الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
ومعنا سيدة النساء، مُحدِّثةُ وفقيهةُ عصرِها، وحبيبةُ قلب نبينا -صلى الله عليه وسلم-، تزوجها -صلى الله عليه وسلم- وهي البكرُ الوحيدة من بين نسائه، ولا أحبَّ امرأةً كحبها. إنها أُمُّنا عائشةُ -رضي الله عنها-، ناداها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمِّ عبد الله، وعائشُ، وابنةِ الصديق، وابنةِ أبي بكر.
الخطبة الأولى:
لأمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- خصائصُ وميزاتٌ عامةٌ لا تشاركهن امرأة في عصرهن، وزوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- لكل واحدة منهن مزية، فخديجة -رضي الله عنها- ناصرت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأيدته وبذلت الغاليَ والنفيس، من ابتداء نزول الوحي حتى وفاتها -رضي الله عنها- قبل الهجرة بثلاث سنين.
ومعنا سيدة النساء، مُحدِّثةُ وفقيهةُ عصرِها، وحبيبةُ قلب نبينا -صلى الله عليه وسلم-، تزوجها -صلى الله عليه وسلم- وهي البكرُ الوحيدة من بين نسائه، ولا أحبَّ امرأةً كحبها. إنها أُمُّنا عائشةُ -رضي الله عنها-، ناداها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمِّ عبد الله، وعائشُ، وابنةِ الصديق، وابنةِ أبي بكر.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضلها، "فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام"(متفق عليه)، والثريد: هو الخبز باللحم، وهو من أفضل الطعام، وأكثرُ تغديةً من غيره، شبهها بأفضل طعام العرب.
رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه قبل زواجه بها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها- "أُرِيتُكِ في المنام ثلاث ليال، جاءني بكِ المَلك في سَرَقَةٍ من حرير، فيقول: هذه امرأتك، فأكْشِفُ عن وجهكِ فإذا أنتِ هي، فأقول: إن يك هذا من عند الله يُمْضِه"(رواه مسلم).
وفي رواية "أن جبريل جاء بصورتها في خِرْقَةِ حريرٍ خضراءَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن هذه زوجتك في الدنيا والآخرة"(رواه الترمذي).
ولفضلها أيضًا عند خير الملائكة جبريل -عليه السلام- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا: "يا عائشُ! هذا جبريل يقرؤك السلام"، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى. تريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"(متفق عليه).
حُبُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لها ظاهر في سؤال عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: مِن الرجال؟ فقال: أبوها، قلت: ثم مَن؟ قال: ثم عمر بن الخطاب فعَدَّ رجالاً"(متفق عليه).
وفي قصة أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أمَّ سلمة! لا تؤذينني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرَها"(رواه البخاري).
ولمعرفة الناس بمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كانوا يتحرّون بهداياهم يومَ عائشة، يبتغون بذلك مرضاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"(رواه مسلم).
وكانت تُظْهِرُ فضلَها على غيرها في قولها: "يا رسول الله! أرأيت لو نزلتَ واديًا وفيه شجرة قد أُكل منها، ووجدتَ شجرًا لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: في الذي لم يرتع منها - تعني: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتزوج بكرًا غيرها"(رواه البخاري).
ويلاطفها القول في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعلم إذا كنت عنى راضية، وإذا كنتِ علي غضبى"، قالت: فقلت ومن أين تعرف ذلك؟ قال: "أما إذا كنتِ عنى راضيةً فإنك تقولين: لا وربِّ محمد، وإذا كنتِ غضبى قلت: لا وربِّ إبراهيم"، قالت: قلت أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك"(رواه مسلم).
من فضائلها أنها قالت: "لقد أُعطيتُ تسعًا ما أُعطِيتْها امرأةٌ بعدَ مريمَ بنتِ عمران: لقد نزل جبريل بصورتي في راحته، حتى أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكرًا، وما تزوج بكرًا غيري، ولقد قُبض ورأسُه في حِجري، ولقد قَبَرْتُه في بيتي، ولقد حفَّت الملائكة بيتي، وإن كان الوحي ينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه، وإن كان الوحي لينزل عليه وإني لمَعَه في لحافه، وإني لابنةُ خليفتِه وصدِّيقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خُلِقتُ طيبةً وعند طَيِّب، ولقد وُعدتُ مغفرة ورزقًا كريمًا" رواه ابو يعلى في المسند.
ورثت عائشة -رضي الله عنها- علمًا جمًا، ونَقْلاً مباشرًا لأفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- من بيت النبوة، فكانت أعلمَ مِن أكثر الرجال، فكثير من كبار علماء الصحابة يسألونها عن بعض الأحكام التي تُشكّل عليهم، وقد استدركت على عدد من الصحابة في الأحكام، وصنَّفَ في ذلك بعضُ أهل العلم كتبًا منها كتاب الزَّرْكشيِّ "الإصابة، فيما استدركته عائشة على الصحابة".
قال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "ما أشكل علينا أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا قطُّ، فسألنا عائشة إلاّ وجدنا عندها منه علمًا"، وقال مسروق: "رأيت مشيخة َأصحابِ رسولِ الله يسألونها عن الفرائض".
وقال عطاء: "كانت عائشة أفقهَ الناس، وأعلمَ الناس، وأحسنَ الناس رأيًا"، وقال الزهري: "لو جُمع علمُ عائشةَ إلى علم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل".
وقال عروة: "ما رأيت أحدًا أعلمَ بفقهٍ، ولا بطبٍ، ولا بِشِعْرٍ من عائشة، ولو لم يكن لعائشة من الفضائل إلا قصةُ الإفك لكفى بها فضلاً وعلوَّ مجدٍ، فإنها نزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة"، وسِنُّها يوم الإفك أربع عشرة سنة، ومن تأمل ثَباتَها فيه كقولها: "ولشأني في نفسي أحقر من أن ينزل الله فيَّ قرآنا يتلى" -والحادثة بتمامها في البخاري-.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "ولا أعلم في أمه محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل ولا في النساء مطلقًا، امرأةً أعلمَ منها"، وقال: "لم يكن في الأمم مثلُ عائشة في حفظها وعلمِها وفصاحتِها وعقلِها".
وكانت أذكى أمهاتِ المؤمنين وأحفظَهن، حيث إنها منذ نعومة أظفارها وهي تسمع القرآنَ من فم والدها الصديقِ -رضي الله عنه-، قالت: "لقد نزل بمكة على محمد -صلى الله عليه وسلم- وإني لجاريةٌ ألعب: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)[القَمَر: 46]، وما نزلت سورةُ البقرةِ والنساءِ إلا وأنا عنده"(رواه البخاري).
وكانت -رضي الله عنها- تسأل عن دقائق الأمور، قالت عائشة: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قوله -عز وجل-: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)[إبراهيم: 48]، فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: "على الصراط"(رواه مسلم).
وهي -رضي الله عنها- حاضرةُ الإجابة، لما نزلت آية التخيير بدأ بعائشة فقال لها: "إني ذاكرٌ لكِ أمرًا فلا تَعْجَلي حتى تستأمري أبويك"، قالت: وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه، فقرأ عليها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا)[الأحزَاب: 28]، فقالت: أو في هذا استأمر أبويَّ! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة"(متفق عليه).
وامتازت -رضي الله عنها- بتنوع العلوم والمعارف، قال عامر: "قيل لعائشةَ: يا أم المؤمنين! هذا القرآن تلقيَّتيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك الحلالُ والحرام، وهذا الشِعْرُ والنَّسبُ وأحاديثُ الناس سَمعتيها من أبيك وغيره؛ فما بال الطبّ؟ قالت: كانت الوفود تأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا يزال الرجل يشكو عِلّةً فيسأله عن دوائها، فيخبره بذلك. فحفظتُ ما كان يصفه لهم، وفهمته، وحفظته".
-رضي الله عنها- وعن أمهات المؤمنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
امتازت -رضي الله عنها- بكثرة روايتها للحديث لأسباب عدة -بعد توفيق الله- منها: صِغَرُ سنها، وقوةُ حفظها، وشدةُ ذكائها، ومحبتُها للتلقي والمعرفة، وطولُ عمرها، ونشرُ علمها، وعنايتُها بحديث رسول الله، وبَذْلُ الوقت والجهدِ لأجله، فلم يَرْوِ في الصحيح أحدٌ أكثرَ مما رُوي عنها -بعد أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم-؛ حيث بلغت ألفين ومائتين وعشرة أحاديث.
وكانت عائشة -رضي الله عنها- لها مكانة في الفتيا فهي تُفتي في عهد عمر، وعثمان، إلى أن ماتت، وكان عمر وعثمان يرسلان إليها فيسألانها عن الشيء، قال قبيصة بن ذؤيب: "كانت عائشةُ أعلمَ الناس، يسألها الأكابرُ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وامتازت -رضي الله عنها- بكريم الخصال، كالكرم، فهي بنت الصديق -رضي الله عنه- حين أتى بماله كله للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما أبقيت لأهلك"، قال: أبقيت لهم الله ورسوله(رواه أبو داود).
وهي زوجة أجود الناس -صلى الله عليه وسلم-، بعث معاوية -رضي الله عنه- إلى عائشة بقلادة قُوِّمت بمائة ألف، فقبلتها، وقسمتها في أمهات المؤمنين؛ وكانت من أسخى الناس، في الصحيحين عنها قالت: "جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها تسألني، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فَقَسَمَتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فحدًّثْتُه فقال: "من ابتلي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن، كن له سترًا من النار".
وامتازت -رضي الله عنها- بالحياء، قالت: "كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإني واضعة ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفِنَ عمر -رضي الله عنه- معهم فو الله ما دخلته إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر"(رواه أحمد).
وهي -رضي الله عنها- حَسَنةُ العِشرة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأى في يدي فَتَخَات من وَرِق، فقال: "ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، قال: "أَتؤدين زكاتهن؟" قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: هو حسبك من النار"(رواه أبو داود).
والفتخات: جمع فتخة، وهي حَلْقة من فضة لا فص لها، وذكر ابن حجر -رحمه الله-: أنها كانت تبالغ في تنظيف ثيابها التي تنام فيها مع النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وأما عبادتها فعجيبة، نقل ابن رجب عن ابن أبي الدنيا، عن القاسم بن محمد، قال: "كنت غدوت يومًا فإذا عائشة قائمة تُسّبح -يعني: تصلي- وتبكي، وتقرأ (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)[الطُّور: 27]، وتدعو وتبكي، وتردِّدُها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي، تصلي وتبكي".
وقد كانت -رضي الله عنها- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر لحظات حياته، قالت: "فلما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: "أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟" حرصًا على بيت عائشة، قالت عائشة: فلما كان يومي سكن، -أي: عن هذا القول- وكان ذلك في مرضه"(رواه البخاري).
"وكان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه"(رواه البخاري).
وهي تعلم ما المُحبَّب للنبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به، فأَبَدَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَصَرَه، فأخذت السواك فَقَصَمتْه وَنَفَضته، وطَيّبته، ثم دفعته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستنَّ به، فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استن استنانًا قطُّ أحسنَ منه، فما عدا أن فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رفع يده أو إصبعه، ثم قال: في الرفيق الأعلى -ثلاثًا- ثم قضى، وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي"(رواه البخاري).
وقالت: "كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخير بين الدنيا والآخرة، فسمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة يقول: (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)[النِّسَاء: 69]، فظننت أنه خُيِّرَ"(رواه مسلم).
توفيت -رضي الله عنها- بعد أن مكثت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت النبوة تسع سنين إلى وفاته، وكان عمرها عند وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر عامًا، وعاشت بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ستة وأربعين عامًا، وتُوفيت سنة سبع وخمسين، وعمرها أربعة وستون عامًا، وصلى عليها أبو هريرة -رضي الله عنه-، ودُفِنَتْ في البقيع -رضي الله عنها- وعن أمهات المؤمنين وأصحابه أجمعين.