البحث

عبارات مقترحة:

البر

البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...

السلام

كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...

الإصلاح بين التظاهر والاحتساب

العربية

المؤلف عبد الله بن محمد البصري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. دروس وعبر من مسيرة الحياة .
  2. بقدر ما في الأحداث من آلام فإنها تحمل فوائد وعبرًا .
  3. من فوائد الأحداث .
  4. أصناف الحكام .
  5. استفحال الفساد سبب للثورات المتتالية .
  6. الواجب على الشعوب .
  7. بعض الظلم والجور من الولاة المسلمين ليس مبررًا للخروج عليهم .

اقتباس

إِنَّ هَذِهِ الأَحدَاثَ الأَلِيمَةَ وَتِلكَ الأَقدَارَ المُوجِعَةَ، بِقَدرِ مَا فِيهَا مِن فَسَادٍ وَدَمَارٍ وَخَرَابٍ، وَإِزهَاقِ أَروَاحٍ وَإِذهَابِ أَمنٍ وَزَعزَعَةِ اطمِئنَانٍ، إِلاَّ أَنَّهَا حَمَلَت فَوَائِدَ وَمَعَانيَ عَظِيمَةً، وَبَيَّنَت لِلعَالمِ دُرُوسًا وَتَجَارِبَ عَمِيقَةً، وَمِن أَجلِّ تِلكَ الفَوَائِدِ أَنَّهَا أَزَالَت أَقنِعَةً كَثِيفَةً كَانَت تُغَطِّي وُجُوهِ الفَسَادِ الكَالِحَةَ، وَإِذَا كَانَت وَسَائِلُ الإِعلامِ قَد حَمَلَت وِزرَ إِضلالِ النَّاسِ وَتَغيِيبِ الحَقَائِقِ عَنهُم في كَثِيرٍ مِنَ الوَقَائِعِ وَالمُنَاسَبَاتِ..

 

 

 

 

أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: للهِ في خَلقِهِ شُؤُونٌ، وَفي مَسِيرِ الحَيَاةِ دُرُوسٌ وَعِبَرٌ، وَكَم مِن مِحنَةٍ فِيهَا مِن المِنَحِ مَا لا يَقدْرُهُ عَقلٌ وَلا يَخطُرُ بِبَالٍ، وَقَد رَأَيتُم مَا حَدَثَ في الأَيَّامِ المَاضِيَةِ مِن تَظَاهُرَاتٍ في بَعضِ الدُّوَلِ، وَزَوَالِ رُؤَسَاءَ بَعدَ تَمَكُّنٍ، وَذُلِّ آخَرِينَ بَعدَ عِزٍّ، وَاضطِرَابِ أَحوَالٍ بَعدَ استِقرَارٍ، وَسُيُولٍ جَارِفَةٍ وَأَمطَارٍ غَزِيرَةٍ، وَللهِ فِيمَا يُقَدِّرُ مِنَ الحِكَمِ وَالأَسرَارِ أَعظَمُهَا وَأَبلَغُهَا: (إِنَّ في خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ الَّتي تَجرِي في البَحرِ بما يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَاءٍ فَأَحيَا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرَضِ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَعقِلُونَ)، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتي المُلكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ).

إِنَّ هَذِهِ الأَحدَاثَ الأَلِيمَةَ وَتِلكَ الأَقدَارَ المُوجِعَةَ، بِقَدرِ مَا فِيهَا مِن فَسَادٍ وَدَمَارٍ وَخَرَابٍ، وَإِزهَاقِ أَروَاحٍ وَإِذهَابِ أَمنٍ وَزَعزَعَةِ اطمِئنَانٍ، إِلاَّ أَنَّهَا حَمَلَت فَوَائِدَ وَمَعَانيَ عَظِيمَةً، وَبَيَّنَت لِلعَالمِ دُرُوسًا وَتَجَارِبَ عَمِيقَةً، وَمِن أَجلِّ تِلكَ الفَوَائِدِ أَنَّهَا أَزَالَت أَقنِعَةً كَثِيفَةً كَانَت تُغَطِّي وُجُوهِ الفَسَادِ الكَالِحَةَ، وَإِذَا كَانَت وَسَائِلُ الإِعلامِ قَد حَمَلَت وِزرَ إِضلالِ النَّاسِ وَتَغيِيبِ الحَقَائِقِ عَنهُم في كَثِيرٍ مِنَ الوَقَائِعِ وَالمُنَاسَبَاتِ، وَمَارَسَت دَورَ التَّضلِيلِ لِلمُجتَمِعَاتِ مُنذُ عُقُودٍ وَسَنَوَاتٍ، فَقَد أَرَادَ اللهُ بِهَذِهِ الأَحدَاثِ أَن تَتَّضِحَ لِلنَّاسِ الحَقَّائِقُ وَيَرَوهَا بِأَعيُنِهِم كَمَا هِيَ بِلا تَغيِيرٍ، لَقَد رَأَينَا تَظَاهُرَاتٍ ضِدَّ الفَسَادِ وَالظُّلمِ الَّذِي مَارَسَتهُ وَلاَ تَزَالُ تُمَارِسُهُ حُكُومَاتٌ لم تَخَفِ اللهَ في شُعُوبِهَا، وَرَأَينَا سُيُولاً بَيَّنَت تَقصِيرَ بَعضِ المَسؤُولِينَ في أَمَانَاتِهِم، وَفَضَحَت تَلاعُبَهُم بِالأَموَالِ العَامَّةِ، أَمَّا التَّظَاهُرَاتُ فَقَد كَانَت حَاشِدَةً وَقَوِيَّةً حَتَّى أَطَاحَت بِرُؤَسَاءَ وَأَلجَأَت آخَرِينَ إِلى الاعتِذَارِ، وَأَمَّا السُّيُولُ فَقَد أَلزَمَت كُبَرَاءَ عَلَى تَفَقُّدِ الأَحوَالِ بِأَنفُسِهِم، وَالوَعدِ بِإِصلاحَاتٍ وَتَغيِيرَاتٍ مُستَقبَلِيَّةٍ.

وَكَانَ الدَّرسُ الثَّاني وَالفَائِدَةُ الأُخرَى مِن هَذِهِ الأَحدَاثِ الكَبِيرَةِ أَنَّ التَّظَاهُرَاتِ الَّتي حَدَثَت وَالغَضَبَ الَّذِي بَرَزَ، لم يَكُنْ قَاصِرًا عَلَى أَصحَابِ مَنهَجٍ بِعَينِهِ، بَل لَقَد وَجَدَتِ الشُّعُوبَ أَنفُسَهَا في ظِلِّ سِيَاسَةِ التَّجَاهُلِ وَالتَّجوِيعِ وَنَهبِ الثَّرَوَاتِ مُضطَرَّةً لِلخُرُوجِ في الشَّوَارِعِ لِتُوَاجِهَ مَا تُوَاجِهُ، لأَنَّهَا أَصبَحَت بَينَ خِيَارَينِ أَحلاهُمَا مُرٌّ: إِمَّا المَوتُ البَطِيءُ جُوعًا وَهَمًّا، وَإِمَّا مُجَابَهَةُ هَؤُلاءِ الحُكَّامِ حَتى يَقضِيَ اللهُ أَمرًا كَانَ مَفعُولاً.

لَقَد عَاشَتِ الشُّعُوبُ سِنِينَ مِنَ التَّظلِيلِ الإِعلامِيِّ الدَّوليِّ وَالمَحَلِّيِّ، وَالَّذِي زُعِمَ فِيهِ أَنَّ الإِسلامَ وَالإِسلامِيِّينَ هُم أَهلُ الإِرهَابِ وَمَصدَرُهُ، وَأَنَّهُم مُوقِدُو الفِتَنِ ومُسَعِّرُو الحُرُوبِ، وَقَد طُرِقَ هَذَا الأَمرُ حَتَّى تَشَرَّبَهُ النَّاسُ وَعَادُوا لا يَشُكُّونَ في صِحَّتِهِ، وَهَا هُمُ اليَومَ يَرَونَ الشُّعُوبَ بِقَضِّهَا وَقَضِيضِهَا تَخرُجُ في تَظَاهُرَاتٍ حَاشِدَةٍ، فَيَنتُجُ عَن خُرُوجِهَا إِفسَادٌ وَقَتلٌ وَتَروِيعٌ وَذَهَابُ أَمنٍ وَاختِلالُ أَحوَالٍ، فَمَنِ الَّذِي أَوقَدَهَا وَأَحمَى وَطِيسَهَا؟!

بَل مَنِ الَّذِي عَبَّأَ تِلكَ الشُّعُوبَ طُوَالَ السِّنِينَ حَتَّى عَادَت صُدُورُهَا كَالقُدُورِ، ثُمَّ انفَجَرَت في لَحَظَاتِ غَضَبٍ مُفَاجِئَةٍ؟! أَلَيسُوا هُمُ الحُكَّامَ الطُّغَاةَ وَأَتبَاعَهُم وَجُنُودَهُم؟!

لَقَد كَشَفت هَذِهِ الأَحدَاثُ أَنَّ هَؤُلاءِ الطُّغَاةَ كَانُوا هُمُ المُؤَجِّجِينَ لِلإِرهَابِ بِتَمَادِيهِم في الظُّلمِ وَإِصرَارِهِم عَلَى البَغيِ، الغَارِسِينَ لِلأَحقَادِ في القُلُوبِ بَتَجَاهُلِ الشُّعُوبِ وَإِهانَتِهَا وَالعَبَثِ بِمُقَدَّرَاتِهَا، المُغضِبِينَ لَهَا بِالتَّضيِيقِ عَلَيهَا في دِينِهَا وَالعَمَلِ عَلَى تَغيِيرِ قِيَمِهَا وَإِفسَادِ أَخلاقِهَا، حَتَّى لم يَبقَ لَهَا إِلاَّ أَن تَخرُجَ بِعُلَمَائِهَا وَعَامَّتِهَا، وَتَثُورَ ثَورَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُستَنكِرَةً الظُّلمَ وَالهَضمَ، مُنتَظِرَةً الفَرَجَ وَالخَلاصَ.

وَمِنَ الدُّرُوسِ في هَذِهِ الأَحدَاثِ أَنَّ دَولَةَ الظُّلمِ زَائِلَةٌ مَهمَا انتَفَخَت وَانتَفَشَت، وَإِنَّ فِرعَونَ بِسُلطَتِهِ وَقَارُونَ بِمَالِهِ، سَيَظَلاَّنِ مَثَلَينِ وَنَمُوذَجَينِ لِسُقُوطِ كُلِّ مَن أَعمَاهُ المُلكُ أَو أَطغَاهُ المَالُ فَتَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ، ثُمَّ صَارَ مَآلُهُ إِلى الهَلاكِ وَأَصبَحَ خَبَرًا بَعدَ أَن كَانَ عَينًا.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: وَمَعَ مَا أَحدَثَتهُ بَعضُ التَّظَاهُرَاتِ مِن آثَارٍ قَد تُحمَدُ في النَّظرَةِ الأُولى، إِلاَّ أَنَّ عَلَى المُجتَمَعَاتِ الإِسلامِيَّةِ أَن تَعِيَ أَنَّ التَّظَاهُرَاتِ لَيسَت هِيَ الحَلَّ النَّاجِعَ لمُشكِلاتِهِم، وَلا المُخَلِّصَ لَهُم مِمَّا يُعَانُونَهُ مِن ظُلمٍ وَهَضمٍ في كُلِّ مَرَّةٍ، عَلَيهِم أَن يَعلَمُوا أَنَّ العَشوَائِيَّةَ وَالهَمَجِيَّةَ قَد تَحُولُ بَينَهُم وَبَينَ الوُصُولِ إِلى مَقَاصِدِهِم النَّبِيلَةِ وَبُلُوغِ أَهدَافِهِمُ السَّامِيَةِ، وَإِذَا أَرَادَتِ الأُمَّةُ أَن تَأخُذَ بِحُقُوقِهَا كَامِلَةٍ فَلْتَتَّقِ رَبِّهَا، وَلْتَنْصَحْ لَوُلاةِ أَمرِهَا، وَلْتَأمُرْهُم بِالمَعرُوفِ وَلْتَنهَهُم عَنِ المُنكَرِ، وَلْتَقُمْ كُلُّهَا عَن بَكرَةِ أَبِيهَا بِهَذَا الوَاجِبِ العَظِيمِ، آخِذَةً في اعتِبَارِهَا أَنَّ الأَمرَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيَ عَنِ المُنكَرِ لا يَقتَصِرُ عَلَى الانحِرَافَاتِ السُّلُوكِيَّةِ الفَردِيَّةِ، أَوِ الغَزوِ الثَقَافيِّ الخَارِجِيِّ فَحَسبُ، وَإِنَّمَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ لِلأَخذِ عَلَى أَيدِي المُفسِدِينَ وَالعَابِثِينَ بِحُقُوقِ المُسلِمِينَ في أَنفُسِهِم وَأَموَالِهِم وَأَعرَاضِهِم.

ثُمَّ إِنَّ الحَاكِمَ إِمَّا أَن يَكُونَ عَادِلاً أَو جَائِرًا أَو كَافِرًا، فَأَمَّا الحَاكِمُ المُؤمِنُ العَادِلُ فَتَجِبُ طَاعَتُهُ في غَيرِ مَعصِيَةِ اللهِ، وَيَحرُمُ الخُرُوجُ عَلَيهِ، بَل إِنَّ إِكرَامَهُ مِن إِكرَامِ اللهِ، قَالَ سُبحَانَهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمرِ مِنكُم).

 

وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ مَرفُوعًا: "مَن أَطَاعَ الأَمِيرَ فَقَد أَطَاعَني، وَمَن عَصَى الأَمِيرَ فَقَد عَصَاني"، وَأَخرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ مِن إِجَلالِ اللهِ إِكرَامَ ذِي الشَّيبَةِ المُسلِمِ، وَحَامِلِ القُرآنِ غَيرِ الغَالي فِيهِ وَالجَافي عَنهُ، وَإِكرَامَ ذِي السُّلطَانِ المُقسِطِ". حَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ.

وَأَمَّا النَّوعُ الثَّاني مِنَ الحُكَّامِ، فَهُوَ الكَافِرُ كُفرًا طَارِئًا أَو أَصلِيًّا، وَهَذَا يَجِبُ الخُرُوجُ عَلَيهِ في حَالِ القُدرَةِ عَلَى تَغيِيرِهِ، قَالَ تَعَالى: (وَلَن يَجعَلَ اللهُ لِلكَافِرِينَ عَلَى المُؤمِنِينَ سَبِيلاً).

وَفي حَدِيثِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمرَ أَهلَهُ، إِلاَّ أَن تَرَوا كُفرًا بَوَاحًا عِندَكُم مِنَ اللهِ فِيهِ بُرهَانٌ". رَوَاهُ الشَّيخَانِ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنَ الحُكَّامِ فَهُوَ الحَاكِمُ المُسلِمُ الجَائِرُ، فَهُوَ لَيسَ بِعَدلٍ وَلا كَافِرًا، وَهَذَا تَجِبُ مُنَاصَحَتُهُ وَالأَخذُ عَلَى يَدَيهِ وَيَحرُمُ الخُرُوجُ عَلَيهِ، فَإِن زَالَ المُنكَرُ بِمُنَاصَحَتِهِ سِرًّا اكتُفِيَ بها، وَإِلاَّ جُهِرَ في نُصحِهِ بِالرِّفقِ أَو بِالشِّدَّةِ المُنَاسِبَةِ، بِحَسَبِ القُدرَةِ وَبِحَسَبِ مِقدَارِ المُنكَرِ، شَرِيطَةَ أَن لا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلى مُنكَرٍ أَشَدَّ أَو يُثِيرَ فِتنَةَ الخُرُوجِ عَلَيهِ.

في صَحِيحِ مُسلِمٍ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "سَيَكُونُ بَعدِي أُمَرَاءُ فَتَعرِفُونَ وَتُنكِرُونَ، فَمَن أَنكَرَ فَقَد بَرِئَ، وَمَن كَرِهَ فَقَد سَلِمَ، وَلَكِنْ مَن رَضِيَ وَتَابَعَ". قَالُوا: أَفَلا نُنَابِذُهُم بِالسَّيفِ؟! قَالَ: "لا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ"، فَقَولُهُ: "فَمَن أَنكَرَ فَقَد بَرِئَ"، أَي فَقَد بَرِئَ مِن تَبِعَاتِ المُنكَرِ كَامِلَةً وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيهِ دُونَ نُقصَانِ. وَقَولُهُ: "وَمَن كَرِهَ فَقَد سَلِمَ" أَي سَلِمَ مِن أَن يَكُونَ شَرِيكًا في المُنكَرِ وَإِنْ لم يَسلَمْ مِن تَبِعَاتِهِ كُلِّهَا لأَنَّهُ لم يُنكِرْ. "وَلَكِنْ مَن رَضِيَ وَتَابَعَ" فَهَذَا لم يَبرَأْ وَلم يَسلَمْ، بَل هُوَ شَرِيكٌ في الإِثمِ مَعَ الفَاعِلِ.

وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَم يَأخُذُوا عَلَى يَدَيهِ أَوشَكَ أَن يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِن عِندِهِ".

وَإِنَّ مَا حَلَّ في بَعضِ أَجزَاءِ بِلادِنَا مِن غَرَقٍ وَدَمَارٍ بِسَبَبِ الأَمطَارِ وَالسُّيُولِ، إِنَّهُ بِسَبَبِ تَركِ الحَبلِ عَلَى الغَارِبِ لِلظَّالِمِ يَسرِقُ وَيَغُشُّ ويَرتَشِي، وَلَمَّا لَم يُؤخَذْ عَلَى يَدَيهِ فَقَد عَمَّ العِقَابُ كَثِيرِينَ، وَمِثلُ ذَلِكَ مَا جَرَى عَلَى إِخوَةٍ لَنَا في دُوَلٍ غَيرِ بَعِيدَةٍ، إِنَّهُ بِسَبَبِ تَركِ الفَسَادِ يَستَفحِلُ وَيَتَرَاكَمُ حَتَّى تَفَجَّرَ، فَالوَاجِبُ إِذًا أَن تَمتَدَّ جُسُورُ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ بَينَ الحُكَّامِ وَالشُّعُوبِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ، مَنِ استَطَاعَ نُصحَ المَسؤُولِ مُبَاشَرَةً فَهَذَا وَاجِبُهُ، وَمَن لم يَستَطِعْ فَبِأَيِّ وَسَيلَةٍ مِن وَسَائِلِ الاتِّصَالِ مَقرُوءَةً أَو مَسمُوعَةً أَو غَيرَ ذَلِكَ، وَمَن جَهَرَ بِمَعصِيَتِهِ فَإِنَّهُ يُجهَرُ بِالإِنكَارِ عَلَيهِ وَلا كَرَامَةَ لَهُ: (كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ).

ثُمَّ إِنَّ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الشُّعُوبِ عَامَّةً وَعَلَى الدُّعَاةِ وَالعُلَمَاءِ خَاصَّةً أَن يَكُونُوا عَلَى وَعيٍ بِأَهَمِّيَّةِ مُكَافَحَةِ الفَسَادِ، وَأَن يَعمَلُوا عَلَى صِنَاعَةِ أَفكَارٍ جَدِيدَةٍ وَإِنشَاءِ مَشرُوعَاتٍ لِلإِصلاحِ بِطُرُقٍ مَدَنِيَّةٍ حَضَارِيَّةٍ، مُحتَسِبِينَ مَا يَحتَاجُهُ ذَلِكَ مِن جُهُودٍ وَأَفكَارٍ وَأَموَالٍ وَأَوقَاتٍ، فَاللهَ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- بِدَعمِ كُلِّ مَشرُوعٍ إِسلامِيٍّ إِصلاحِيٍّ مُبَارَكٍ، دَعْوِيًّا كَانَ أَم إِغَاثِيًّا، أَم تَعلِيمِيًّا أَم تَثقِيفِيًّا، مُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهوا عَنِ المُنكَرِ، وَاحتَسِبُوا عَلَى أَصحَابِ المُنكَرَاتِ صَغُرَت مَكَانَتُهُم أَم كَبُرَت، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ)؛ فَإِنَّهُ لَمِنَ المُحزِنِ حَقًّا، أَن تَظَلَّ الشُّعُوبُ تَتَلَقَّى مَوجَاتِ التَّغرِيبِ وَضَرَبَاتِ الإِفسَادِ عَامًا بَعدَ آخَرَ، حَتَّى إِذَا انتَبَهَت وَإِذَا هِيَ قَد أُفسِدَ دِينُهَا وَعُبِثَ بِأَخَلاقِهَا وَقِيَمِهَا، وَعَاثَت أَيدِي الغَدرِ في مُقَدَّرَاتِهَا وَنَهَبَت ثَرَوَاتِهَا، فَلَم تَجِدْ بُدًّا مِنَ الخُرُوجِ بِمُظَاهَرَاتٍ غَوغَائِيَّةٍ، بَحثًا عَن لُقمَةِ عَيشٍ تَسُدُّ بها جُوعَهَا، مُتَمَثِّلَةً قَولَ الَشَّاعِرِ:

إِذَا لم يَكُنْ إِلاَّ الأَسِنَّةُ مَركَبًا

فَمَا حِيلَةُ المُضطَرِّ إِلاَّ رُكُوبُهَا

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (فَلَولا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبلِكُم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ في الأَرضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّن أَنجَينَا مِنهُم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُترِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ).

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ مِمَّا يَجِبُ أَن نَعلَمَهُ يَقِينًا وَيَستَقِرَّ في الأَذهَانِ، أَنَّهُ مَا مِن دَولَةٍ بَعدَ دَولَةِ الإِسلامِ الأُولى وَدُوَلِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ، إِلاَّ وَيَحدُثُ فِيهَا مِنَ الظُّلمِ مَا يَحدُثُ، وَيَستَأثِرُ فِيهَا الوُلاةُ بِجُزءٍ مِنَ المَالِ يَقِلُّ أَو يَكثُرُ دُونَ الرَّعِيَّةِ، وَقَد جَاءَ في بَعضِ الأَحَادِيثِ مَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ وَلا بُدَّ، فَفِي البُخَارِيِّ وَمُسلِمٍ عَن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "بَايَعنَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَلَى السَّمعِ وَالطَّاعَةِ في العُسرِ وَاليُسرِ وَالمَنشَطِ وَالمَكرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَينَا".

وَفِيهِمَا أَنَّهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- قَالَ لِلأَنصَارِ: "إِنَّكُم سَتَلقَونَ بَعدِي أَثَرَةً، فَاصبِرُوا حَتَّى تَلقَوني عَلَى الحَوضِ".

فَفِي هَذَينِ الحَدِيثَينِ وَأَمثَالِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَثَرَةَ وَهِيَ الاختِصَاصُ بِالمَالِ مِنَ الوُلاةِ دُونَ الرَّعِيَّةِ وَأَكلُ بَعضِ حُقُوقِهِم حَاصِلَةٌ وَلا بُدَّ، وَفي هَذَا دَرسٌ عَظِيمٌ لِلأُمَّةِ في هَذِهِ الأَزمِنَةِ يَجِبُ أَن تَعِيَهُ، فَإِذَا هِيَ سَكَنَتِ الأَكوَاخَ أَو لم يَجِدْ بَعضُ أَفرَادِهَا مَلجَأً وَلا سَكَنًا، أَو لَبِسَتِ الخَلِقَ مِنَ الثِّيَابِ أَوِ افتَرَشَت رَدِيءَ الفُرُشِ، ثُمَّ رَأَت وُلاتَهَا بَعدَ ذَلِكَ يَسكُنُونَ القُصُورَ الشَّامِخَةَ أَو يَلبَسُونَ الثِّيَابَ الغَالِيَةَ، أَو يَركَبُونَ المَرَاكِبَ الفَارِهَةَ أَو يَتَمَتَّعُونَ بِزَخَارِفِ الدُّنيَا، فَإِنَّ هَذَا يَجِبُ أَن لا يُهِمَّهَا في شَيءٍ وَلا يَدعُوَهَا لِلخُرُوجِ عَلَيهِم مَا لم تَرَ مِنهُم كُفرًا بَوَاحًا عِندَهَا مِنَ اللهِ فِيهِ بُرهَانٌ؛ فَمَتَاعُ الدُّنيَا قَلِيلٌ، وَلا بُدَّ يَومًا أَن يَزُولَ عَن هَؤُلاءِ الحُكَّامِ أَو يَزُولُوا هُم عَنهُ، وَالأَمرُ في المَظَالِمِ مَضبُوطٌ وَمُحكَمٌ، لا يَضِيعُ عِندَ اللهِ مِنهُ شَيءٌ، قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَن ضَرَبَ بِسَوطٍ ظُلمًا اقتُصَّ مِنهُ يَومَ القِيَامَةِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفرَدِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

وَأَمَّا الأَمرُ الَّذِي يَجِبُ أَن تُولِيَهُ الأُمَّةُ كُلَّ اهتِمَامِهَا وَتَصُبَّ فِيهِ كُلَّ عِنَايَتِهِا وَلا تَغضَبَ إِلاَّ مِن أَجلِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ أَمرُ الدِّينِ وَالعَقِيدَةِ، وَالَّذِي مِن وَاجِبَاتِهِ أَن يَفِيَ المَرءُ لِلإِمَامِ بِبَيعَتِهِ وَأَن لا يُنَازِعَ الأَمرَ أَهلَهُ، وَلا يَشغَلَ نَفسَهُ بِمُحَاوَلَةِ أَخذِ الإِمرَةِ مِنَ الأُمَرَاءِ مَا دَامَتِ الأُمُورُ قَدِ انتَظَمَت لَهُم وَالأَمنُ مُستَتِبٌّ وَالدِّينُ قَائِمٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ المُنَازَعَةَ تُوجِبُ شَرًّا كَثِيرًا، وَلا يَنتُجُ عَنهَا إِلاَّ الفِتَنُ وَالتَّفَرُّقُ بَينَ المُسلِمِينَ وَقَتلُ بَعضِهِم بَعضًا، وَهَذَا مَا أَثبَتَهُ التَّارِيخُ عَلَى مَدَى قُرُونٍ، فَإِنَّهُ مُنذُ أَن عَمَدَ أَهلُ الفِتَنِ إِلى مُنَازَعَةِ الأَمرِ أَهلَهُ مِن عَهدِ عُثمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- إِلى يَومِنَا هَذَا، فَإِنَّ الأُمَّةَ لم تَزَلْ في فَسَادٍ وَفِتَنٍ وَحُرُوبٍ وَقَتلٍ وَهَرجٍ، يُقَالُ هَذَا الكَلامُ -أَيُّهَا الإِخوَةُ- وَنَحنُ نَسمَعُ أَو يُنقَلُ إِلَينَا عَن بَعضِ مَن يَزعُمُونَ الإِصلاحَ في قَنَوَاتِهِم دَعَوتُهُم إِلى التَّظَاهُرِ وَالخُرُوجِ عَلَى وُلاةِ الأَمرِ، وَتَاللهِ مَا أَرَادُوا الخَيرَ وَلا وُفِّقُوا لِلصَّوَابِ (وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ).

فَلْيَحذَرِ المُؤمِنُ التَّسَرُّعَ وَالتَّشَرُّفَ لِلفِتَنِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِن شَرِّهَا، فَإِنَّ الفِتنَةَ إِذَا وَقَعَت أَكَلَتِ الأَخضَرَ وَاليَابِسَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ.