الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | سليمان الحربي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المعاملات |
إنَّ شُعَيْبًا -عليه السلام- تكلَّم عَنِ الأمْنِ الاقتصادِيِّ، وخَطَرِ الْأَزماتِ الاقتصاديَّةِ الَّتي تُسَبِّبُها أمورٌ كثيرةٌ مِن أعْظَمِها انْعِدامُ أخلاقيَّاتِ السُّوقِ، والغدرُ والشُّحُّ والأنانيةُ، وخَشِي عليهم مِن عواقبِ ذَلِكَ، وَوَاللهِ إِنَّ عواقبَ اخْتِلالِ الأَسْوَاقِ وأمْوالِ المسْلِمينَ مِن أَعْظمِ وَأَخْطَرِ الْعقُوباتِ الإلهيَّةِ.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران:30].
مَعْشَرَ الإِخْوةِ: إنَّ مِن أعظم أنواعِ الأمن الذي تَكَفَّل اللهُ به لأهلِ مِلَّتِه هو الأمنُ الاقتصاديُّ، هذا الأمن عمادُه هو القضاءُ على مقولةِ: "مالي، وأَفْعَلُ به ما أشاء"، ولقد قصَّ اللهُ لنا قصةَ قومٍ قالوا هذه الكلمةَ فصارت نهايتُهم وخيمةً، قال -تعالى-: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[هود:84]، أي: أخلِصُوا له العبادةَ، فإنهم كانوا يُشْرِكُون به، وكانوا -مع شِرْكِهم- يبخسون المكيالَ والميزان، ولهذا نهاهم عن ذلك فقال: (وَلَا تَنْقُصُوا المكْيَالَ وَالميزَانَ)[هود:84]، بل أَوْفُوا الْكَيْلَ والميزان بالقسط، (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ)[هود:84]، أي: بنعمةٍ كثيرةٍ، وصحَّةٍ، وكثرةِ أموالٍ وبنين، فاشْكُروا اللهَ على ما أعطاكم، ولا تَكْفُروا بنعمةِ الله، فيُزيِلَها عنكم، فيُصيبَكم عذابٌ يحيط بكم، ولا يُبْقِي منكم باقيةً.
(وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المكْيَالَ وَالميزَانَ بِالْقِسْطِ)[هود:85]، أي: بالْعَدْل الذي تَرْضَوْن أن تعطوه، (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)[هود:85]؛ أي: لا تَنْقُصوا مِن أشياء النَّاس، فتسرِقُوها بأخذِها، بنقص المكيال والميزان، (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[هود:85]؛ فإنَّ الاستمرارَ على المعاصِي يُفْسِد الأديانَ والعقائِدَ والدِّينَ والدُّنْيَا، ويهلك الحرث والنسل.
(بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[هود:٨٦]، أي: يَكْفِيكُم ما أبقى اللهُ لَكُمْ من الخير، وما هُوَ لَكُمْ، فلا تَطْمَعُوا في أمرٍ لَكُمْ عنه غُنْيَةٌ، وهو ضارٌّ لكم جدًّا. فلا تذهبوا إلى الحرامِ، فلَيْس فيه خيرٌ، وإن رأيْتَمُوه خيرًا، (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)[هود:٨٦]، أي: لسْتُ بحافظٍ لأعمالكم، ووكيلٍ عليها، وإنَّما الذي يحفظها اللهُ -تعالى-، وأمَّا أنا فَأُبَلِّغُكم ما أُرْسِلْتُ به.
فماذا كان ردُّ هؤلاءِ على هذا النَّاصِح المشفِق، (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)[هود:87]؛ أي: قالوا ذَلِك عَلى وجه التَّهَكُّم بنبيِّهم، والاستبعادِ لإجابتهم له.
وَمَعْنَى كلامِهم: أنَّه لا مُوجِب لِنَهْيِك لنا، إلا أنَّك تُصلِّي لله، وتتعبَّد له، أَفَإِنْ كُنْتَ كذلك، أَفَيُوجِبُ لنا أن نتْرُكَ ما يعبُدُ آباؤُنا، لقولٍ لَيْسَ عليه دليلٌ إلا أنَّه مُوافِقٌ لك، فكيفَ نتَّبِعُك، ونترُكُ آباءَنا الأقدمين أُوْلِي العُقول والألباب؟! وكذلك لا يُوجِب قولُك لنا: (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ)[هود:87]، ما قُلْتَ لنا، من وفاءِ الْكَيْل، والميزَانِ، وأداءِ الحُقُوقِ الواجِبَةِ فيها، بل لا نَزَال نفعلُ فيها مَا شِئْنَا، لأنَّها أموالُنا، فليس لك فيها تَصَرُّفٌ.
ولهذا قالوا في تهكمهم: (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)[هود:87]؛ أي: أَئِنَّك أنت الذي، لَك الحلم والوقار خُلُقٌ، والرُّشد لك سجيةٌ، أي: ليس الأمر كذلك.
فردَّ عليهم: (يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي)[هود:88]، أي: يقينٌ وطمأنينةٌ، في صحةِ ما جِئْتُ به، (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا)[هود:88]، أي: أعطاني اللهُ مِن أصناف المال ما أعطاني. (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)[هود:88]، فلسْتُ أُرِيدُ أن أنْهَاكُمْ عن الْبَخْسِ في المكيالِ والميزانِ، وأفعلَه أنا، وحتى تتطرق إليَّ التهمةُ في ذلك. بل ما أنهاكم عن أمرٍ إلا وَأنا أوَّلُ مُبْتَدِرٍ لتركه، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)[هود:88] أي: ليس لي مِن المقاصِدِ إِلَّا أن تَصْلُحَ أحوالُكم، وتَستَقِيمَ منافِعُكُم، وليس لي من المقاصِد الخاصةِ لي وَحْدِي، شيءٌ بِحَسَبِ استطاعتي. ثم دَفَع تزكيةَ نفسِه بقوله: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هود:88].
إنَّ شُعَيْبًا -عليه السلام- تكلَّم عَنِ الأمْنِ الاقتصادِيِّ، وخَطَرِ الْأَزماتِ الاقتصاديَّةِ الَّتي تُسَبِّبُها أمورٌ كثيرةٌ مِن أعْظَمِها انْعِدامُ أخلاقيَّاتِ السُّوقِ، والغدرُ والشُّحُّ والأنانيةُ، وخَشِي عليهم مِن عواقبِ ذَلِكَ، وَوَاللهِ إِنَّ عواقبَ اخْتِلالِ الأَسْوَاقِ وأمْوالِ المسْلِمينَ مِن أَعْظمِ وَأَخْطَرِ الْعقُوباتِ الإلهيَّةِ.
ولْنَتَأَمَّل إلى قوْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ لنبيِّنَا محمدٍ -عليه الصلاة والسلام- حِينَما دعاهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلى الإِسْلامِ بِما فيهِ مِن عِلاقَةِ الْعَبْدِ بِرَبِّه وعلاقتِه بغيرِه، قال -تعالى-: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[القصص:57]، (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ)؛ أي: بالقتل والأسر ونهب الأموال، فإنَّ النَّاس قد عادَوْك وخالَفُوك، فلو تابَعْنَاك لتعرَّضْنا لمعادَاةِ النَّاسِ كلِّهم، ولم يكن لنا بهم طَاقَةٌ.
وهذا الكلام منهم؛ خوفًا على أمنِهم واقتصادِهم، لكنَّه يدُلُّ على سوء الظنِّ باللّه -تعالى-، وأنَّه لا ينْصُرُ دينَه، فقال اللّه مبيِّنًا لهم حالةً اختصَّهُم الله بها، فقال: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا)؛ أي: أَوَلَمْ نجعلهم متمكِّنِين "مُمَكَّنِينَ" في حرمٍ يكثره المنتابون ويقصده الزائرون، قد احترمه البعيدُ والقريبُ، فلا يُهَاج أهلُه، ولا ينتقصون بقليل وَلا كثيرٍ، والحالُ أنَّ كلَّ ما حولهم مِن الأماكن، قد حفَّ بها الخوفُ مِن كلِّ جانبٍ، وأهلُها غيرُ آمِنِينَ ولا مُطْمَئِنِّين.
فَلْيَحْمَدُوا ربَّهم على هذا الأمنِ التَّامِّ، الذي ليس فيه غيرهم، وعلى الرِّزق الكثيرِ، الَّذِي يجيءُ إليهم مِن كُلِّ مكانٍ، مِن الثَّمَراتِ والْأَطْعِمَةِ والْبَضَائِعِ، ما بِه يَرْتَزِقُون ويتوسَّعُون. ولْيَتَّبِعُوا هذا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ، لِيُتِمَّ لهم الأمنَ والرَّغَدَ. وإيَّاهم وتكذيبَه، والْبَطَرُ بِنِعْمَةِ اللهِ، فَيُبَدِّلوا مِن بعد أمنِهِمْ خوفًا، وبعدَ عِزِّهم ذلًّا وبعدَ غِناهُمْ فَقْرًا، ولهذَا توعَّدَهُم بما فَعل بِالْأُمَمِ قبلَهُمْ، فقال: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)[القصص:58]، أي: فَخرت بِها، وألْهَتْها، واشتَغَلَتْ بِها عنِ الْإِيمانِ بِالرُّسُلِ، فأهلكهم اللهُ، وأزَالَ عنهم النعمةَ، وأحلَّ بهم النقمةَ. (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا)[القصص:58]، لِتَوالِي الهلاكِ والتَّلَفِ عليهم، وإيحاشِها مِن بَعْدِهم. فَعَلِم مِن ذَلِك أن مخالفةَ أمرِ اللهِ في النِّظامِ الاقتصاديِّ هو مُوجِبٌ لِسَخَطِ الله وعقوبَتِهِ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ)[قريش: 1، 2]؛ بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.