار الظلم والمعاصي في دولة من الدول إلى أقسام ثلاثة:
فقسم يجعلونها مسوغات للخروج وسفك الدماء، وهم مخطئون.
وقسم آخر: يوجدون لها الأعذار والمسوغات ويتكلفون لها الأدلة ليجعلوها في حكم المشروع وهم مخطئون أيضا.
وقسم ثالث:لا يقرونها ولا يسوغونها، ولكنهم لا يخرجون على الولاة بسببها، وينكرون على أصحابها بحسب قدرتهم، مع الصبر والدعاء، وهذا هو الصواب.
وكانت هذه الأقسام الثلاثة موجودة في وقت الحجاج، وكان صوت العلماء والعقلاء هو الأقوى؛ إذ أمروا الناس بالصبر والدعاء، ولم يسوغوا للحجاج ظلمه وفجوره، حتى برز اسم عبد الرحمن بن الأشعث -وكان شريفا مطاعا في قومه- وكان واليا للحجاج فأعلن الخروج عليه، وتبعه جمع من القراء والعلماء والصالحين، وكان استعجالهم وخروجهم خطأ فادحا، وكان الصبر مع الدعاء خيرا من خروجهم، فوقعت الكارثة بانكسار ابن الأشعث ومن معه، فمزقوا كل ممزق، وقوَّى ذلك الحجاج، فازداد ظلمه وعسفه بعد نصره، وكانت هذه الفتنة شرا على الإسلام والمسلمين.
وبانتصار الحجاج، وانكسار ابن الأشعث قوي أصحاب القسم الثاني وهم المستكينون للظلم، المسوغون للمعاصي والفجور، وعلت أصواتهم، وسادت في الناس أقوالهم، وأطلت بقوتهم ومكانتهم بدعةُ الإرجاء بقرونها، وانتشر قول المرجئة الذين يفصلون العمل ويخرجونه عن حقيقة الإيمان، فيرون أن العمل لا يؤثر في الإيمان لا بالكمال ولا بالنقص ولا بالانتفاء، وقويت هذه البدعة النكراء بعد فتنة ابن الأشعث كما لم تقو من قبل، وفي المقابل لها تمكنت بدعة التكفير والخروج كرد فعل لها؛ إذ زادت مسوغاتها، وكثرت عند الناس أسبابها، قال قتادة رحمه الله تعالى: إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث.
وأضحت هاتان البدعتان -التكفير والإرجاء- متقابلتين، إن ظهرت إحداهما في مصر من الأمصار، أو زمن من الأزمان أظهرت في مقابلها البدعة الأخرى؛ فإن كثرت المعاصي والمنكرات، واستعلن أهلها بها، وصُنعت لها المسوغات، واختلقت لها المعاذير؛ قابلتها بدعة التكفير والخروج ولا بد، فركبها جهلة يسفكون الدماء، ويظنون أنهم مصلحون، وهم لا يزيدون الفتن إلا اشتعالا.
وإذا ظهر القول بالتكفير بلا حجة ولا برهان، وأتبعه أصحابه بالخروج ظهر المرجئة ببدعتهم فسوغوا المعاصي، وشرَّعوا للمنكرات، واختلقوا المعاذير لأرباب البغي والفساد، ولا سبيل إلى القضاء على هاتين البدعتين إلا بسلوك صراط أهل العلم والعدل والحق، وذلك بلزوم الجماعة، والتزام الطاعة، وإنكار المنكرات حسب الطاقة، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا شقَّ لعصى الطاعة، ولا مفارقة للجماعة.
وبدعة الإرجاء قد أنكرها السلف الصالح كما أنكروا بدعة التكفير والخروج سواء بسواء، قال النخعي رحمه الله تعالى: لأنا لفتنه المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة.أهـ والأزارقة فرقة من الخوارج، وقال أيضا: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابِرِي، والسابري من الثياب هو الرقيق جدا، والمعنى أنهم جعلوا الإسلام رقيقا لما أخرجوا العمل عن الإيمان، وقال الزهري رحمه الله تعالى: ما ابتُدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء، وكان يحيي بن أبى كَثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء. وذكر القاضي شريك بن عبد الله المرجئة فقال: هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثا، ولكن المرجئة يكذبون على الله تعالى.
وسئل ابن عيينة رحمه الله تعالى عن الإرجاء فقال: المرجئة اليوم قوم يقولون: الإيمان قول بلا عمل، فلا تجالسوهم ولا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ولا تصلوا معهم ولا تصلوا عليهم. وقال عبد الله بن نمير: سمعت سفيان الثوري وذكر المرجئة فقال: رأي محدث أدركت الناس على غيره.
نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقنا حسن الاتباع، وأن يجنبنا الابتداع، وأن يختم لنا بخير إنه سميع قريب...
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: لقد كانت فتنتي التكفير والإرجاء من أعظم الفتن التي جرَّت على الأمة شرورا عظيمة، فأنتج التكفير استحلال الدماء المعصومة، والتخريب في بلاد المسلمين.
كما أنتج القول بالإرجاء تخريبا مقابلا لعقائد الناس وأخلاقهم وأفكارهم، واجترأ بسببه المنافقون والمرتدون على حمى الشريعة فاستباحوها، وعلى المقدسات فانتهكوها باسم الإبداع أو حرية الرأي أو التعددية الثقافية أو غير ذلك، وكان الإرجاء حاميا لهم من أن يُتهموا بالردة أو الزندقة على اعتبار أنهم يشهدون الشهادتين، ولو أتوا بما يناقضها.
وفي هذا القول الفاسد إلغاءٌ لشرائع الإسلام، وحصرٌ له في مجرد النطق بالشهادتين، وتعطيل للنصوص المتضافرة من الكتاب والسنة التي تدل على أن العمل من الإيمان، وأنه مؤثر فيه زيادة ونقصا وانتفاء قال الله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ) [آل عمران:173]وقال تعالى (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2] وقال تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) [الفتح:4] فكل هذه الآيات -وغيرها كثير- تدل على زيادة الإيمان بالعمل الصالح، وروى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ من الْإِيمَانِ" متفق عليه، فهذه الشعب التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للإيمان هي أعمال صالحة، مما يدل على أن العمل من الإيمان.
وإذا كان العمل من الإيمان فقد ينتقض الإيمان بالقول أو بالفعل كما ينتقض بالاعتقاد؛ فالسجود للصنم عمل ينقض الإيمان ولو شهد الساجد شهادة الحق، وشتم الرب جل جلاله أو ملائكته أو كتبه أو رسله ناقض للإيمان وهو مجرد قول، ولو كان الشاتم يشهد شهادة الحق. فإن السجود للصنم وسب الله تعالى مما ينافي الشهادتين.
وبدعة الإرجاء منذ ظهرت وهي في ازدياد، وكل اعتداء على مقدسات المسلمين من قبل من يَدَّعون أنهم مسلمون من القُصاص والروائيين والصحفيين والمفكرين إنما هو من آثار هذه البدعة النكراء.
وكل إشاعة للفساد، وتسويغ للفواحش والمنكرات فإن الإرجاء من أكبر أسبابه.
وكل نشر لكتب الزندقة والإلحاد، وروايات الفحش والانحلال، ومليء إعلام المسلمين بالبرامج الساقطة، والأفلام الماجنة، والمفاهيم الفكرية المنحرفة التي تفسد العقول والأخلاق فإن الإرجاء والمرجئة وراءه.
وكل طعن في الشريعة، أو رفضٌ لأحكامها، أو عدم تسليم لنصوصها من أبناء المسلمين فهو من نتائج الإرجاء، حتى سمعنا من الجهلة من يظنون أنهم يرتكبون الموبقات، ويعلنون بالمنكرات، ويدعون الناس إليها، وربما وقعوا في نواقض الإسلام، ويتحدث واحدهم عن كمال إيمانه، وصلاح قلبه، واستقامة حاله! فأي إيمان هذا؟ وأي صلاح واستقامة؟! نعوذ بالله تعالى من الجهل والهوى.
بل انتشرت مقولة أن الإيمان في القلب، ولو كان عمل صاحبه منافيا لما يدَّعي من كمال إيمان، ويكثر ذلك في أهل الفسق والمجون من أهل الغناء والتمثيل والرقص وأشباههم، متناسين أن العمل يُصدِّق ما يدَّعون من الإيمان أو يكذبه، فإن كان عملا صالحا صدَّق صاحبه فيما ادعاه من إيمان، وإن كان عملا فاسدا فقد كذَّب المدعيَ في إيمانه عملُه.
بل تجاوز أقوام في هذا العصر مذاهب المرجئة القدماء، فادعوا أنه لا معنى للكفر والإيمان، وأن الحق خفي، وأن الفصل في الأديان لعدل الله تعالى يوم القيامة، فلا موجب للتنازع من أجل الأديان، وفي هذه المقولات الفاسدة إلغاء للإسلام، وتصحيح لكفر الكفار.
واختُرعت مصطلحات تتوافق وهذا الإرجاءَ الجديد المبالَغ في غلوه من نحو استبدال لفظ الكافر والمبتدع بالآخر، والتعددية الثقافية التي يُقصد بها التعددية الدينية الموجبة للإخاء في الإنسانية، الملغية للأخوة الإسلامية، النافية للولاء والبراء.
وكل هذا الضلال والانحراف الذي يسوق على الناس، ويغتر به أهل الجهل والهوى إنما نشأ عن القول بالإرجاء، وهو أهم سبب لانتشار التكفير والخروج، وتفاقم الفتن في بلاد المسلمين.
ولا سبيل إلى القضاء على التكفير والخروج إلا بالقضاء على الإرجاء، وتعظيم الحرمات، وحماية جناب الشريعة من عبث العابثين، وسخرية المنافقين والمرتدين، وتحجيم المعاصي والمنكرات التي هي سبب كل فتنة وبلاء، ونشر العلم الصحيح في الناس فكم أودى الجهل بأصحابه في ظلمات لا مَخْلَص لهم منها، وهذا واجب على كل ناصح مخلص لنفسه وإخوانه وأمته؛ فإن العقوبات إذا تنزلت أصابت الجميع، وإن الفتن إذا تفاقمت لم يستثن ضررها أحدا.
وصلوا وسلموا على نبيكم...