المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | د يوسف بن عبدالله العليوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات |
وإن من أعظم ما يحصل به تعظيم هذه الأشهر اجتنابَ ظلمِ النفس فيهن؛ كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة: 36], وظلم النفس لا يحل في كل الأشهر والأيام، لكن النهي عنه هنا جاء تشريفًا لهذه الأشهر، وتعظيمًا لشأنهن...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
عباد الله: إن الله -جل جلاله- يصطفي بإرادته وحكمته ما يشاء مما يشاء؛ فهو يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، ويصطفي من الأمكنة والأزمنة ما يشاء؛ كما اصطفى مكة والبيت الحرام، واصطفى من الشهور شهرَ رمضان، ومن الأيام يومَ الجمعة، ومن اليوم أوقاتًا للطاعات؛ (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)[القصص: 68].
ألا وإن من الأزمان التي خصّها الله -جل جلاله- بالاختيار والفضل, وعَظَّم أمرَها وفَخَّم شأنَها؛ الأشهرَ الحُرُم، التي نعيش الآن مع أول شهر من شهورها المتواليات، وهي أربعة أشهر هجرية قمرية؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الحج يوم النحر: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ"(متفق عليه).
وقد تولى الله -جل جلاله- تحديدَ هذه الأشهرِ الهجرية في كتابٍ عنده محفوظ؛ كما قال الله -سبحانه-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة: 36], ومعنى أن تكون حُرُما: أن لها عند الله حُرْمة، وأنه يجب على العباد احترامها، وأنه يعظم انتهاك المحارم فيها، أشد من غيرها، وقد حرّم الله فيها القتال بين الناس.
ومما ذكره العلماء من مصالح تعظيمها: أن يأمن الحجاج والمعتمرون على أنفسهم وأموالهم؛ ففي الأشهر الثلاثة المتوالية يأمن الحاج أثناء سفره إلى الحج، وأثناء حجه، وبعد رجوعه، وفي منتصف العام في رجب يأمن المعتمرون الذين يقدمون من أماكن نائية, وذكروا أن في كفّ الظلم فيهن تعويدًا للنفس على ترك الظلم من أصله.
ولقد كانت في هذه الأشهر مصالح اقتصادية للعرب, إذ تزدهر فيهن تجارتُهم وأسواُقهم؛ لما فيهن من الأمن والأمان, وهذه مصالح ظاهرة، والله له الحكمة البالغة في أمره وشرعه، سواء علمناها أم خفيت عنا.
فاتقوا الله -عباد الله- وعَظِّموا هذه الأشهرَ التي عظّمها الله, وإن من تعظيم هذه الأشهر الحرصَ على العملِ الصالحِ فيهن؛ فإن الأجورَ تَعْظُم في الشعائر الزمانية، وقد روى الطبري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن الله -جل جلاله- جعل العملَ الصالحَ والأجرَ في هذه الأشهر أعْظَم".
وإن من الأعمال الصالحات في هذه الأشهر الحجَّ، والأضاحي، وقد خَصّ الله بمزيد فضلٍ العشرَ الأوائلَ من شهر ذي الحجة؛ كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ".
وحضّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصيام في شهر محرم؛ فقال: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ" أخرجه مسلم.
واعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أربع عمرات، كلهن وافقن شهر ذي القَعدة، قال ابن القيم: "لم يكن الله ليختار لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في عُمَره إلا أَوْلى الأوقات وأحقَّها بها".
وليكثر المسلم فيهن من ذكر الله؛ فإنه عمارة للأوقات، وعمارة للقلوب.
ألا وإن من أعظم ما يحصل به تعظيم هذه الأشهر اجتنابَ ظلمِ النفس فيهن؛ كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة: 36], وظلم النفس لا يحل في كل الأشهر والأيام، لكن النهي عنه هنا جاء تشريفًا لهذه الأشهر، وتعظيمًا لشأنهن.
وإنما يحصل ظلم النفس بالاستهانة بتعظيم الله لهن، وبارتكاب ما حرم الله من المعاصي والآثام، وخصوصًا ما يتعلق بهن من تحليل ما حرم الله فيهن, روى الطبري في تفسيره عن ابن -عباس رضي الله عنهما- أنه قال في هذه الآية (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ): "في كلِّهن، ثم خصَّ من ذلك أربعةَ أشهر فجَعَلهن حُرُمًا، وعَظَّم حُرُماتهن، وجعل الذنبَ فيهن أعظم، والعملَ الصالحَ والأجرَ أعظم".
ورَوَى عن قتادة -رحمه الله- أنه قال: "إن الظلمَ في الأشهرِ الحرمِ أعظمُ خطيئةً ووِزْرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظِّم من أمره ما شاء".
فعظِّموا -يا عباد الله- ربكم، وعظّموا ما عظّمه؛ فإن هذه الأشهر من شعائر الله، والله يقول: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وبسنة سيد المرسلين، وهدانا إلى الصراط المستقيم, أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أحلّ الحلال، وحرّم الحرام، وأوضح الشرائع والأحكام، والصلاة والسلام على رسوله خير الأنام.
أما بعد: فإن تعظيمَ الأشهرِ الحُرُمِ من الاستقامة على دين الله، وقد قال الله -جل جلاله-: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)[التوبة: 36]؛ أي: الدين المستقيم.
ولقد كان تعظيم هذه الأشهر عند العرب من بقايا ملة إبراهيم -عليه السلام-، فكانوا لا يقتتلون فيهن، حتى إن الرجل ليلقى قاتلَ أبيه فما يصنع به شيئًا!.
إلا إن مِنهم مَن صار يتلاعب بشرع الله وأحكامه؛ وفقًا لأهوائهم الفاسدة وأعرافهم الجاهلية، فإذا أرادوا القتال والغزو أحلّوا الشهر الحرام، وأنسؤوا أي: أخروا تحريمه إلى شهرٍ آخرَ بدلاً منه؛ حتى يُبْقوا عدد الأشهر الحُرُم أربعةً، فيواطئوا بذلك عدة ما حرم الله، وهم بذلك يزدادون كفرًا إلى كفرهم؛ لأنهم يحلون ما حرم الله من هذه الأشهر؛ كما قال الله -جل جلاله-: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[التوبة: 37].
وتحليل ما حرّم الله من أعظم الذنوب؛ بل أجمع العلماء على كفر من استحل ما حرّمه الله أو حرّم ما أحله الله, مما هو معلوم من الدين بالضرورة.
فالتحليل والتحريم إنما يكون بسلطان الوحي والشرع، لا بحسب ما تمليه العقول والأهواء والرغبات، قال -سبحانه-: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ)[النحل: 116]، وقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)[يونس: 59].
ولـمَّا امتَنَع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الانتِفاع بأمر مباح لتطييبِ خَواطِر أزواجه الطاهرات، نزل عليه الوحي معاتبًا؛ فقال الله -جل جلاله-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[التحريم: 1], فإذا كان هذا في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما بالكم بغيره؟.
ومن حلّل حرامًا أو حرّم حلالاً بغير برهان من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فقد جعل لنفسه حق التشريع، فكان ندّا لله -والعياذ بالله-، ومن أطاعهم فقد أشرك مع الله؛ كما قال الله -جل جلاله-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[التوبة: 31].
جاء في تفسير الآية عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم اتخذوهم أربابًا باتباعهم فيما حلّلوا وحرّموا, وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما من طرق، عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ هذه الآية، فقال عدي -رضي الله عنه-: إنهم لم يعبدوهم!, فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "بَلَى؛ إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ، وَأَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ، فَاتَّبَعُوهُمْ، فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ".
فاتقوا الله -عباد الله- واستقيموا على ما أمر الله, كما أراد الله، وعظِّموا ما عظّمه الله، فهو خير لكم في الدنيا والآخرة؛ (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)[الحج: 30].
ثم صلّوا وسلّموا على رسول الله, فإنه من صلى عليه صلاة واحدة؛ صلى الله عليه بها عشرا, اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله الطاهرين، وخلفائه الراشدين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين, اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك, اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن, اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء وفتنة فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه، يا قوي يا عزيز.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.