الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | سالم بن مبارك المحارفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
وأما الحاكم الذي يستخدم ملك الله الذي آتاه إياه في يده، فظن أنه ملكٌ ثابت لا يتغير ولا يتحول ولا يزول، فبطش في عباد الله، وظلمهم حقوقهم، وضيّق عليهم معايشهم، وحاربهم في دينهم، وأقرّ المنكر وأسسه، ورفع المعروف ودرسه، ونهى عن إقام الصلاة والزكاة ما دام حيًَّا، ونزع الحِجاب، وكثَّر بينه وبين الناس الحُجّاب، وأغلق دونهم الأبواب، فلا يسمع بعد السؤال جواب، وعزَّهم في الخطاب ..
الحمد لله العزيز في ذاته، والعظيم في كبريائه، مالك الملك، بيده مقاليد الأمور، يرفع ويخفض، ويبسط ويقدر، (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [سبأ: 3]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء، بيده الخير إنه على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، نبي الهدى، ونور الدجى، والمبعوث للعالمين بالخير، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آل بيته الأطهار، وصحابته الأخيار، والتابعين الأبرار، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، فاستحيوا من الله حق الحياء، فاحفظوا الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، واذكروا الموت والبلى، تدخلوا جنة المأوى.
أيها المسلمون: كم تغرُّ الدنيا الإنسان وتخدعه، حينما تتزخرف وتتجمل له، وكم حذرنا ربنا -جل جلاله- من الاغترار بالدنيا فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
إلا أن كثيرًا من الناس لا يعون هذه الحقيقة، فيقعون في حبائل الدنيا، وينجذبون لزخرفها، ويظنون أنهم مخلدون في هذه الحياة الدنيا غير منتقلين عنها، وأن ما تحصلوا عليه من مال وجاه وسلطان غير متحول عنهم، فيستحيل ذلك من الإنسان طغيانًا وجبروتًا في الأرض وفسادًا عريضًا: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) [العلق: 6-8].
أيها الناس: إن الله سبحانه ليمكّنُ للإنسان في الأرض ويعطيه مُلكًا كبيرًا، ابتلاءً منه واختبارًا، يثبّتُ دعائمَ ملكه، ويليّنُ له الصعب، ويسهلُ له العسير، ويمدُّ له في العُمر مدًّا، ويبسطُ له في المال بسطًا، حتى يرى صنعه في عباده، فإن حكَمهم بالعدل والحق، وحكّمهم بالكتاب والسنة، وأقام الشريعة والملة، ووالى أولياءه، وعادى أعداءه، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، واجتهد في إصلاح الناس، ورفع عنهم الشدة والبأس، وحماهم من أسباب الرذيلة والفساد الأخلاقي، وزهدهم في الفاني ورغبهم في الباقي، وأعطاهم ولم يمنعهم، وزادهم ولم ينقصهم، ووسع عليهم في عيشهم ولم يضيقه عليهم، إن الحاكم متى ما فعل ذلك جمع الله له القلوب، وضاعف له الأجور، وأحسن ختامه، وكفاه ما أمامه، وحاسبه حسابًا يسيرًا، وينقلب إلى أهله مسرورًا.
وأما الحاكم الذي يستخدم ملك الله الذي آتاه إياه في يده، فظن أنه ملكٌ ثابت لا يتغير ولا يتحول ولا يزول، فبطش في عباد الله، وظلمهم حقوقهم، وضيّق عليهم معايشهم، وحاربهم في دينهم، وأقرّ المنكر وأسسه، ورفع المعروف ودرسه، ونهى عن إقام الصلاة والزكاة ما دام حيًَّا، ونزع الحِجاب، وكثَّر بينه وبين الناس الحُجّاب، وأغلق دونهم الأبواب، فلا يسمع بعد السؤال جواب، وعزَّهم في الخطاب، فإن هذا -يا عباد الله- طغيانٌ في الحكم، وجورٌ من السلطان وظلمٌ، واللهُ لا يحب الظالمين، وسنّتُه في هؤلاء أن يملي لهم، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، روى البخاري عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"، وقرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102]. فهذا الحديث فيه تسليةٌ للمظلومين من أنه ولا بُد أن يأتي اليوم الذي ينتصر الله فيه لهم، ويرفع عنهم الظلم ويجزي فيه الظالم بظلمه ويخزيه ويرديه ويفضحه على رؤوس العالمين.
والحديث فيه سنتان لله سبحانه، الأولى: سنة الإملاء والإمهال، لعل الظالم يرعوي ويتوب، فإن أصرَّ على ظلمه واغترَّ بقوته وجيشه، جاءته السُنة الثانية: وهي أخذه بعذاب أليم، ولا يمكن له أن يفلت من عذاب الله تعالى.
قال الحافظ في الفتح: "قال ابن الجوزي: الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزةُ الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من غيرها؛ لأنه لا يقع غالبًا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب؛ لأنه لو استنار بنور الهدى لأعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلماتُ الظلم الظالمَ حيث لا يغني عنه ظلمه شيئًا". اهـ.
أيها الناس: إن صلاح الرعية سبب لصلاح الراعي، وإن العباد ما استقاموا على دين الله وأطاعوه، واجتنبوا كبائر الإثم وسيئ القول والعمل، واجتنبوا الظلم بينهم، ولم يأخذوا فوق حقهم، وتناصروا وتآزروا وتناصحوا بينهم، وكانوا عباد الله إخوانًا، أعطف الله قلوب السلاطين عليهم، وأنزل الرحمة بهم، كما روى البغوي في تفسيره عند تأويله لقول الله سبحانه: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ...) [آل عمران: 26] الآية: "قال الله تعالى في بعض الكتب: "أنا الله ملك الملوك، ومالك الملوك، وقلوبُ الملوك ونواصيهم بيدي، فإنْ العبادُ أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إليّ أُعطفهم عليكم".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من البينات والحكمة. أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: تناقل الناس صورًا وأخبارًا عبر وسائل الإعلام عن أناسٍ انتحروا بإضرام النار في أنفسهم احتجاجًا على سوء المعيشة في بلادهم، أو البطالة المترتبة على عدم حصولهم على وظائف تناسب مؤهلاتهم.
أيها الإخوة: إن هذه الممارسات التي ظهرت على الساحة اليوم نتاج الفقر والضغط الاجتماعي، والظلم من الحكومات، لا يجعلها سائغة، ولا يحلها أحدٌ ممن يعرف علمه وتقواه، بل لم يقل أحد من أهل العلم ممن يجوِّز قتل النفس في القتال بين المسلمين والكافر، أن يقتلها بسبب فقره، أو اعتراضًا على حكومته لبطالته وقلة ذات يده.
إن النفس عظيمة الحرمة عند الله تعالى، فلا يجوز للإنسان أن يزهق نفسه لأي سبب كان إلا أن يجاهد في سبيل الله، فذاك موتٌ محمود؛ قال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سمًّا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يديه يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا". رواه البخاري ومسلم.
وعن ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بحديدة عذب بها في نار جهنم". رواه البخاري ومسلم. قال النووي: "في هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم قتل نفسه". اهـ.
قال صاحب كتاب الإسلام وضرورات الحياة: "إن الإنسان ملك لخالقه وليس ملكًا لنفسه؛ لذلك لا يجوز أن يتصرف في نفسه إلا في حدود ما أذن له الخالق، فليس له أن يضرَّ نفسه بحجة أنه لم يتعد على أحد؛ لأن اعتداءه على نفسه كاعتدائه على غيره عند الله تعالى".
وعن جندب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان برجل جراح فقتل نفسه، فقال الله: بدرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة"، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار". رواه البخاري.
وعن أبى هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من خنق نفسه في الدنيا فقتلها خنق نفسه في النار، ومن طعن نفسه طعنها في النار، ومن اقتحم فقتل نفسه اقتحم في النار". رواه ابن حبان.
وعن جابر بن سمرة أن رجلاً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أصابته جراح فآلمت به، فدب إلى قرن له في سيفه، فأخذ مشقصًا فقتل نفسه، فلم يصل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-. رواه الطبراني في الكبير.
"هذه عاقبة الانتحار والعياذ بالله، ويجب على المسلم أن يعلم أن الانتحار فيه تسخط على قضاء الله وقدره، وعدم الرضا بذلك، وعدم الصبر على تحمل الأذى، وأشد من ذلك وأخطر وهو التعدي على حق الله تعالى، فالنفس ليست ملكًا لصاحبها وإنما ملك لله الذي خلقها وهيأها لعبادته سبحانه، وحرم إزهاقها بغير حق، فليس لك أدنى تصرف فيها، وكذلك في الانتحار ضعف إيمان المنتحر لعدم تسليم المنتحر أمره لله وشكواه إلى الله".
ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك فقال: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].