العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - الدعوة والاحتساب |
وتعظم منزلة هذا الولي حتى إن الله -تعالى- يكره أذاه ومساءته؛ فالموت حق كتبه الله على البشر، والبشر يكرهون الموت لما فيه من الشدة والكرب؛ فيرحم الله أولياءه ويلطف بهم، ويشفق عليهم، ويحسن لهم الختام!
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمَّا بَعْدُ: فإنَّ الاهْتِداءَ بالوحي، والسير في ضَوْءِ النَّصِّ مسلك المُوَفَّقِين من عباد الله، وإنَّ أَهْلَ الإيمان والحق يسيرون على طريق واضِحَة، يتَّبِعُون المُحْكَم من كتاب الله -تعالى-، والصحيح من سُنَّةِ نَبِيِّه -صلى الله عليه وسلم-، ويؤمنون بالمتشابه منهما ويقولون: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)[آل عمران:7].
أيها الإخوة: وهذه وقفة مع نصٍّ من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أعذبُ الحديث وأبلُغه، وأجمعُه وأنفعه بعد كلام الله -تعالى-، نأخذ من هذا الحديث العِبْرةَ والمَوْعِظَةَ الحسنة، والطريق الصحيحة التي تأخذ بنا نحو التسديد والتوفيق، في الدنيا والآخرة.
حديث قدسي عظيم مخرج في الصحيح يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويرويه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -تبارك وتعالى- أنه قال: "مَنْ عادى لي وليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحرب، وما تَقَرَّبَ إليّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصرَهُ الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما تَرَدَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعله تَرَدُّدِي عن نفس المؤمن يكره الموْتُ وأنا أكره مساءَته"؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة عن هذا الحديث: "هو أَشْرَفُ حديثٍ رُوِيَ في صِفَة الأولياء".
لقد بيَّن هذا الحديثُ منزلةَ أولياءِ الله عنده -تعالى-، وولي الله هو: العالم بالله، المواظب على طاعته، المخلص في عبادته. جمع بين الإيمان والتقوى، فجمع الله له البشرى في الدنيا والآخرة، وأذهب عنه الخوف والحزن: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ)[يونس:62-64].
وجاء عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما أنَّ أولياءَ الله هُمُ الذين إذا رُؤوا ذُكِرَ الله -تعالى-.
وما ذاك إلا لأنَّ ذِكْرَ اللهِ في قُلُوبِهِمْ وأَلْسِنَتِهِمْ، وأثره ظاهر على جوارحهم فهم يُذَكِّرون النَّاسَ رَبَّهُمْ؛ فمن رآهم ذكر الله -تعالى-.
ما أَعْظَمَ مَنْزِلَةَ أَوْلِياءِ اللهِ -تعالى- حينما يُنْذِرُ اللهُ -تعالى- مَنْ عادَاهُمْ بِالحَرْبِ!! عاداهم بسبب صلاحهم أو عبادتهم أو دعوتهم أو جهادهم، وما أكثر الذين يعادون أولياء الله ويظلمونهم، فويل لهم! كيف يقابلون الله وقد عادَوْا أولياءه؟!
قال ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ الله تعالى-: "فقد آذَنْتُهُ بالحرب: فقد أعلمته بأني مُحَارِب له حيث كان محاربًا لي بمعاداة أوليائي"، إلى أن قال: "واعلم أن جميع المعاصي محاربةٌ لله -عز وجل-، قال الحسن: "يا ابن آدم هل لك بمحاربة الله من طاقة؟ فإن من عصى الله فقد حاربه، وكلما كان الذنبُ أقبح كان أشد محاربة لله، ولهذا سمى الله -تعالى- أكلة الربا، وقطّاع الطريق محاربين لله -تعالى- ورسوله؛ لعظيم ظلمهم لعباده؛ وسعيهم بالفساد في بلاده، وكذلك معاداة أوليائه؛ فإنه -تعالى- يتولى نصرة أوليائه ويحبهم ويؤيدهم فمن عاداهم فقد عادى الله وحاربه" ا.هـ.
وقال الفاكهاني: "في هذا تَهْدِيدٌ شديد؛ لأنَّ من حاربه الله أهلكه، ومن كره من أحب الله خالف الله، ومن خالف الله عانده، ومن عانده أهلكه، وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة، فمن والى أولياء الله أكرمه الله" ا.هـ.
عباد الله: وقوله: "وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه" نعم، ما تقرب المتقربون بشيء أحب عند الله من فرائضه التي فرضها، ولولا عظمةُ تلك الفرائض لما جعل العباد يتعبدونه بها، يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والوَرَعُ عمَّا حَرَّمَ الله، وصدق النية عند الله -عز وجل-" ا.هـ ، وهذه الدرجة هي درجة المقتصدين أصحاب اليمين.
أمَّا السابقون المقرَّبُون: فإنهم تقرَّبُوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بِالوَرَعِ؛ وذلك يوجب للعبد محبة الله؛ كما قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتَّى أُحِبَّه" فمن أحبه الله رزقه محبته وطاعته، والاشتغال بذكره وخدمته؛ فأوجب له ذلك القرب منه، والزُّلْفَى لديه، والحظوة عنده
ومحبَّةُ اللهِ ومحبَّةُ ما يُحِبُّ الله من أعظم المقامات وأرفعها؛ لذلك علّم الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- سؤال ذلك، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدّر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا بربي -تبارك وتعالى- في أحسن صورة-إلى أن قال-: يا محمد: قل اللهم إني أسألك حبَّك وحبَّ من يحبك وحبّ عملٍ يقرب إلى حبك"؛ صححه البخاري والترمذي، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم ارزقني حبّك وحبَّ من ينفعني حبُّهُ عندك، اللهم ما رزقتني مما أحبُّ فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحبُّ فاجعله فراغًا لي فيما تحب"(أخرجه الترمذي وحسنه).
فمتى امتلأ القلب بعظمة الله -تعالى-، محا ذلك من القلب كلَّ ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه؛ فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره.
فيا لها من منزلة عظيمة حينما يسدّد الله العبد ويوفقه لطاعته حتى لا تعمل جوارحه إلا ما يرضي الله -تعالى-، وتباعدُ كلّ البعد عما لا يرضيه، هذه والله هي السعادة في الدنيا والآخرة، ومن كان كذلك كان جديرًا أن يُعْطِيَهُ الله سؤله، ويعيذه إذا استعاذه، وينصره إذا استنصره، ويجيبه إذا دعاه، كيف وقد قال: "وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" فمع تسديد الله وتوفيقِه لهذا العبد الصالح يجعله مجاب الدعوة؛ لكرامته عليه - عز وجل-.
عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كم من ضعيف متضعِّف ذي طِمْرَيْنِ لو أقسم على الله لأَبَرَّهُ، منهم البراء ابن مالك".
وتعظم منزلة هذا الولي حتى إن الله -تعالى- يكره أذاه ومساءته؛ فالموت حق كتبه الله على البشر، والبشر يكرهون الموت لما فيه من الشدة والكرب؛ فيرحم الله أولياءه ويلطف بهم، ويشفق عليهم، ويحسن لهم الختام، وهذا معنى قوله في الحديث: "وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته" فسبحان الله ما أعظم شأن أوليائه عنده!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ)[يونس:62-64].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المؤمنون: يُظْهِر هذا الحديث الفرق العظيم بين الطاعة والمعصية؛ فالطاعة تقرب إلى الله -تعالى- حتى تجعل صاحبها من أوليائه الذين يتولاهم بعنايته ورعايته، ويحفظهم من شياطين الجن والإنس، ويعلن الحرب على من عاداهم من أهل المعاصي والفجور.
وهذا يفسر لنا تردي أحوال الذين يؤذون أولياء الله -تعالى- خاصة في جوانب الدين والأوامر والنواهي؛ فكم من عدو لله -تعالى- آذى أولياءَه بيده أو لسانه أو قلمه، من علماء ودعاةٍ وصالحين، ومع ذلك تراه يتقلب في مَلَذَّات الدنيا، لم يُؤْذَ في نفسه أو ماله أو ولده؛ بل ربما يزيده الله من ذلك؛ لكن لو فتشت عن دينه لوجدت أنه ينحدر من معصية إلى أعظم منها؛ حتى يقترف أنواع الفجور والآثام؛ بل ربما ارتكس في الكُفْر والإلحاد والزَّنْدَقَة، فيكون انتقامُ الله منه لأوليائه الذين آذاهم أن سهل عليه أَمْرَ الكفر والفجور حتى يخلد في العذاب، ويكون حسابه في الآخرة أشد وأنكى.
ويبيِّنُ هذا الحديث بجلاء خطأ من يهمل الفرائض ويجتهدُ في النوافل، تجده يحافظ على قيام الليل في رمضان، ويتنفل بالحج والعمرة؛ لكنه يهمل الصلوات المفروضة بقية العام؛ ربما يتصدق على الفقير والمسكين، ويبذل ماله وجاهه لمساعدة المحتاجين، ويحرص على بناء مسجد قبل أن يموت لكنه لا يخرج زكاة ماله، أو لا يجتنب الطرق المحرمة في كسبه من ربًا وغيره، فهذا وأمثاله حافظوا على أنواع من النوافل؛ لكنهم أهملوا الفرائض فخرجوا عن ولاية الله تعالى.
كما يبين الحديث ضلال المُبْتَدِعَة، الذين شرعوا لهم عبادات لم تفرض، وأهملوا العبادات المفروضة؛ فما تَعَبَّدَ مُتَعَبِّدٌ لله -تعالى- بأفضل ولا أحبَّ إليه مما افترضه على عباده.
وهذه الفرائض: إما أن تكون ظاهرة يفعلها العبدُ؛ كالصلاة والزكاة وغيرهما، أو يتركها؛ كترك الزنا والخمر وسائر المعاصي، وإما أن تكون باطنة؛ كالعلم بالله -تعالى-، والحبِّ له، والتوكل عليه، والخوف منه، وغير ذلك.
ومن هِدَايات هذا الحديث: الإلماح إلى ما يحتاجه العبد من تسديد الله وتوفيقه.
كم نحتاج إلى أن نسدد في أقوالنا وأفعالنا؛ فالمعاصي تكثر فينا، والفتن تحيط بنا من كل جانب، واحتمالُ الوقوع في الإثم أقرب إلينا من شراك نَعْلِنا؛ فكيف يكون إبصارُ الحق، والثباتُ عليه، ومجانبةُ الإثم والحرام إلا بتسديد الله لأسماعنا وأبصارنا وسائر جوارحنا.
يا تُرَى كيف سيكون حال العبد إذا فقد توفيق الله وتسديده؟! وكم سيكون تخبطه في الإثم والفتن إذا تخلى الله عنه؟! بل إن التسديد والتوفيق نحتاجه حتى في أمور دنيانا؛ من بيع وشراءٍ، وذهاب ومجيء، ووظائف وأعمال.
ونحتاج إلى التَّسْدِيد في بُيوتنا وفي تعاملنا مع أهلنا وأولادنا وقراباتنا؛ فَكَمْ مِنْ عَبْدٍ لم يُسدَّدْ يخطئ الاختيار في عمله ووظيفته، ويسيء التصرف في بيته ومع أهله؛ فاستحالت حياته شقاءً، ولو كان مُسَدَّدًا لكان أسعد الناس: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها".
وهذا هو التوفيق والتسديد؛ فالزموا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله -تعالى-، وتقربوا إليه بالفرائض ثُمَّ بِالنَّوَافِلِ، وجانبوا سخطه ومعاصيه، ووالُوا أولياءه، وعادُوا أعداءه؛ حتى تكونوا من أوليائه.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..