العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - |
ويوم أن ترى شيوع الضنك والحزن, وضيقَ الصدر والاكتئاب؛ فاذكر أن الله يعطي أهل طاعته سعادةَ الدنيا وطمأنينتها وأُنسها, ربما لم يملك المرءُ منهم أسباب السعادة الظاهرة, لكن في قلبه السعادة أمثالَ الجبال؛ لأنه قَرُبَ من الربِّ المتعال...
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما يحب ربنا ويرضى، والشكر له على ما أولى مِن نِعَم وأسدى، الإله الذي لا تخفى عليه خافية والسرّ عنده علانية وهو عالم السر والنجوى, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نستجلب بها نِعَمه، ونستدفع بها نِقَمه، وندّخرها عنده.
وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واقتفى إلى يوم الدين.
أصحاب الطاعات والمبادرون إلى الصالحات, المسابقون إلى الجنات لهم عند الله شأن ليس لغيرهم من بقية المخلوقات, فهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ, وهم أولياء الله, هم زينة العباد, والرابحون في الدنيا ويومَ المعاد؛ ذلك لأنهم عرفوا الدنيا وما لأجله خُلِقُوا, فأطاعوا ربهم, ولم يُقدّموا لذة فانية على نعيم جنة دائمة, فصارت الطاعة لذّتهم والمسابقةُ والمسارعة للخير طلبتهم.
عملهم لن يُنْسَى, وسعيهم لن يُكْفَر, وطاعاتهم مكتوبة ومحصاة, عند رب الأرض والسماوات, تحيتهم في الجنة سلام, فطوبى لهم وحسن مآب.
لا يخافون ظلماً ولا هضماً, ولا يبأسون دنياً ولا أخرى, وأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى؛ إنهم أصحاب الأعمال الصالحة, إنهم تُجار الحسنات, في زمنٍ ربما قلّ تجارها وفرّط البعض في مكاسبه منها.
معشر الكرام: ليسوا سواء, أقوامٌ للمعصية ملازمون, وفي التفريط سادرون, وأقوامٌ على الطاعة مقبلون, ولمواسم الخير مستغلون, قاموا بالفرائض وأكثروا بعد ذلك من النوافل, ولهم مع أبواب الخير أحوال, وهم في مواسم الطاعة نعم الرجال, وأولئك هم المفلحون.
ونظرةٌ في القرآن تُبين لك قدر هؤلاء عند الرحمن, أثنى عليهم ووعدهم وجازاهم بخير ما يطلب دنيا وآخرة.
فأهل الطاعة جعل الله لهم ودَّ الناس وحبهَّم, فالقلوبُ تودهم؛ لأن الله أحبّهم, وفي القرآن (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[مريم:96]، قال ابن عباس: "محبة الناس في الدنيا", وقال هَرِمُ بن حيان: "ما أقبل عبدٌ بقلبه إلى الله، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودّتهم ورحمتهم".
ويوم أن ترى شيوع الضنك والحزن, وضيقَ الصدر والاكتئاب؛ فاذكر أن الله يعطي أهل طاعته سعادةَ الدنيا وطمأنينتها وأُنسها, ربما لم يملك المرءُ منهم أسباب السعادة الظاهرة, لكن في قلبه السعادة أمثالَ الجبال؛ لأنه قَرُبَ من الربِّ المتعال, وفي القرآن يقول الله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل:97]؛ وقد فسّر ابن عباس الحياة الطيبة بأنها السعادة, وفُسرت بأنها القناعة, وبأنها الرزق الطيب الحلال, وكل ذلك مطلب لكل إنسان, لكن الله يرزقها أهل الإيمان.
أيها المبارك: والمرءُ يَقْدُمُ بعد موته على أهوالٍ عظام, وأمورٍ جسام, فقبرٌ وحساب, وميزانٌ وصراط وجنة ونار، والله يلقي على أهل طاعته الأمان فلا خوف عليهم مما أمامهم, ولا يحزنون على ما خلفوا وراءهم؛ (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)[يونس:61-64].
معشر الكرام: وصلاحُ البال, واستقامةُ الحال, في الدنيا ويوم المآل أمرٌ جعله الله لأهل الإيمان فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)[محمد:2].
عباد الله: والله وعدَ أهل الطاعة بأنهم يملكون الأرض, يكونون أئمةً للناس, خلفاءَ على الأرض, ولا عجب فالأرض لله وسيورثها عبادَه الصالحين, وفي القرآن وعدٌ لا يتخلف (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)[النور:55].
أيها الكرام: ورزقُ الدنيا والآخرة ينالُه أصحابُ الطاعة, ولن يتحقّق لأحدٍ الرزقُ الكريم إلا إن كان من أهل الطاعة, غيرُهم قد ينال رزقاً دنيوياً وقد يكون وبالاً, وأما أهل الطاعة فالله قال عنهم: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[سبأ:4].
والمرء تُثقِلُ كاهلَه ذنوبُه, وكرامةُ اللهِ لأهل طاعته أن يغفر زلاتهم, ويغسل حوباتِهم, وفي القرآن يقول الله: (والَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)[العنكبوت:7].
وأعظم كرامة من الله لأهل طاعته, أن يورثهم جنته, (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)[العنكبوت:58]، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)[الشورى:22].
كل هذا أيها الفضلاء يهبه الله لأهل الطاعة, ولا سواء بين أهل الخير والإيمان وبين أهل العصيان, وفي القرآن يقول الله مبيناً فضيلة أهل الطاعة على غيرهم: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ)[غافر:58]، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)[ص:28]، (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[الجاثية:21].
فاللهم حَبِّب إلينا الطاعات، واشرح صدورنا للصالحات، واعمر أوقاتنا بالقربات.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده..
عباد الله: إذا كان ما سبق هو شيء من كرامة الله لأهل الطاعة, فها نحن على مقربة من أزكى المواسم, وأشرف الأيام, نحن على مشارف موسم الحسنات, وميدان المنافسة على الطاعات, بين أيدينا أفضلُ الأيام, وغرّة العام, أيامٌ قال عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إليهن من هذه العشر يعني عشر ذي الحجة"، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله...".
قال ابن رجب -رحمه الله-: "لما كان الله -سبحانه- قد وضع في نفوس عباده المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين".
يا مؤمن: العبادات أبواب, وبين يديك الموسم الأكبر, فلن أعدِّد عليك صورَ الطاعات فذاك مما لا يخفى, ولكني أقول لنفسي ولك ثلاث كلمات:
أما أولها فإن إدراك مواسم المضاعفة فرصة، والفرص لا تأتي دائماً, أنت اليوم حي, وسيأتي يومٌ لن تكون فيه موجوداً, ووالله إن أعظم أمنية يتمناها من ثووا في القبور أن يدركوا مواسم الطاعات ليظفروا فيها بأعمال ترفع المسلم درجات, إن لحظة تمضيها اليوم في عبادة لهي أحب إليك غداً من الدنيا وما فيها, فالهمة الهمة والبدار البدار.
وأما ثانيها فمن كرامات الله لهذه الأمة أن مواسم الطاعات تختصر الزمن, إذ لربما عشت سنوات محدودة، ولكنك إن وُفِّقْتَ للطاعات في المواسم لربما سبقت مَن عَمَّر قرناً وأكثر, لذا فالطاعة في كل آنٍ خير, ولكنها في مواسم المضاعفة أعظمُ وأجلُّ, وسيعرف المؤمن قدر مواسم المضاعفة يوم يلقى ربه فيرى أجوراً مضاعفة وكنوزاً مدَّخرة حين قدر أيام المضاعفة قدرها.
وأما ثالث الكلمات: فكل طاعة تستطيع فِعْلها في العشر فاذكر أنها أفضل منها في غيرها, إن حماسك الرائع للطاعة في أيام رمضان عظيم, ولكن ينبغي أن يكون اليوم أكثر, فأيام العشر أشرف من أيام رمضان, بل وأشرف أيام العام, لذا فأقبل بما استطعت واركض إلى الله ما قدرت, أطعم جائعاً, اقرأ آية, صلّ صلاة, أحيي بالقيام ليلة, صِل رحماً وأحسن خلقاً, ومع هذا فلا تنسى أن من الطاعة ترك المعصية, فجاهد النفس أن تخرج العشر وأنت قد غلبت الشيطان وأقللت من العصيان.
فإن لم تفعل فلا تنسى أن المعصية في العشر أعظم جرماً منها في غيرها, وإن لم نقدر على ترك الذنوب في أشرف المواسم وأنفسِ الأيام فمتى سنتركها, وستنقضي العشر, وسيمر الشهر, وسينتهي عما قريبٍ العمر, وسيجدُ المجدّون العاملون أجرَ ما كانوا يعملون, وسيعلم المفرطون أي منقلب ينقلبون.