القابض
كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...
العربية
المؤلف | عصام بن هاشم الجفري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
أمة الطهر والعفاف: داء يتفشى في مجتمعنا، ويسري كما تسري النار في الهشيم، ولكن -مع الأسف- قل اهتمام المصلحين به، فالاهتمام به يعد ضعيفًا لا يرقى إلى أهميته وخطورته، مع أن في القضاء على هذا الداء -أو على الأقل التخفيف منه- قضاءً أو تخفيفًا من كثير من المشاكل الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع. أعرفتم ما هو هذا الداء؟! إنه داء العنوسة بين الرجال والنساء، ولكني ..
الحمد لله الذي حفظ للمرأة المسلمة كرامتها، وحض على إكرامها وإعزازها وصيانتها، وجعل الزواج سبيل راحتها وعفتها، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه أولها وآخرها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرع للأمة بحكمته من الشريعة ما يصلحها ويحفظها، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خير البرية أزكاها وأطهرها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- كما أمركم بذلك ربكم بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
أمة الطهر والعفاف: داء يتفشى في مجتمعنا، ويسري كما تسري النار في الهشيم، ولكن -مع الأسف- قل اهتمام المصلحين به، فالاهتمام به يعد ضعيفًا لا يرقى إلى أهميته وخطورته، مع أن في القضاء على هذا الداء -أو على الأقل التخفيف منه- قضاءً أو تخفيفًا من كثير من المشاكل الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع.
أعرفتم ما هو هذا الداء؟! إنه داء العنوسة بين الرجال والنساء، ولكني سأتطرق لجانب النساء لأنه أكثر استفحالاً، ومما يدل على ذلك ما نشرته بعض الصحف منسوبًا لإحصائية أصدرتها وزارة التخطيط جاء فيها أن عدد النساء العوانس على مستوى المملكة مليون وخمسمائة وتسعة وعشرون ألفًا وأربعمائة وثماني عشرة فتاة، وقد بلغت أعلى نسبة منهن في مكة المكرمة؛ إذ بلغت نسبتهن ستة وعشرين بالمائة، أي أكثر من ربع عوانس المملكة هم هنا في مكة المكرمة، فما أسباب تلك النسبة المرتفعة من العنوسة؟!
يمكن إيجاز أهم تلك الأسباب فيما يلي:
أولاً: النظرة الخاطئة إلى التعليم، فمع تفشي الطلاق في المجتمع، وهي ظاهرة مقلقة أخرى أيضًا سيأتي الحديث عنها بإذن الله في خطب قادمة، وشيوع الأنانية الفردية في المجتمع؛ حيث إن إخوان المرأة المطلقة نادرًا ما يهتمون بها؛ حيث ينصب أكثر اهتمام الرجل إلى زوجته وأولاده وترفيههم، فأخذ ينظر الآباء إلى أن في حصول البنت على شهادة سلاحًا تستطيع به مواجهة ظروف الزمن من خلال الوظيفة والعمل، فتعالوا أحبتي نقلب هذا الرأي ونرى مدى مصداقيته.
وكمدخل لذلك لا بد من معرفة مراحل عمر الفتاة، فالفتاة كالوردة تتفتح على الحياة في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة، ومنهن من تتفتح قبل ذلك، ثم تزداد نضارتها وروعتها إلى العشرين، ثم بعد الخامسة والعشرين إلى الثلاثين تبدأ بعدها مرحلة الذبول ما لم تجد يدًا حانية تقطفها وتعتني بها، وهذه اليد هي الزوج، وحتى إن كان لا يزال بها شيء من النضارة فإن أيدي القاطفين لا تمتد عادة إلا إلى الزهرات حديثة التفتح، فانظروا كم من أغلى سنوات الفتاة تحترق وهي على مقاعد التعليم، فهي تنهي سنوات التعليم -على فرض أنها لم تخفق في سنة منها- في سن الثالثة والعشرين، ثم يصر الوالدان على أن تتوظف قبل الزواج حتى لا يمنعها زوجها من الوظيفة، فتنتظر العام والعامين والثلاثة وهي لا تجد وظيفة إلا في مكان بعيد لا تستطيع الذهاب إليه، وكم من فتاة انتظرت الوظيفة حتى جاوزت الثلاثين فلم تجد، ففاتها الزواج وفاتتها الوظيفة! وكم من فتاة درست وتوظفت ثم لم تغنها وظيفتها عن الزواج والإنجاب شيئًا، فعشن في حسرة وعذاب لا يعلم بها إلا الله.
ولينظر الأب إلى نفسه: هل اكتفى بالدراسة والوظيفة عن الزواج والإنجاب؟! والفتاة أشد حاجة من الرجل للزواج، فلماذا لا تتزوج وتكمل دراستها إن كان لابد؟! ثم إذا أحسن لها والدها اختيار الزوج وكان هو وأمها عونًا لها على إقامة حياة زوجية سعيدة، بتوجيهاتهما المستمرة، ونقل خبرتهما في الحياة إليها والتحبيب بينها وبين زوجها، فما الذي يدفع الزوج إلى طلاقها؟! بإمكان الأب أن يوقف جزءًا من أملاكه على بناته حيث يعود دخلها عليهن، وقبل ذلك وبعده ومعه الإيقان الجازم بأن الله سبحانه هو الرزاق الكريم، فلن يضيعها بإذن الله مادامت تزوجت تبغي العفاف وإقامة أسرة مسلمة، أليس الله هو القائل: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) .
ثم إن هناك جانبًا أغفله الناس اليوم وهو الجانب المهني للمرأة، ويصرون أن تتعلم المرأة كالرجل، وأن تتعين في الدولة مثله، بينما لو علموها حرفة كحرفة الخياطة، أو تزيين المرأة ليلة عرسها، أو الطباعة على جهاز الحاسب ونحو ذلك مما يشهد الواقع بأنها ذات مردود عالٍ، لاستغنت الفتاة بإذن الله بها.
ومن تلك الأسباب: عدم تزويج الرجل إلا أن يكون صاحب مال أو وجاهة أو نسب أو غير ذلك من أمور المظاهر، بينما أراح الإسلام ولي الفتاة من التفكير والحيرة في هذه القضية، وقدم له إجابة على السؤال الذي يحيره: لمن يزوجها؟! ووضع الحل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ". أخرجه الترمذي وابن ماجه.
وكم من أب اليوم يتردد كثيرًا وقد يُحجم عن زواج ابنته من صاحب الدين بحجة الخوف من أن يعقدها أو أن يحرمها من متع الحياة، وما نظر أن هذا هو الذي سوف يأخذ بيدها إلى السعادة الأبدية والرضوان في جنات الخلد بإذن الله.
ولكن لاحظوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرن بين الدين والخلق ولم يكتف بالدين وحده؛ لأن من الناس من لم يفهم الدين حق الفهم، فتجد ظاهره الصلاح ولكنه فاقد للأخلاق والعياذ بالله، وكم من رجل أعرض عن هذه الوصية النبوية الخيرة، فزوج ابنته من رجل فاسق والعياذ بالله، فاكتشف أنه مدمن للمخدرات، أو أنه أخذ ابنته وجرجرها في مستنقع المنكرات، ثم بعد أن أفسدها وملَّها جاء بها إلى أهلها وقذفها في وجوههم وقال: إن ابنتكم فاسدة والعياذ بالله.
ومن تلك الأسباب: اتباع أسلوب الترتيب في الزواج؛ فلا تزوج الصغرى قبل الكبرى، ولو جاء نصيبها فتكون النتيجة بدلاً من أن يكون في البيت امرأة واحدة بلا زواج يكن الجميع بلا زوج، وهذا أسلوب ظالم في حق بقية البنات في المنزل.
ومن تلك الأسباب: غلاء المهور، والعجب أنك تجد الأب ينفق على ابنته وهي في بيته، وعلى استعداد أن يلبي لها جميع مطالبها، لكن إذا حضر الزوج حضر الشح، فيتشرط ويتمطط في المهر؛ ما يجعل العريس يولي هاربً، فنقول لمثل هذا: هلا اشتريت سعادة ابنتك بدراهم معدودة تعين بها زوج ابنتك الذي لا ينسى لك ذلك، وتسعد بها ابنتك وتعينها على العفاف؟!
والبعض الآخر يأخذ مهرًا معقولاً، لكن بعد العقد تنشط أم الفتاة كحية مسعورة تود أن تنشب أسنانها في جلد العريس لتمتص دمه، فهي تتدخل في الأثاث ونوعه وصفته، وفي الشقة وكبرها ولونها، ثم تختم تلك المطالب بطامة كبرى: الفرح في صالة كبيرة فخمة، ومغنية مشهورة، وغيرها، وتضعف شخصية الأب أمام الأم وإصرارها، فلا يجد العريس من مهرب سوى طلاق البنت والابتعاد عن تلك الأسرة، فتصبح المسكينة مطلقة وهي لم يُدخل بها، وكم هي عظم جناية أهلها عليها إذ أضافوا إليها منفِّرًا جديدًا من الزواج منها وهو لقب مطلقة.
ومن تلك الأسباب: رفض فكرة التعدد التي أباحها الإسلام، بل ومحاربتها بكل الوسائل، والنظر إلى المعدِّد بأنه مجرم متوحش في صورة رجل، وقد لا يكون ذلك من نفس الفتاة، فكم من فتاة قاربت سن العنوسة تتمنى ولو ربع رجل يحميها ويسترها ويعفها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، أحمده سبحانه وأشكره؛ يكرم من أطاعه واقترب، ويمهل من عصاه وابتعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- فيمن ولاكم الله أمرهن من النساء، وأحسنوا إليهن بالمبادرة إلى تزوجيهن، واعلموا أن حاجة الفتاة إلى الزواج كحاجتها للماء والغذاء أو هي أكبر.
أيها الأحبة في الله: ومن تلك الأسباب: أسباب تكون الفتاة هي الطرف الرئيس فيها، فتجني على نفسها، ومرجع تلك الأسباب إلى تفلتها من دينها وتمردها على عادات وتقاليد مجتمعها؛ فمن الفتيات من ظنت أن في تقليد الفاجرات رفعة لمكانتها، وإقبال الناس عليها، فتجدها تحضر التجمعات العامة كحفلات الزفاف وهي شبه عارية والعياذ بالله، ومع الأسف قد لا تجد من ينكر عليها، وإن أُنكر عليها قالت: أنا في وسط النساء ولا بأس، وقد تجد من النساء من يُثني على مفاتنها وجمالها، لكن تلك التي تثني عليها إذا فكرت في اختيار زوجة لقريبها فأول من سوف تستبعدها تلك الفتاة؛ لأنها تنظر إليها في الحقيقة على أنها فتاة غير سوية.
ومن الفتيات من تحضر التجمعات العامة، فإذا كان فيها عزف وموسيقى كانت أولى الراقصات على خشبة ما يسمى بالكوشة، وهي أيضًا تفعل ذلك بحجة أنها في وسط النساء، وقد تجد من يثني على رقصها من الحاضرات، لكن لا ترشح واحدة منهن تلك الفتاة للزواج ممن تعرف من الرجال، ومن الفتيات من اقتنعت بما تبثه القنوات وتغرسه المسلسلات من أنه لا بد من التعرف على الرجل قبل الزواج، فتنشأ علاقات عن طريق الهاتف، أو عن طريق الاختلاء المحرم بالرجل والعياذ بالله، أو بواسطة قنوات المحادثة في الإنترنت، أو عن طريق إقامة علاقة مع زميل العمل في المستشفى ونحوها، ثم ما النتيجة؟! أيكون خاتمة ذلك الزواج؟! أقول مع الأسف: إن ذلك قد يحدث لكنه نادر جدًّا، حتى إنه يقرب من المستحيل، ولكن الذي يحدث هو أن الشاب حينما يفكر في الزواج أول ما يستبعد تلك الفتاة؛ لأنه يرى فيها فتاة لعوبًا غير سوية، ويكون على ثقة من أنها تعرّفت على غيره كما تعرفت عليه، بل منهن من تقع في الخطيئة مرة واحدة وتدفع ثمن ذلك أن تُحرم من متعة الزواج بقية عمرها، فهي ترفض الأزواج خشية أن يُفضح أمرها.
ومن الفتيات من تأثرت بالرجال الذين تراهم على شاشات القنوات، أو من خلال المجلات، فأخذت ترسم في مخيلتها مواصفات خيالية لزوج المستقبل، فهي تريده طويلاً، نحيفًا، أشقر الشعر، ملون العينين، خفيف الظل، عصريًّا متفتحًا... إلى آخر تلك المواصفات الخيالية، وكلما تقدم لها شاب رفضته حتى توقظها العنوسة بشدتها وقسوتها من أحلامها.
وبإصرار الفتاة على العمل السوقي زاحمت الرجل، وقللت من فرص توظفه، فقلَّت قدرة الرجال على الزواج وتكوين البيوت، فدفعت المرأة ثمن ذلك في صورة العنوسة، وتتعدد الأسباب ويطول الخطاب، ولكن حسبي ما ذكرت عسى أن يتنبه الغافل، ويتعظ المعرض، وتتضافر الجهود لحل هذه المعضلة الاجتماعية المتفاقمة، والسؤال: ما أضرار العنوسة على المجتمع؟! وما الحل؟! هذا -بإذن الله- سيكون موضوع خطبة قادمة.