البحث

عبارات مقترحة:

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

المقدم

كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...

الرفيق

كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...

الأشراط الصغرى للساعة (7) الموت بالأوبئة

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. انتشار الموت والأمراض من علامات الساعة .
  2. الفواحش والبغي سببان للوباء .
  3. ظهور الأوبئة المتعددة في زماننا .
  4. محاصرة الإسلام للأوبئة بالحجر الصحي .

اقتباس

وَمِمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ وُقُوعِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ انْتِشَارُ المَوْتِ فِي النَّاسِ، وَكَثْرَةُ مَوْتِ الْفَجْأَةِ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالزَّلَازِلِ وَالْبَرَاكِينِ وَالْأَوْبِئَةِ وَالْأَعَاصِيرِ وَالْغَرَقِ، كَمَا يَكُونُ بِالْحُرُوبِ وَالمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ. وَالْإِنْسَانُ هُوَ المُفْسِدُ الْأَعْتَى فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ، وَأَكْثَرُ فَسَادِ الْأَرْضِ وَمَوْتِ الْبَشَرِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ إِنَّمَا كَانَ بِإِفْسَادِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ كَثْرَةَ الْهَرْجِ، وَهُوَ الْقَتْلُ...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى؛ خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَعَافَى وَابْتَلَى، نَحْمَدُهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْعَافِيَةِ وَالْبَلَاءِ؛ فَهُوَ المَحْمُودُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، المَعْبُودُ فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ يُرِي عِبَادَهُ شَيْئًا مِنْ قُدْرَتِهِ، وَيُخَوِّفُهُمْ بِآيَاتِهِ، وَيُلْجِئُهُمْ إِلَى دُعَائِهِ؛ لِيَكْشِفَ ضُرَّهُمْ، وَيَرْفَعَ كَرْبَهُمْ، وَيُجْزِلَ أَجْرَهُمْ؛ فَابْتِلَاؤُهُ لِعِبَادِهِ نِعْمَةٌ، وَدُعَاؤُهُمْ إِيَّاهُ نِعْمَةٌ، وَكَشْفُهُ ضُرَّهُمْ نِعْمَةٌ، وَمُجَازَاتُهُمْ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ نِعْمَةٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ النِّعَمُ إِلَّا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بِدَعْوَتِهِ عَرَفَتِ الْعَرَبُ رَبَّهَا، وَقَدْ كَانَتْ تَعْبُدُ أَصْنَامَهَا، وَبَلَغَ دِينُهُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَوَصَلَ أَجْنَاسَ الْبَشَرِ كُلَّهَا، فَمَا مِنْ بَلَدٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَفِيهَا مَنْ يَعْرِفُهُ وَيُحِبُّهُ، وَيَدِينُ بِدِينِهِ، وَيَلْتَزِمُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَيَتَعَبَّدُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَلِّقُوا بِهِ قُلُوبَكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ دِينَكُمْ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ خَلْقُهُ، وَالْأَمْرَ أَمْرُهُ، وَلَنْ يُصِيبَ الْعَبْدَ إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام: 17].

أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَدَلَائِلِ صِدْقِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنَ الْفِتَنِ وَالمَلَاحِمِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْغَيْبِ، وَلَا يَزَالُ يَقَعُ وَيَتَكَاثَرُ؛ لِيُؤَكِّدَ صِدْقَ نُبُوَّتِهِ، وَيُثَبِّتَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِخَبَرِهِ، فِي زَمَنٍ أَحَاطَتْ بِالمُؤْمِنِ ابْتِلَاءَاتُ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَحَاصَرَتْهُ فِتَنُ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا بِاللهِ تَعَالَى وَفِي دِينِهِ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ نَجَا، وَمَنْ حَادَ عَنْهُ سَقَطَ وَرَدَى.

وَمِمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ وُقُوعِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ انْتِشَارُ المَوْتِ فِي النَّاسِ، وَكَثْرَةُ مَوْتِ الْفَجْأَةِ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالزَّلَازِلِ وَالْبَرَاكِينِ وَالْأَوْبِئَةِ وَالْأَعَاصِيرِ وَالْغَرَقِ، كَمَا يَكُونُ بِالْحُرُوبِ وَالمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ.

وَالْإِنْسَانُ هُوَ المُفْسِدُ الْأَعْتَى فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ، وَأَكْثَرُ فَسَادِ الْأَرْضِ وَمَوْتِ الْبَشَرِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ إِنَّمَا كَانَ بِإِفْسَادِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ كَثْرَةَ الْهَرْجِ، وَهُوَ الْقَتْلُ، وَيَصِلُ إِلَى دَرَجَةٍ لَا يَدْرِي فِيهَا الْقَاتِلُ لِمَا قَتَلَ، وَلَا المَقْتُولُ فِيمَا قُتِلَ، وَحَتَّى يَمُرَّ الْإِنْسَانُ بِالْقَبْرِ فَيَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مَكَانَ المَقْبُورِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَرَى مِنَ الْقَتْلِ، وَاسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ، وَاخْتِلَاطِ الْأَمْرِ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.

وَأَمَّا المَوْتُ بِالْأَوْبِئَةِ فَمَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي عَلَامَاتِ السَّاعَةِ فِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: "اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ المَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لاَ يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ العَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

فَذَكَرَ فَتْحَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَقَدْ فُتِحَ فِي عَهْدِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِي النَّاسِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: "اسْمٌ لِلطَّاعُونِ وَالمَوْتِ". وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: "المُوتَانُ هُوَ المَوْتُ الْكَثِيرِ الْوُقُوعِ". وَشَبَّهَهُ بِقُعَاصِ الْغَنَمِ، وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْغَنَمَ لَا يُلْبِثُهَا إِلَى أَنْ تَمُوتَ. وَقِيلَ: هُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ فِي الصَّدْرِ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَوْبِئَةِ تُؤَثِّرُ فِي الرِّئَةِ، وَتَحْبِسُ النَّفَسَ، حَتَّى يَمُوتَ المَوْبُوءُ.

فَكَثِيرٌ مِنَ المَوْتِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ يَكُونُ بِالْقَتْلِ وَبِالْأَوْبِئَةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ، وَقَدْ جُمِعَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَفْنَى أُمَّتِي إِلَّا بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالطَّعْنُ هُوَ الْقَتْلُ، وَالطَّاعُونُ وَبَاءٌ.

قَالَ عَلَّامَةُ الْعُمْرَانِ وَالْحَضَارَةِ ابْنُ خَلْدُونَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَأَمَّا كَثْرَةُ المُوتَانِ فَلَهَا أَسْبَابٌ مِنْ كَثْرَةِ المَجَاعَاتِ... أَوْ كَثْرَةِ الْفِتَنِ... فَيَكْثُرُ الْهَرْجُ وَالْقَتْلُ، أَوْ وُقُوعِ الْوَبَاءِ، وَسَبَبُهُ فِي الْغَالِبِ: فَسَادُ الْهَوَاءِ بِكَثْرَةِ الْعُمْرَانِ؛ لِكَثْرَةِ مَا يُخَالِطُهُ مِنَ الْعَفَنِ وَالرُّطُوبَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَإِذَا فَسَدَ الْهَوَاءُ -وَهُوَ غِذَاءُ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ وَمُلَابِسُهُ دَائِمًا- فَيَسْرِي الْفَسَادُ إِلَى مِزَاجِهِ، فَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ قَوِيًّا وَقَعَ المَرَضُ فِي الرِّئَةِ وَهَذِهِ هِيَ الطَّوَاعِينُ، وَأَمْرَاضُهَا مَخْصُوصَةٌ بِالرِّئَةِ، وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ دُونَ الْقَوِيِّ وَالْكَثِيرِ فَيَكْثُرُ الْعَفَنُ وَيَتَضَاعَفُ فَتَكْثُرُ الْحُمِّيَّاتُ فِي الْأَمْزِجَةِ، وَتَمْرَضُ الْأَبْدَانُ وَتَهْلَكُ، وَسَبَبُ كَثْرَةِ الْعَفَنِ وَالرُّطُوبَاتِ الْفَاسِدَةِ فِي هَذَا كُلِّهِ كَثْرَةُ الْعُمْرَانِ وَوُفُورُهُ... وَفَشَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الزِّنَا... فَأَصَابَهُمُ المُوتَانُ فَهَلَكَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا...". اهـ.

وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْفَوَاحِشَ وَالْبَغْيَ سَبَبَانِ لِلْوَبَاءِ، فَفِي الْحَدِيثِ: "لم تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "مَا ظَهَرَ الْبَغْيُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ المُوتَانُ".

فَالْأَوَّلُ وَبَاءٌ، وَالثَّانِي قَتْلٌ، وَكِلَاهُمَا مَكْتُوبٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَيَكْثُرُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.

وَقَدْ وَقَعَ فِي المِائَةِ الْأُولَى لِلْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَرْبَعَةُ طَوَاعِينَ، ابْتُلِيَ بِهَا النَّاسُ آنَذَاكَ، فَطَاعُونٌ وَقَعَ سَنَةَ سِتٍّ لِلْهِجْرَةِ عَامَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، لَكِنَّهُ أَصَابَ بِلَادَ فَارِسٍ، وَسَلِمَ مِنْهُ المُسْلِمُونَ فِي المَدِينَةِ؛ لِأَنَّ المَدِينَةَ حُرِّمَتْ عَلَى الطَّاعُونِ، لَكِنْ قَدْ يُصِيبُهَا وَبَاءٌ غَيْرُ الطَّاعُونِ.

وَالطَّاعُونُ الثَّانِي: طَاعُونُ عَمَوَاسَ فِي الشَّامِ، وَاسْتُشْهِدَ فِيهِ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، أَشْهَرُهُمْ: مُعَاذٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ. وَحَصَدَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ نَفْسٍ.

وَالطَّاعُونُ الثَّالِثُ: طَاعُونُ الْجَارِفِ فِي دَوْلَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ لِلْهِجْرَةِ، سُمِّيَ الْجَارِفَ؛ لِكَثْرَةِ مَنْ مَاتَ فِيهِ مِنَ النَّاسِ، وَسُمِّيَ المَوْتُ جَارِفًا لِاجْتِرَافِهِ النَّاسَ، هَلَكَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا. وَمَاتَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيهِ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ ابْنًا، وَيُقَالُ: ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ. وَمَاتَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكَرَةَ أَرْبَعُونَ ابْنًا، وَمَاتَ لِعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَيْرٍ ثَلَاثُونَ ابْنًا، وَمَاتَ لِصَدَقَةَ بْنِ عَامِرٍ سَبْعَةُ بَنِينَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَدَخَلَ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ سُجُّوا جَمِيعًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي مُسْلِّمٌ مُسَلِّمٌ.

قَالَ مُعَاذٌ التَّمَّارُ: "وَأُخْبِرْتُ أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ تُصْبِحُ وَفِيهَا خَمْسُونَ، وَتُصْبِحُ الْغَدَ وَلَيْسَ فِيهَا وَاحِدٌ".

وَالطَّاعُونُ الرَّابِعُ: كَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَيُسَمَّى طَاعُونَ الْفَتَيَاتِ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ فِي الْعَذَارَى وَالْجَوَارِي بِالْبَصْرَةِ وَبِوَاسِطَ وَبِالشَّامِ وَبِالْكُوفَةِ، وَمَاتَ فِيهِ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْخَلِيفَةُ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، وَيُسَمَّى أَيْضًا: طَاعُونَ الْأَشْرَافِ؛ لِكَثْرَةِ مَنْ مَاتَ فِيهِ مِنَ الْكُبَرَاءِ.

وَتَتَابَعَتِ الْأَوْبِئَةُ وَالطَّوَاعِينُ عَبْرَ الْقُرُونِ، وَوَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ كَثْرَةِ المُوتَانِ، وَأَنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، وَأَنَّ فَنَاءَ أُمَّتِهِ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ، أَيِ: الْقَتْلُ وَالْوَبَاءُ، فَكَانَ كَمَا قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.

وَفِي عَصْرِنَا هَذَا ظَهَرَتْ أَوْبِئَةٌ مَا كَانَتْ تُعْرَفُ مِنْ قَبْلُ؛ كَالْإِيدْزِ وَالسَّارِسِ وَجُنُونِ الْبَقَرِ وَأنْفِلُوَنْزَا الطُّيُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَأَيبُولَا وَكُورُونَا وَغَيْرِهَا، حَتَّى إِنَّ مُنَظَّمَةَ الصِّحَّةِ الْعَالَمِيَّةِ سَجَّلَتْ فِي خَمْسَةِ أَعْوَامٍ فَقَطْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَمِائَةِ وَبَاءٍ فِي مَنَاطِقِ الْعَالَمِ المُخْتَلِفَةِ، وَيَأْذَنُ اللهُ تَعَالَى بِالسَّيْطَرَةِ عَلَيْهَا، وَاكْتِشَافِ اللِّقَاحَاتِ لَهَا، وَإِذَا أَذِنَ بِفَنَاءِ جَمْعٍ مِنَ الْبَشَرِ فِيهَا عَجَزُوا عَنِ السَّيْطَرَةِ عَلَيْهَا، وَللهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَنِيبُوا إِلَيْهِ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ) [التَّوبة: 51].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: الْأَوْبِئَةُ وَالطَّوَاعِينُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَعُقُوبَةٌ؛ فَإِنْ أَصَابَتْ مُؤْمِنِينَ قَائِمِينَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ ابْتِلَاءٌ، فَإِنْ صَبَرُوا وَاحْتَسَبُوا أُجِرُوا أَجْرًا عَظِيمًا، فَمَنْ مَاتَ فِي الْوَبَاءِ كَانَ شَهَادَةً لَهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَنِي "أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْفِرَارُ مِنَ الطَّاعُونِ كَالْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ.

وَالتَّوْجِيهُ النَّبَوِيُّ فِيهِ: "... إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَهَذَا التَّوْجِيهُ الْعَظِيمُ فِيهِ مُحَاصَرَةٌ لِلْوَبَاءِ، وَعَدَمُ نَشْرِهِ فِي النَّاسِ؛ فَإِنَّ الْفَارَّ مِنْهُ قَدْ يَحْمِلُهُ وَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِ أَعْرَاضُهُ فَيَنْشُرُهُ فِي بُلْدَانٍ أُخْرَى، وَلمَّا وَقَعَ الطَّاعُونُ فِي الشَّامِ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا رَجَعَ بِالنَّاسِ، فَلَمَّا عُوتِبَ قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ تَعَالَى". فَلَمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِالتَّوْجِيهِ النَّبَوِيِّ أَنَّهُ لَا يُقْدَمُ عَلَى الْبَلَدِ الَّتِي أَصَابَهَا الطَّاعُونُ -وَكَانَ عُمَرُ لَا يَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ- حَمِدَ اللهَ تَعَالَى أَنَّهُ وَافَقَ السُّنَّةَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ.

وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ وَمِنْ فِعْلِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: عَدَمُ إِلْقَاءِ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَنَّ أَخْذَ اللِّقَاحَاتِ، وَعَمَلَ الْوِقَايَةِ مِنَ الْوَبَاءِ، وَعَدَمَ مُخَالَطَةِ المَرْضَى لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، وَأَنَّ نَفْيَ الْعَدْوَى فِي الْأَحَادِيثِ إِنَّمَا هُوَ رَدٌّ لِمُعْتَقَدِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْأَوْبِئَةَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا إِلَى المُعْتَقَدِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ أَنَّهَا إِنَّمَا تُعْدِي بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى، وَلِذَا قَدْ تَتَخَلَّفُ الْعَدْوَى فَيُورِدُ مُصِحٌّ عَلَى مُمْرِضٍ وَلَا يَتَأَثَّرُ، وَقَدْ يَحْتَاطُ صَحِيحٌ فَيَبْتَعِدُ عَنْ كُلِّ أَسْبَابِ المَرَضِ فَتُصِيبُهُ الْعَدْوَى.

وَقَدْ قَرَّرَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: أَنَّهُ إِنْ شَهِدَ طَبِيبَانِ عَارِفَانِ مُسْلِمَانِ عَدْلَانِ أَنَّ مُخَالَطَةَ الصَّحِيحِ لِلْمَرِيضِ سَبَبٌ فِي أَذَى المُخَالِطِ، فَالِامْتِنَاعُ مِنْ مُخَالَطَتِهِ جَائِزٌ، أَوْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ مَا يُسَمَّى الْآنَ بِالْحَجْرِ الصِّحِّيِّ، أَوْ عَزْلِ المُصَابِينَ بِمَرَضٍ مُعْدٍ.

وَلَكِنْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ صَحِيحًا خَالَطَ مَرِيضًا فَأَصَابَتْهُ الْعَدْوَى فَلَا يَقُلْ: لَوْ لَمْ أُخَالِطْهُ أَوْ أُصَافِحْهُ لَما أَعْدَانِي؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَقَعَ بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ اعْتِقَادُ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنْ قَدَّرَ عَلَيْهِ الْوَبَاءَ أَصَابَهُ وَلَوْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ لَمْ يُصِبْهُ وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ حَوْلَهُ مَطْعُونِينَ أَوْ مَوْبُوئِينَ.

وَرَأَى نَافِعٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- رَجُلاً قَدْ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى حِمَارٍ فَرَقًا مِنَ الطَّاعُونِ، وَكَانَ نَافِعٌ يَعْرِفُهُ فَقَالَ: "انْظُرُوا يَفِرُّ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى حِمَارٍ".

وَعَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللهِ تَعَالَى وَيُنِيبُوا إِلَيْهِ، فَيَتْرُكُوا ظُلْمَ أَنْفُسِهِمْ بِالمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشِ، وَظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالِاعْتِدَاءِ وَأَكْلِ الْحُقُوقِ؛ فَإِنَّهُ مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ، وَإِنَّ المَوْتَ بِالْقَتْلِ فِي الْفِتَنِ وَالْحَرْبِ كَثِيرٌ فِي هَذَا الزَّمَنِ، كَمَا أَنَّ المَوْتَ بِالْأَوْبِئَةِ وَالْأَمْرَاضِ كَثِيرٌ، وَالمَوْتُ بِهَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ مُرَشَّحٌ لِلازْدِيَادِ وَالِاتِّسَاعِ وَالِانْتِشَارِ بِسَبَبِ إِسْرَافِ النَّاسِ فِي الْعِصْيَانِ، وَظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...