الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ف "كل إناء بما فيه ينضح" مقولة قديمة وحقيقة عقلية صحيحة، فآنية الماء لا تنضح إلا بالماء، وآنية اللبن لا تنضح إلا باللبن، ومن قال: إن إناء ماء نضح لبناً، فليراجع عقله، ولا يطال النقاش معه. وهذا شأن الأواني الحسية إنما يخرج منها ما كان فيها، فكيف بالآنية التي هي...
إن الحمد لله ...
أما بعد:
ف "كل إناء بما فيه ينضح" مقولة قديمة وحقيقة عقلية صحيحة، فآنية الماء لا تنضح إلا بالماء، وآنية اللبن لا تنضح إلا باللبن، ومن قال: إن إناء ماء نضح لبناً، فليراجع عقله، ولا يطال النقاش معه.
أيها الإخوة: هذا شأن الأواني الحسية إنما يخرج منها ما كان فيها، فكيف بالآنية التي هي أعظم أنية إنها القلوب التي في الصدور: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16].
هذه القلوب مستودعات الإنسان، بها يضع الإيمان، وتقوى الله، والرجاء وحسن الظن به.
وبها أيضا يضع ضد ذلك، فالنفاق يصل إلى القلب، والشرك تتعلق به بعض النفوس وتتشربه القلوب: (وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة: 93].
والقلب المريض يقع فيه كراهية للشرع أو بعضه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ )[محمد: 9].
هذه حال القلوب أوعية لما فيها، وهي محل مراقبة الله يعلم ما يلج فيها وما يخرج منها: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) [الطارق: 9- 10].
(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ)[العاديات: 9-11].
فمهما أخفى الإنسان ما في قلبه واجتهد في كتمه فتأبى مغاريف القلوب إلا أن تخرج شيئا مما فيها، فالقلوب أوعية، والألسن مغاريفها.
ومما يحكى عن لقمان وهو رجل صالح آتاه الله الحكمة: كان عند رجل من أهل الثراء والسعة فقال: ذات يوم يا لقمان اذهب واذبح شاة وأحضر أطيب ما فيها، فذهب وأتاه بالقلب واللسان.
ثم أرسله مرة ثانية، وقال يا لقمان: أحضر لي أخبث ما فيها.
فسرعان ما أتاه بالقلب واللسان.
فتعجب من صنيعه فطلب من لقمان تفسير ذلك فقال لقمان: إن القلب واللسان إذا صلحا فبهما يظهر صلاح المرء، وإذا فسدا ظهر فساد المرء وخبثه.
وصدق رحمه الله فما كان في القلب تكلم به اللسان، وجرى به نطقه، وصار لفظاً يتردد به قوله.
فيا لله، كم كشفت ألسنتنا عما في ضمائرنا، وكم غرفت من قلوبنا، وصار مستورنا معلناً شهدت به ألسنتنا.
ولكن من توفيق الله ورحمته بعبده أنه جعل الخبيثات من الأقوال وغيرها للخبيثين من الرجال وغيرهم.
فضل من الله ونعمة فما أعظم فضل الله ونعمته.
فالناس لم يعرفوا عبداً أنعم الله بالإيمان ومحبة الإحسان، فهو الذاكر المصلي لم يعرفوا منه ولم يشهدوا عليه بسب في خصومة وطيش في مجادلة حتى تسمع عبارات اللعن والتعيير بما يقبح ذكره أو تصريح بما يستحيا من قوله.
لا .. ليس هذا مما تغرفه الألسن ويستخرج من قلبه.
وإن ندت به العبارة ومسه طائفة من الشيطان وجدته بعد ذلك؛ كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف: 201].
فتذكرهم ردهم جادة الصواب التي كانوا عليه.
أيها الإخوة: في القرآن الكريم سجل الله لنا آنية نضحت كفراً ونفاقاً لما ضاقت بهم السبل.
في سورة المنافقين التي هي إحدى السور التي تشرع قراءتها في صلاة الجمعة.
سجل الله موقفين سيئين للمنافقين، ويقولون: المنافقون لا يصنعون الأحداث ولكنهم يستغلونها:
الحدث الأول: حينما وصل الصحابة تباعاً إلى المدينة مهاجرين مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، واغتبطوا بتلك البلدة الطيبة وبأهلها الأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان، لم يطق ذلك عصابة النفاق، ولم تتحمله قلوبهم، وغلت بما فيها من حسد وحنق على هذا الدين ومن جاء به، فغرفت ألسنتهم شيئاً من نتن أوعيتهم، وما استقر في قلوبهم، وقالوا: (لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا)[المنافقون: 7].
إذن الذين أبقى الصحابة حول نبيهم، وطابت بهم طيبة الطيبة في زعمهم، هي أموال المنافقين ونفقاتهم عليهم، والحل اقطعوا عنهم حتى ينفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرجعوا من حيث أتوا.
كبرت كلمة تخرج من أفواههم، وصغرت نفوس هذه عقليتها.
وعمي المنافقون أو تعاموا أن الصحابة خرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً.
فالمال لم يمنعهم من الهجرة طاعة لله ورسوله فهل سيكون سبباً لبقائهم في المدينة.
هذه الدعوى لا تروج إلا على من تشبع بالنفاق، وظن الحصار الاقتصادي سبباً لترك الناس دينهم، وتخليهم عن عقيدتهم.
وشتان بين عقيدة المصالح التي يركن إليها المنافقون المجرمون، وعقيدة التوحيد والثقة بالله التي يتمسك به المؤمنون: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم: 35].
أما الأرزاق فلم تكن مطمعاً لذوي العقائد الصحيحة الذين عرفوا حقيقة ما هم عليه، وحقيقة ما هم صائرون إليه، وقد آمنوا بقوله تعالى: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [المنافقون: 7].
فيؤتي الرزق من يشاء، ويمنعه من يشاء، وييسر الأسباب لمن يشاء، ويعسرها على من يشاء: (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) [المنافقون: 7].
الحدث الثاني: في سورة المنافقين في غزوة المريسيع في السنة الخامسة من الهجرة.
أظهر الله في هذه الغزوة بعض خفايا النفاق ونضحت آنيتهم بالكفر الصريح، والعدوان القبيح، قال الله تعالى: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) [المنافقون: 8].
قالها عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، ويعني بالأعز نفسه وأصحابه الذين شرقوا بهذا الدين الكفرة الفجرة، وبالأذل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام البررة.
فأذله الله أمام أصحابه، ففي أخبار الغزوة: أن عبد الله بن عبد الله بن سلول ابن لهذا المنافق من الله عليه بالصدق والإيمان وَقَفَ عَلَى بَاب الْمَدِينَة وَاسْتَلَّ سَيْفه، فَجَعَلَ النَّاس يَمُرُّونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُوهُ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ، قَالَ لَهُ اِبْنه: وَرَاءَك، وَاَللَّه لا تَجُوز مِنْ هَهُنَا حَتَّى يَأْذَنَ لَك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ الْعَزِيزُ وَأَنْتَ الذَّلِيلُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َشَكَا إِلَيْهِ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ اِبْنه، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَمَا إِذْ أَذِنَ لَك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجُزْ الآن.
وفي بعض الروايات: "وَاَللَّه لا تَدْخُل الْمَدِينَة أَبَدًا حَتَّى تَقُول: رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأعَزُّ وَأَنَا الأذَلُّ".
قَالَ: وَجَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك تُرِيد أَنْ تَقْتُل أَبِي فَوَ اَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا تَأَمَّلْت وَجْهه قَطُّ هَيْبَة لَهُ لَئِنْ شِئْت أَنْ آتِيك بِرَأْسِهِ لَأَتَيْتُك فَإِنِّي أَكْرَه أَنْ أَرَى قَاتِلَ أَبِي رضي الله عن الصحابي عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 8].
أقول قولي هذا ...
الخطبة الثانية :
الحمد لله ...
أيها الأخ المبارك: ما سمعته هذا قليل من كثير وغيظ من فيض.
وعلى قدر ما في جنانك يخرج على لسانك، ونحن في زمن كل يتكلم ويكتب ويسطر، فانكشفت عورات أناس، وتبين جهل آخرين، ولاحت معالم الصادقين من الكاذبين، والمصلحين من المفسدين، وقد قيل: تكلموا تعرفوا.
والكلمة هي عنوان صاحبها، ودليل على ما في قلبه.
والدنيا تعج بالأحداث والمتغيرات المتسارعة في الأوساط الدولية العالمية، والمحلية والاجتماعية حينها تنضح الآنية، وتملأ الأسماع القالة ناقلة وناقدة ومؤيدة، ومحللة ومتكهنة، وتمضي الأوقات في المتابعات المكرورة، وتفنى الساعات في المجالس والمسامرات.
وقد كره الله لنا قيل وقال.
لقد أصبحنا نرى الكذب الصراح في كلمات بعض المتكلمين، وتصريحات بعض المتنفذين تتلقفها وسائل التواصل، وقنوات الفضاء حتى لو أراد أحدهم أن يقول: عن الليل إنه نهار، وعن الشمس هذا القمر لم يجد حرجاً في ذلك، وقد أمن تبعتها ولا يخاف عاقبتها في الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون.
إن هناك تشابهاً كبيراً بين النفاق وضعف الإيمان، حيث يردد ضعيف الإيمان ما ينتهي إليه، ثم يسابق فيه.
وإلا ما معنى أن يصر بعضهم أن يجعل المسلمين في كل قضية محل الاتهام حتى تثبت براءتهم، وغيرهم على البراءة حتى تثبت تهمتهم.
نضحت آنية كثيرة بما فيها -وكل إناء بما فيه ينضح- حول التفجيرات في أمريكا.
ونضحت آنية أخرى حول الزلازل والأعاصير التي هي جند من جنود الله، وقالت كلاماً بعيداً عن سنن الله مكتفية بالنظرة المادية الغربية الإلحادية.
وأواني ثالثة كان نضحها تشفياً من المؤسسات الشرعية، ورجال الحسبة، وحماة الفضيلة، وجادلت عن الذين يختانون أنفسهم، ووقعوا في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) [النساء: 107].
(أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 4-6].
أيها العبد: تذكر أنه رب كلمة قالها الإنسان أو سطرها أو غرد بها من سخط الله تهوي به في النار سبعين خريفاً: "وهل يكب الناس في النار على وجوهه إلا حصائد ألسنتهم".
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعتمك وحسن عبادتك، ونسألك قلوبًا سليمةً وألسناً صادقةً، ونسألك من خير ما تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم ونستغفر لما تعلم.