البحث

عبارات مقترحة:

الحكيم

اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...

السبوح

كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...

المنان

المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...

الأمطار..ونعيم الجنة

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان - الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
  1. الله لطيف بعباده .
  2. نزول الغيث رحمة وبركة .
  3. آيات الله في إنزال المطر .
  4. علو همم الصالحين لطلب جنات النعيم .
  5. وصف الجنة وجمالها .
  6. كيف تبني لك بيتًا في الجنة؟ .
  7. وأن إلى ربك المنتهى .
  8. كل جمال في الدنيا الجنة أعظم منه. .

اقتباس

مَا نَرَاهُ مِنْ جَمَالٍ فِي الدُّنْيَا، وَمَا نَجِدُهُ مِنْ نَعِيمِهَا؛ جَعَلَ الْإِنْسَانَ أَكْثَرَ تَشَبُّثًا بِهَا، وَحُبًّا لِلْحَيَاةِ، وَكُرْهًا لِلْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ فَقَدَ نَعِيمَ الدُّنْيَا. وَفِي الْجَنَّةِ نَعِيمٌ أَكْبَرُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، وَفِيهَا مَسَاكِنُ أَعْظَمُ مِنْ مَسَاكِنِ الدُّنْيَا.. فَحَرِيٌّ بِالمُؤْمِنِ وَهُوَ يَرَى جَمَالَ الْأَرْضِ إِذَا ارْتَوَتْ بِالمَاءِ، وَيَحُسُّ جَمَالَ الْأَجْوَاءِ وَقَدْ تَطَهَّرَتْ بِالْأَمْطَارِ، وَيَنْتَعِشُ بِرِيحِ الطَّلِّ وَالنَّدَى أَنْ يَجْعَل مِنْ ذَلِكَ تَذْكِرَةً لَهُ لِبِنَاءِ آخِرَتِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَإِنَّ جَمَالَ الْأَرْضِ بِالْأَمْطَارِ لَا يَدُومُ؛ وَلِذَا يَهْتَبِلُ النَّاسُ فُرْصَتَهُ لِلنُّزْهَةِ وَالِاسْتِرْوَاحِ، وَيَعُدُّونَ الْعُدَّةَ لِذَلِكَ، وَيُنْفِقُونَ الْأَمْوَالَ عَلَيْهِ..

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْجَوَّادِ الْكَرِيمِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ، الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؛ جَعَلَ الْجَنَّةَ نُزُلًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَجَعَلَ النَّارَ مَثْوًى لِلظَّالِمينَ، وَخَلَقَ فِي الدُّنْيَا نَعِيمًا يُذَكِّرُ بِدَارِ النَّعِيمِ، وَعَذَابًا يُذَكِّرُ بِالْجَحِيمِ، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا عَلَّمَنَا وَهَدَانَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَوْلَانَا وَأَعْطَانَا. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ بِيَدِهِ آجَالُ الْخَلْقِ وَأَرْزَاقُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يُغِيثُ أَرْضَهُمْ، وَيُنْبِتُ زَرْعَهُمْ، وَيُغْدِقُ خَيْرَهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى تَنْقَلِبَ صَحَارِيهِمْ جَنَّاتٍ نَضِرَةً.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ خُيِّرَ بَيْنَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَلِقَاءِ اللَّـهِ تَعَالَى، فَاخْتَارَ لِقَاءَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ؛ لِعِلْمِهِ وَيَقِينِهِ بِمَا أَعَدَّ لِعِبَادِهِ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران: 133 - 136].

أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ يُغِيثُ اللهُ -تَعَالَى- الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، فَيَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ السَّمَاءِ؛ يَسْتَبْشِرُ النَّاسُ بِرَحْمَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَيَفْرَحُونَ بِفَضْلِهِ، وَيَلْهَجُونَ بِحَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، وَيُمَتِّعُونَ أَبْصَارَهُمْ بِالمَطَرِ وَهُوَ يَنْزِلُ، وَبِالسَّيْلِ وَهُوَ يَجْرِي، وَبِالْأَوْدِيَةِ وَهِيَ تَتَلَاطَمُ، وَحِينَ تَتَزَيَّا الْأَرْضُ بِحُلَّتِهَا الْخَضْرَاءِ يُخَيِّمُ النَّاسُ فِي الْبَرَارِي، فَلَا تُوجَدُ بُقْعَةٌ خَضْرَاءُ، وَلَا غَدِيرُ مَاءٍ إِلَّا وَالنَّاسُ يُحِيطُونَ بِهِ.

وَوَاجِبٌ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَهُمْ يَسْتَمْتِعُونَ بِهَذِهِ الْأَجْوَاءِ الْجَمِيلَةِ، وَبِمَنَاظِرِ المَاءِ المُتَدَفِّقِ حَوْلَهُمْ، وَالْخُضْرَةِ الَّتِي تَكْسُو أَرْضَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ ذَلِكَ عِبْرَةً وَتَذْكِرَةً لِنَعِيمٍ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وَأَبْقَى، فَهُوَ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ، وَلَا يَحُولُ عَنْهُ صَاحِبُهُ وَلَا يَزُولُ.. إِنَّهُ نَعِيمُ الْجَنَّةِ الَّذِي وَعَدَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ.

إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَ إِنْزَالَ الْغَيْثِ، وَإِنْبَاتَ الزَّرْعِ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرُّوم: 24]، وَلَوِ اجْتَمَعَ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ، وَبِكُلِّ مَا أُوتُوا مِنْ قُوَّةٍ، وَمَا فُتِحَ لَهُمْ مِنْ عُلُومٍ وَمَعَارِفَ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ أَوْ رَدِّهِ أَوْ تَحْوِيلِهِ عَنْ مَحَلِّهِ لَما اسْتَطَاعُوا؛ فَالْقَادِرُ –سُبْحَانَهُ- هُوَ مَنْ يُقَدِّرُهُ وَيُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) [الفرقان: 48 - 50].

فَالْقَادِرُ عَلَى إِرْوَاءِ الْأَرْضِ الْيَابِسَةِ، وَإِنْبَاتِ الصَّحَارَى الْقَاحِلَةِ، وَمَلْءِ الْآبَارِ الْفَارِغَةِ، وَإِحْيَاءِ المَزَارِعِ المَيِّتَةِ، وَإِنْعَامِ الْبَشَرِ بَعْدَ إِبْلَاسِهِمْ، وَإِفْرَاحِهِمْ بَعْدَ قُنُوطِهِمْ؛ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُدِيمَ نِعْمَتَهُمْ، وَيَزِيدَ رَغَدَهُمْ، وَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْقِلَهُمْ مِنْ دَارٍ إِلَى أُخْرَى، نَعِيمُهَا أَعْظَمُ، وَعَذَابُهَا أَشَدُّ؛ فَمَنْ خَلَقَ أَوَّلًا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الْخَلْقَ تَارَةً أُخْرَى.

إِنَّ المُؤْمِنَ حَقًّا هُوَ المُتَذَكِّرُ المُعْتَبِرُ، الَّذِي إِنْ رَأَى عَذَابًا فِي الدُّنْيَا خَافَ عَذَابَ النَّارِ فَاجْتَنَبَ أَسْبَابَهُ، وَإِنْ رَأَى نَعِيمًا تَذَكَّرَ نَعِيمَ الْجَنَّةِ فَأَتَى بِمُوجِبَاتِهِ، وَلَا نَعِيمَ فِي الدُّنْيَا مَهْمَا بَلَغَ أَمَامَ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَلَا يَدُومُ دَوَامَهَا، وَلَا عَذَابَ فِي الدُّنْيَا إِزَاءَ عَذَابِ النَّارِ، وَلَا خُلْدَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا، وَأَهْلُ النَّارِ مُخَلَّدُونَ فِيهَا.

إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَمَالًا نَرَاهُ، وَفِي الْأَرْضِ خُضْرَةً نَضِرَةً تَتَخَلَّلُهَا المِيَاهُ تَأْخُذُ بِالْأَلْبَابِ، وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.

وَفِي الدُّنْيَا قُصُورٌ أُحْكِمَ بِنَاؤُهَا، وَزُيِّنَ فِنَاؤُهَا، يَعْجَبُ النَّاظِرُ إِلَيْهَا مِنْ صُنْعِهَا، وَيَتَمَنَّى مَنْ يَمُرُّ بِهَا أَنَّهُ يَمْلِكُهَا. وَفِي الْجَنَّةِ قُصُورٌ لَا تَتَقَادَمُ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدٍ وَتَرْمِيمٍ وَصِيَانَةٍ، وَلَيْسَ بِنَاؤُهَا مِنَ الْحَدِيدِ وَالْخَرَسَانَةِ، وَإِنَّمَا تُبْنَى بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بِنَاءُ الجَنَّةِ لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

وَرَأَى النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي المَنَامِ قَصْرَهُ وَقَصْرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَقَصْرُهُ جَاءَ وَصْفُهُ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَا وَمَعَهُ مَلَكَانِ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَالاَ لِي –أَيِ: المَلَكَانِ-: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ، وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ»، قَالَ: «فَسَمَا بَصَرِي صُعُدًا، فَإِذَا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ البَيْضَاءِ» قَالَ: «قَالاَ لِي: هَذَاكَ مَنْزِلُكَ»، قَالَ: «قُلْتُ لَهُمَا: بَارَكَ اللهُ فِيكُمَا، ذَرَانِي فَأَدْخُلَهُ، قَالاَ: أَمَّا الآنَ فَلاَ، وَأَنْتَ دَاخِلُهُ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَأَمَّا قَصْرُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ذِكْرِهِ: «دَخَلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا أَنَا بِقَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَدْخُلَهُ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، إِلَّا مَا أَعْلَمُ مِنْ غَيْرَتِكَ» قَالَ: وَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّـهِ؟ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَفِي الدُّنْيَا بُيُوتٌ يَتَفَنَّنُ النَّاسُ فِي بِنَائِهَا وَتَأْثِيثِهَا وَإِتْقَانِهَا، وَفِي الْجَنَّةِ بُيُوتٌ لَيْسَتْ كَبُيُوتِ الدُّنْيَا، دَعَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ رَبَّهَا سُبْحَانَهُ فَقَالَتْ: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ) [التَّحريم: 11]، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ فِرْعَوْنَ أَوْتَدَ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ فِي يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، فَكَانَ إِذَا تَفَرَّقُوا عَنْهَا ظَلَّلَتْهَا المَلَائِكَةُ، فَقَالَتْ: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم: 11]، فَكَشَفَ لَهَا عَنْ بَيْتِهَا فِي الْجَنَّةِ. (رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى).

وَفِي شَأْنِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيهِ، وَلاَ نَصَبَ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

وَيَتَّخِذُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا غُرُفًا لِنَوْمِهِمْ أَوْ جُلُوسِهِمْ فِي قُصُورِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَمَزَارِعِهِمْ، وَيُهَيِّئُونَهَا بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَيَجْلِبُ الرَّاحَةَ لَهُمْ.

وَفِي الْجَنَّةِ غُرَفٌ لَيْسَتْ كَغُرَفِ الدُّنْيَا (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) [الفرقان: 75].

وَالْغُرْفَةَ هي: الْبَيْتُ المُعْتَلِي يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِدَرَجٍ، وَهُوَ أَعَزُّ مَنْزِلًا مِنَ الْبَيْتِ الْأَرْضِيِّ؛ وَلِذَا يَتَّخِذُ النَّاسُ غُرُفَهُمْ فِي أَعَالِي قُصُورِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ. (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [الزُّمر: 20].

وَتَتَفَاضَلُ غُرَفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِتَفَاضُلِ إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهمْ، قَالَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ، مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَثَمَّةَ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ يُبْنَى لِمَنْ أَتَى بِهَا بُيُوتٌ فِي الْجَنَّةِ: فَمَنْ حَافَظَ عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَهِيَ ثِنْتَي عَشْرَةَ رَكْعَةً بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِذَا مَاتَ وَلَدُ المُؤْمِنِ فَحَمِدَ اللهَ -تَعَالَى- وَاسْتَرْجَعَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: «ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ»، وَ«مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّـهِ -تَعَالَى- بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ» كُلُّ ذَلِكَ ثَبَتَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ.

وَفِي الدُّنْيَا يَنْصِبُ النَّاسُ خِيَامًا فِي مَزَارِعِهِمْ وَأَمْكِنَةِ اسْتَرْوَاحِهِمْ  لِلْمُتْعَةِ وَالتَّغْيِيرِ، وَإِذَا اخْضَرَّتِ الْأَرْضُ بَعْدَ الْأَمْطَارِ خَيَّمَ النَّاسُ فِي الرِّيَاضِ وَحَوْلَ الْغُدْرَانِ، يَسْتَمْتِعُونَ بِالْخُضْرَةِ وَالنُّضْرَةِ مُدَّةَ الشِّتَاءِ وَالرَّبِيعِ.

وَفِي الْجَنَّةِ خِيَامٌ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَخِيَامِ الدُّنْيَا لَا فِي بِنَائِهَا وَلَا فِي جَمَالِهَا وَلَا فِي سَعَتِهَا وَلَا فِيمَا يُحِيطُ بِهَا؛ فَهِيَ خِيَامٌ لَهُمْ فِيهَا حُورِيَّاتٌ مَقْصُورَاتٌ عَلَيْهِمْ (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ) [الرَّحمن: 72]، وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فِي الجَنَّةِ خَيْمَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ، مَا يَرَوْنَ الْآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمِ المُؤْمِنُ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَتُنْصَبُ خِيَامُ الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا عَلَى حَوَافِّ الْأَنْهَارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «دَخَلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ حَافَتَاهُ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ، فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى مَا يَجْرِي فِيهِ المَاءُ، فَإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللهُ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

وَمَنْ نَظَرَ إِلَى مُخَيَّمَاتِ النَّاسِ فِي الرِّيَاضِ المُرْبِعَةِ، وَحَوْلَ الْغُدْرَانِ الرَّاكِدَةِ، وَالْأَوْدِيَةِ الْجَارِيَةِ؛ فَلْيَتَذَكَّرْ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ عَلَى حَوَافِّ أَنْهَارِ المِسْكِ، تَنْتَظِرُهُمْ فِيهَا الْحُورُ الْعِينُ؛ لِيَكْتَمِلَ نَعِيمُهُمْ، وَتَعْظُمَ لَذَّتُهُمْ؛ فَمَنْ تَذَكَّرَ ذَلِكَ قَوِيَ إِيمَانُهُ وَيَقِينُهُ، وَنَشِطَ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَانَ مَعَ اسْتِمْتَاعِهِ بِالمَطَرِ وَآثَارِهِ مُعْتَبِرًا بِمَا أَمَامَهُ، مُسْتَعِدًّا لِلِقَاءِ رَبِّهِ؛ فَهُوَ فِي بَيْتِهِ فِي عِبَادَةٍ، وَفِي نُزْهَتِهِ فِي عِبَادَةٍ، وَفِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فِي عِبَادَةٍ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ عِبَادَةَ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، وَأَكْثَرِهَا أَثَرًا فِي صَلَاحِ الْعَبْدِ وَاسْتِقَامَتِهِ، وَهِيَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى عَمَلٍ وَمَئُونَةٍ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت: 58-59].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، فَإِنَّ الجَنَّةَ حُلْوَةٌ طَيِّبَةٌ (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّـهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ) [الحديد: 21].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مَا نَرَاهُ مِنْ جَمَالٍ فِي الدُّنْيَا، وَمَا نَجِدُهُ مِنْ نَعِيمِهَا؛ جَعَلَ الْإِنْسَانَ أَكْثَرَ تَشَبُّثًا بِهَا، وَحُبًّا لِلْحَيَاةِ، وَكُرْهًا لِلْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ فَقَدَ نَعِيمَ الدُّنْيَا. وَفِي الْجَنَّةِ نَعِيمٌ أَكْبَرُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، وَفِيهَا مَسَاكِنُ أَعْظَمُ مِنْ مَسَاكِنِ الدُّنْيَا (وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّـهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ) [التوبة: 72]، فَهِيَ مَسَاكِنُ حَسَنَةُ الْبِنَاءِ، طَيِّبَةُ الْقَرَارِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

فَحَرِيٌّ بِالمُؤْمِنِ وَهُوَ يَرَى جَمَالَ الْأَرْضِ إِذَا ارْتَوَتْ بِالمَاءِ، وَيَحُسُّ جَمَالَ الْأَجْوَاءِ وَقَدْ تَطَهَّرَتْ بِالْأَمْطَارِ، وَيَنْتَعِشُ بِرِيحِ الطَّلِّ وَالنَّدَى أَنْ يَجْعَل مِنْ ذَلِكَ تَذْكِرَةً لَهُ لِبِنَاءِ آخِرَتِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَإِنَّ جَمَالَ الْأَرْضِ بِالْأَمْطَارِ لَا يَدُومُ؛ وَلِذَا يَهْتَبِلُ النَّاسُ فُرْصَتَهُ لِلنُّزْهَةِ وَالِاسْتِرْوَاحِ، وَيَعُدُّونَ الْعُدَّةَ لِذَلِكَ، وَيُنْفِقُونَ الْأَمْوَالَ عَلَيْهِ. وَالدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَيْسَتْ دَارَ خُلْدٍ وَلَا إِقَامَةٍ. وَلِلْعَبْدِ دَارٌ أُخْرَى تَنْتَظِرُهُ، فَلْيُعِدَّ لِنَفْسِهِ فِيهَا بِنَاءً وَغِرَاسًا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِيَجِدَ ذَلِكَ أَمَامَهُ.

وَأَوَّلُ ذَلِكَ: شُكْرُ اللَّـهِ -تَعَالَى- عَلَى مَا أَنْزَلَ مِنَ الْغَيْثِ المُبَارَكِ، وَتَسْخِيرُهُ فِي طَاعَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَالْبُعْدُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَنَشْرُ شَعِيرَةِ الْأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ فِي أَمَاكِنِ الْفُرْجَةِ وَالِاسْتِرْوَاحِ، وَأَنْ لَا تَسْتَخِفَّ هَذِهِ النِّعَمُ عُقُولَ النَّاسِ فَيَسْتَهِينُوا بِالمُحَرَّمَاتِ، وَيَرْتَكِبُوا المُوبِقَاتِ، وَهُمْ يَسْتَمْتِعُونَ بِمَا أَغْدَقَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَيْثِ الَّذِي كَانُوا يَرْجُونَهُ. وَشُكْرُهُمْ يَزِيدُ نِعَمَهُمْ، كَمَا أَنَّ كُفْرَهُمْ يُسَبِّبُ عُقُوبَتَهُمْ (مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء: 147] (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...