العربية
المؤلف | عبدالباري بن عواض الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
الحرية كلمة ينشد حقيقتها كل فرد ويسعى إليها، وجاء الإسلام يضمن الحرية للإنسان؛ لأن الحرية إحدى مقومات الشخصية، وأساس أي مجتمع إنساني، وقد حرص الإسلام على تربيتها وتهذيبها وتقويمها، ضمن الإسلام للمسلم الحرية الشخصية؛ حرية الرأي، حرية العمل، حرية المأوى، التملك، والتعلم ..
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وأشكره على نعمة الهداية والدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الهادي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فالتقوى سبيل المؤمنين، وهي النجاة في الدنيا والآخرة ويوم يقوم الناس لرب العالمين؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
الحرية كلمة ينشد حقيقتها كل فرد ويسعى إليها، وجاء الإسلام يضمن الحرية للإنسان؛ لأن الحرية إحدى مقومات الشخصية، وأساس أي مجتمع إنساني، وقد حرص الإسلام على تربيتها وتهذيبها وتقويمها، ضمن الإسلام للمسلم الحرية الشخصية؛ حرية الرأي، حرية العمل، حرية المأوى، التملك، والتعلم.
والحريات تتعدد في الإسلام فتشمل كل جوانب الحياة، ولم تكن الدنيا تعرف من قبل حريةً بالمعنى الذي جاءت في رسالة الإسلام، وإن دعوة الإسلام للحرية لتبدأ بالتوحيد الذي حرَّر الإنسان من الشرك, أي من عبادة غير الله.
الحرية الصادقة لا تكون إلا بالتذلل لله والعبودية له, ففي العبودية لله يتحرر المسلم من سلطان الشهوة والشبهة، ومن رق المال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر:29]
وأي حرية أعظم من حرية المصلي في المسجد، وهو متحرر من كل عبودية، إلا عبوديته لله رب العالمين؟! له وحده يركع ويسجد، ولوجهه وحده يذل ويخشع!!
إن التحرر الحقيقي يعني الخضوع لله وحده، وأخذ منهجه دون سواه، والتحاكم إلى شرعه دون بقية الشرائع والقوانين، فإن رفض البشر هذه العبودية لله الواحد الأحد؛ فإنهم سيعبِّدون أنفسهم إلى مخلوقات مساوية لهم وهم البشر!
كفل الإسلام للإنسان أن يعيش آمنًا لا يعتدي عليه أحد، ومنعه أن يعتدي على الآخرين: (فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة: 193].
أعطاه الحق في أن يتصرف في أمور نفسه، وحمَّله مسؤولية هذا التصرف: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة: 286].
أعطاه حرية التفكير والتأمل في خلق الله: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ) [العنكبوت: 20].
أعطاه حرية الحركة والسير في الأرض والاستمتاع بخيراتها: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) [النساء: 100].
منع الإكراه في الدين: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256]، وإسلام المكره لا يُعتَدُّ به، فالإسلام يقيم رسالته على القناعة، وسيلته في ذلك الحجة الدامغة والبرهان الساطع.
الإنسان حرٌّ، لكنها حرية تتضمن مسؤولية مناطة بالابتلاء والامتحان: (وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) [الكهف: 29]؛ فلا حرية في الإسلام دون مسؤولية وحساب.
ومن أعطي الحرية فإن من العدالة أن يصبح مسؤولاً عن عمله فيجازى عليه.
في تاريخ الإسلام تتجلَّى معاني الحرية، فحرِّية الرأي -مثلاً- نراها في موقف حُباب بن المنذر، الذي أبدى رأيًا شخصيًّا غير رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر، والصحابة أدلوا بآرائهم في حادثة الإفك وغير ذلك من المواقف، وأبو بكر -رضي الله عنه- قال في أول خطبة له بعد توليه الخلافة: "إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فقوِّموني، أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن لم أُطعه؛ فلا طاعة لي عليكم"، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال للناس: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها".
الحرية التي يريدها الإسلام هي الحرية التي تبني الشخصية، وتحرس الأمن، وتحفظ النفس والفطرة، وتقيم الحق والعدل، وإذا تجاوز أي إنسان حدود وضوابط الحرية؛ فإنه يؤذي نفسه ومجتمعه وأمته، وواجب الأمة حماية الحرية؛ حتى لا تفضي إلى الهدم.
إننا نسترد مفهوم الحرية من ديننا وشريعتنا، ولا تُنشد في نظم أرضية ومناهج وضعية، في ظل الحرية في الإسلام يسعى مفكروها والعقلاء إلى بناء المفاهيم وزرع الوازع، ويحافظون على الأمة من فوضوية.
يُفتن كثيرٌ بمصطلح الحرية وشعار الحرية، ويروِّج لها أعداء الإسلام، ويوسِّعون دائرتها، لتحقيق أهدافهم من تدمير القيم الدينية والخُلُقية، وإماتة الوازع الديني والخُلُقي، وتحطيم النظم الاجتماعية.
والحرية ككلِّ معنًى كريم؛ عرضة للتلاعب والتحريف والاستغلال؛ فالمجرم يفهم الحرية ممارسة السلب والنهب والقتل، والمحتال يفهم الحرية: سلبَ الأموال، وممارسة الغش والاحتكار، وحيل المضاربات والقمار، وقد يصوّر للمرأة الحرية انفلاتها من ضوابط العفة والقوامة وأي ضابط خُلُقي!!
يخطئ من يجعل الحرية مركبًا يستبيح بها كل شيء دون ضوابط، فليس من الحرية أن يرضي الإنسان شهوته ويسبب آلام الآخرين، وليس من الحرية أن يدمن الإنسان المسكرات، ويترك وراءه ذرية ترث العاهات والأمراض!
الحرية الفكرية عند مَنْ يخطئ فهمها: هي أن تجهر بشتم عقيدة الأمة، والاستخفاف بالدين! والحرية الشخصية عند آخرين: هي أن تعمل ما تشاء، وترتكب من المنكرات ما تريد، دون أن تحد تصرفاتك آداب المجتمع أو تعاليم الدين!!
لا شك أن فهم الحرية على هذا النحو يسوق المجتمع إلى الدمار، ويعرض ثوابته للخراب، وأي تماسك يبقى في المجتمع وكل فرد فيه يعمل بما يرى، ولو ضرَّ ذلك الآخرين؟!
وحين تجوب بناظريك في العالم؛ ترى أمواج المظالم تتدافع في مواقع من بقاع الأرض، حيث ترتكب أفظع الجرائم في تاريخ الإنسان باسم الحرية، يسحق الإنسان، وتسحق المبادئ والمثل والقيم باسم الحرية! كما بدأت مظاهر الردة عن الإسلام تتوالى باسم الحرية! ويُعلن الكفر ويُفتخر به باسم الحرية! ويُسب الله ورسوله ودينه باسم الحرية! والمرأة تتبرج وتتعرى وتنزع الحجاب وتفتن الرجال باسم الحرية! ويختلط الشباب بالفتيات باسم الحرية!!
إن الإسلام وضع الإطار المتين الذي يحمي هذه الكلمة البرَّاقة من الانحدار إلى الهاوية، وحدد معالمها الصحيحة؛ حتى لا تستغل هذا الاستغلال السيئ في تدمير المجتمعات.
كما أن الحرية في الفكر والرأي محكومة بقواعد الشريعة، التي أنزلها الله لعباده، ولا تعني الانفلات والتسيب وزعزعة الثوابت والشطط في التفكير، والتطاول على المبادئ والقيم وما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لا تعني حرية الرأي ما يذهب إليه بعض الناس من أن يعلن إلحاده، ويهاجم العقيدة الإسلامية، بحجة تحرير الفكر من الجمود أو الخرافة أو الطغيان، وليس للكاتب أو الأديب أن يفهم الحرية بأن يقول ما يقول؛ فالحرية تُمارس لكن في إطار النظام العام وميزان الشريعة، وإذا انحرف الكاتب أو تجاوز حدود الشريعة؛ صودرت حريته.
ومن استغل الحرية للتعدي على ثوابت الدين ومسلمات الشريعة، وعمل على إضلال الناس؛ فإن حقه العقوبة والحجر، فإذا كان معنى الحرية أن يخرَّب المجتمع المسلم وتنتقض أسسه التي قام عليها؛ فهذا غير مقبول، ونحن بحاجة إلى أن نفهم الحرية من نصوص الوحي، لا من خلال تصورات بشرية قائمة على الأهواء والشهوات والمصالح؛ قال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: 50].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى.
لقد ضرب لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلاً من أروع الأمثلة، يبين الحد الفاصل بين الحرية والفوضى: "كمثل قوم استهموا على سفينة, فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَنْ فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا! فإن يتركوهم وما أرادوا؛ هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم؛ نجوا ونجوا جميعًا" رواه البخاري.
فأنت ترى هؤلاء أرادوا أن يستعملوا حريتهم فيما يخصهم، ولكنهم يجب أن يُمنعوا من استعمالها؛ إبقاءًا على حياة السفينة ومَنْ فيها!
في هذا المثل الرائع يتبين الموقف ممن يسيؤون استعمال حريتهم الشخصية بما يؤذي الأمة ويضر الوطن ويفسد الأمر على الناس جميعًا، فدائرة حرية الفرد تتسع في نظر الإسلام مادام لا يؤذي بهذه الحرية نفسه أو مجتمعه أو دينه، أما إذا استغل هذه الحرية للإضرار بنفسه أو إيذاء مجتمعه أو الإضرار بدينه؛ عند ذلك يقف الإسلام في وجهه، فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا.
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك ومنك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر اللهم أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك رضوانك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على مَنْ بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك مخبتين، لك أواهين منيبين.
اللهم تقبَّل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا، اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل اللهم من خذل الإسلام والمسلمين.
اللهم من أراد هذه البلاد بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم انصر واحفظ إخواننا المسلمين في فلسطين، وانصر واحفظ إخواننا المسلمين في العراق، وانصر واحفظ إخواننا المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك يا رب العالمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إلا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفِّق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.