الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
كل صاحب ضلالة، وكل صاحب مبدأ خبيث، وكل مَنْ في قلبه غنى عن الأمة، وكل من يحمل حقدًا على المجتمع المسلم، لا يبين للناس حقيقة أمره؛ لأنه لو نشر ذلك لكان الرد حاضرًا، ولكنه يلبس ضلاله وفساده بثوب الإصلاح، أحيانًا يجعل فساده وضرره ومخططاته السيئة يجعلها إصلاحًا، ويقول: إنه يدعو إلى الإصلاح، وهذا المبدأ الخطير هو خلق المنافقين وأعداء الدين ..
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ: اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عباد الله: شأن الأخلاق في الإسلام شأن عظيم؛ فالأخلاق من الإيمان، وأكمل المؤمن إيمانًا أحاسنهم أخلاقًا، وأحسنهم خلقًا أقربهم من النبي -صلى الله عليه وسلم- منزلة يوم القيامة، وقد بيّن -صلى الله عليه وسلم- أن الغاية من مبعثه تتميم مكارم الأخلاق: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة إلى الدعوة إلى محاسن الأخلاق والنهي عن مساوئها، وأثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة حسن خلقه.
أيها المسلم: وإذا كانت الأخلاق معيار الإيمان وعلامته، فإن معيار الأخلاق وعلامتها الخلق الكريم الحياء، فهو الخلق كله والخير كله.
أيها المسلم: إن الحياء خلق إسلامي عظيم؛ من تخلّق به نال السعادة في الدنيا والآخرة.
ولهذا الحياء فضائل، فمن فضائله أنه الخير كله؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء خير كله"، وقال: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، وحقيقة الحياء طاعة الله -جل وعلا- وامتثال أمره واجتناب نهيه.
ومن فضائل الحياء أنه ينهاك عن رذائل الأخلاق وسقيط الأفعال؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت"، فإذا لم يكن حياء فعلى الإنسان ما أراد، ولا يبالي بأي ذنب أو رذيلة وقع فيها.
ومن فضائل الحياء أنه أحد شعب الإيمان؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان"، فهو يبعث على الخير والفضائل، وينهى عن الرذائل.
ومن فضائل الحياء: محبة الله لمن تخلق به؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله إذا أنعم على عبد أحبّ أن يرى أثر نعمه على عبده، وإن الله يكره البؤس والتبؤس، ويبغض الملحف بالسؤال، ويحب الحيي العفيف المتعفف".
ومن فضائل الحياء أنه زينة للعبد؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه".
ومن فضائل الحياء أن صاحبه يظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ولما عدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه ذكر منهم رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، فاستحيى من الله وخاف منه وأعرض عن تلك المعصية.
ومن فضائل الحياء أنه خلق النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن الله -جل وعلا- جبله على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، كان يحمل الحجارة في بناء البيت، فقال له عمه العباس: لو وضعت إزارك على منكبيك لأجل حمل الحجر!! فلما انكشفت عورته غشي عليه -صلى الله عليه وسلم-، فما رُئي بعد ذلك منكشفًا عورته -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المسلم: إن الحياء في مجالات الحياء كلها، وفي تعاملك مع ربك ومع نفسك ومع أهل بيتك ومع عباد الله أجمعين، فأعظم الحياء وأغلى الحياء وأسمى الحياء حياؤك من ربك، بأن تمتثل إلى أمره، وتجتنب نهيه، تعلم أنك تمشي في أرضه وتحت سمائه وكم له عليك من نعم!! وكم له عليك من فضل!! أوجدك من العدم، ورباك بالنعم، ومنحك السمع والبصر والفؤاد وسائر الجوارح، فأين حياؤك من الله؟! لا بد أن تستحيي منه؛ فهو أحق أن يُستحيى منه -جل وعلا-؛ ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "استحيوا من الله حق الحياء"، قالوا: كيف يا رسول الله؟! قال: "تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن تذكر الآخرة لم يغتر بزينة الدنيا".
فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن من الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، فتحفظ السمع أن تصغي لما لا خير فيه، ولا منفعة فيه، ولا يعود عليك بالخير، وتحفظ لسانك فلا تكن مغتابًا ولا نمامًا ولا ساعيًا بفساد ولا داعيًا إلى ضلال، وتحفظ بصرك فتغضه عما حرم الله عليك.
ومن مجالات الحياء أيضًا: التزام الحشمة في ملبسك، فيكون ملبسًا فيه تحشم، وليس مبديًا للعورات؛ فإن انكشاف العورات من الأخلاق الرذيلة؛ ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث عليًّا ينادي عام تسع من الهجرة في موسم الحج: "ألا لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان"، (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:18].
أيها المسلم: إن الحياء حقًّا يمنعك أن تقيم دعوى كيدية لا حجة لك فيها ولا برهان معك فيها، ولكن تقيمها إما لتحقق مطلوبك أو بعض مطلوبك، وهذا خطأ عظيم؛ فإن حياءك من الله يمنعك أن تقيم دعوى كيدية لا حقَّ لك فيها، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من خاصم في باطل لم يزل في سخط الله حتى ينزع"، فإياك أن تقيم دعوى لا حقيقة لها، وتدعي ما ليس لك، وتحامي عن ذلك؛ فهذا كله مخالف للحياء المشروع.
ومن حياء المسلم أن لا يفجر في الخصومة؛ فإن البعض من الناس عندما يكون بينه وبين آخر دعوى يحاول أن يفجر في خصومته، فيبحث عن عيوب الإنسان المستترة وما لا يعلمه إلا الله، فيحاول نشر معايبه ومخازيه بأمر لا علاقة له بالدعوى، لكنه من باب تحطيم هذا المسلم والتقليل من شأنه؛ ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عدّ خصال المنافق قال: "وإذا خاصم فجر"، أي إذا خاصم أحدًا فجر في خصومته، فافترى الأكاذيب والأباطيل، وبحث عن العيوب المستورة لإضعاف ذلك أمام الآخرين.
أيها المسلم: حياؤك يمنعك أن تقيم شهادة باطلة تشهد بالزور وتقيم شهادة باطلة لا حقيقة لها، تراعي وتجامل بعض الناس فتشهد معه على باطل، وتشهد معه على خلاف الحق، وهذا كله خطأ؛ فإن الله أمرنا بقوله: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) [الطلاق:2]، فإقامة الشهادة على باطل وزور هذا كله من كبائر الذنوب: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج:30].
أخي المسلم: حياؤك يمنعك أن تسأل الناس وأنت غير محتاج؛ فإن ذل المسألة ذل عظيم، اسأل الله من فضله، فمن سأل الناس تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليتق الله أو ليستكثر، وذو الحياء يمنعه من ذلك كما قال -جل وعلا- في هؤلاء في قوله في وصفهم والثناء عليهم: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) [البقرة:273].
أيها المسلم: حياؤك يمنعك الطمع فيما بأيدي الآخرين، والاكتفاء بما قسمه الله لك، ولا تحاول الطمع في أموال الآخرين بالحيل الباطلة والأكاذيب، حياؤك -أيها المسلم- يمنعك من البخل على نفسك وعلى من تحت يدك، فيحملك الحياء على الإنفاق في المعروف من غير إسراف ولا تبذير، حياؤك -أيها المسلم- يمنعك من التكبر والتعاظم على عباد الله، يذكرك نفسك ووضعك، فاتق الله ولا تتكبر على عباد الله ولا تزدريهم ولا تسخر منهم ولا تحتقرهم، فأنزل الناس منازلهم، حياؤك -أيها المسلم- يمنعك من أن تتبع عورات الناس وتبحث عن زلاتهم وهفواتهم، فهذا شيء لا يعنيك، "ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
حياؤك -أيها المسلم- يمنعك أن تستغل أي مجلس تجلس فيه بالأباطيل والأكاذيب وإضحاك الآخرين بالأقوال الباطلة وترويج الأكاذيب التي لا حقيقة لها؛ فإنه قد توعد من كذب كذبة تبلغ الآفاق، ويل لمضحك القوم.
أيها المسلم: حياؤك يمنعك من الأيمان الفاجرة الكاذبة التي لا حقيقة لها، حياؤك يمنعك من أكل أموال الناس بالباطل، حياؤك يمنعك من الغش والتدليس وظلم العباد، حياؤك -أيها المسلم- يمنعك من أن تفشي أعمالك السيئة التي سترها الله عليك فتنشرها بين الناس داعيًا إليها ومستبشرًا بها، في الحديث يقول -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عمله بالليل فيستره الله، فيصبح ويقول: يا فلان: فعلت البارحة كذا وكذا"، بات يستره ربه وأصبح يفضح نفسه، هذا دليل على قلة الحياء وانعدام الخير من ذلك الإنسان.
حياؤك -أيها المسلم- يمنعك أن تفشي أسرار زوجتك أو تبدي ما بينك وبينها، وإذا فارقتها بطلاق أو غيره تنشر معايبها، وتكشف عن أسرارها التي لا داعي لها ولا مصلحة لك منها، أو الزوجة تكشف أسرار زوجها، وتنشر أسرار زوجها، وكل هذا مما لا حقيقة له ولا فائدة منه، فالحياء يمنعك من هذا كله قال -جل وعلا-: (وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة:237].
حياؤك -أيها المسلم- يرشدك بالحوار والنقاش أن تكون مؤدبًا فيما تناقش، مؤدبًا فيما تلاحظ على الآخرين بأدب واحترام، لا تنتقص من حقهم، ولكن توضح الحق وتبينه من غير انتقاص ولا ازدراء بالآخرين، ولا تتعال عليهم، ولكن هدفك الحق وقصدك الحق.
حياؤك -أيها المسلم- يدعوك إلى احترام الكبير، ورحمة الصغير، وعدم التعالي على الآخرين، حياؤك يدعوك إلى بر الأبوين والإحسان إليهما، وأن تكرمهما، وأن لا تجعل خلقك طيبًا مع الآخرين سيئًا مع الأب والأم، بل كن مع الأب والأم مطيعًا سامعًا، فهذا الحياء الطيب الذي يغمرك بالبر والإحسان، ويمنعك العقوق والإساءة، حياؤك -أيها المسلم- يدعوك أن تنزل الناس منازلهم، وتعامل كلاًّ على قدره بأدب واحترام، هكذا الحياء الذي إذا تحلى به المسلم نال الخير كله، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحياء لا يأتي إلا بالخير، وصدق إذ يقول: "الحياء خير كله".
أيها المسلم، أيها المؤمن: منَّ الله عليك بصحة البدن وكمال القوى، فإياك إياك أن تضيع تلك القوة في غير طاعة الله، استعمل قوتك ونشاطك في طاعة الله -جل وعلا-، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
أيتها المرأة المسلمة: إن من كمال حيائك تقوى الله ولزوم الأدب الشرعي والحجاب الشرعي، والبعد عن السفور والبعد عن الخروج في الأسواق بالتبرج ولبس ما لا يستر الجسد كله، فاتقي الله في نفسِكِ، واتقِ ربَّك -أيها الرجل- فاحمل امرأتك على الخير، وادعها إلى اللباس الشرعي، وحذِّرها من كثرة مخالطة الرجال والتحدث بما لا فائدة فيه.
أيها المسلم: حياؤك يمنعك من أن تستغل أموال الأيتام والقاصرين، فتضيع أموالهم وتأكلها ظلمًا وعدوانًا، حياؤك يمنعك من أن تجلس الليل الطويل أمام بعض المواقع وبعض القنوات الفاسدة التي تعيش كل ليلة تنشر الرذيلة وساقط الأخلاق، فحياؤك يمنعك من مشاهدة هذه الأمور، ويدعوك إلى أن تربي أولادك من ذكور وإناث بالبعد عن هذه المناظر المشينة الخادشة للأخلاق والحياء.
أيها المسلم: اتقِ الله؛ فالحياء خير، والحياء لا يمنع من الحق: (وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ) [الأحزاب:53]، أما الخجل من الحق فهو مذموم، فعلى المسلم أن يتقي الله، ويلزم الحياء المطلوب، وينطق بالحق في حدوده، ويكون متمسكًا في فضائل دينه، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الثبات والاستقامة، إنه على كل شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبِه، وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ: اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله: كل صاحب ضلالة، وكل صاحب مبدأ خبيث، وكل مَنْ في قلبه غنى عن الأمة، وكل من يحمل حقدًا على المجتمع المسلم، لا يبين للناس حقيقة أمره؛ لأنه لو نشر ذلك لكان الرد حاضرًا، ولكنه يلبس ضلاله وفساده بثوب الإصلاح، أحيانًا يجعل فساده وضرره ومخططاته السيئة يجعلها إصلاحًا، ويقول: إنه يدعو إلى الإصلاح، وهذا المبدأ الخطير هو خلق المنافقين وأعداء الدين، دائما ما قال الله عن فرعون: إنه قال لقومه: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26]، ففرعون ادعى أنه الرب الأعلى؛ يقول لقومه: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ)، فجعل دعوة موسى إلى الحق فسادًا، وجعل كبرياءه ودعواه الربوبية جعلها صلاحًا، هكذا الضالون المنحرفون والمنافقون، يقول الله عنهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة:11-12]، فسادهم في الأرض تكذيبهم لله ورسوله، فسادهم في الأرض تفريق لجماعات المسلمين، فسادهم في الأرض أنهم يد مع الأعداء ضد الأمة، فسادهم في الأرض أن أخبار المسلمين تصل من المنافقين المتربصين بهم الدوائر.
أخي المسلم: إننا في هذه الأيام ومنذ أسابيع نشاهد في الحقيقة أمرًا مهولاً، ونعاني من حملات مسعورة، ومن مخططات رهيبة، وضعها أعداء الأمة من اليهود وأعوان اليهود، وضعوها للنيل من الأمة والانتقام منها، وضعوها لأجل تفريق الأمة وتشتيت صفها وإضعاف كيانها، وجعلها أمة كما يريدون متخلفة نامية لا تستطيع الوقوف على قدميها إلا بمساعدة أعدائها، مخططات رهيبة جدًّا لها زمن طويل، جاءت لتفريق الأمة، وللأسف الشديد فإن بعض هذه الأفكار تبناها بعض أبناء المسلمين وبعض من يحسب على الإسلام، تبنوا هذه الأفكار وظنوها خيرًا، وظنوها صلاحًا، وهم لا يعلمون أن الغاية منها الفساد والدمار والخراب؛ لتدمر الأمة بلادها بأيديها وأيدي أعدائها، لتقضي على كيانها، لتقضي على اجتماعها، لتقضي على اقتصادها، لتقضي على أمنها، لتتركها أمة فوضوية خالية الدستورية، لا قائد ولا آمر ولا ناهي، بل الأمة تعيش بالفوضى دائمًا.
هكذا الأعداء يريدون، وهكذا يبتغون؛ لأنهم يعلمون أن الأمة يد واحدة مجتمعة الكلمة، فلن تستطيع قوة أن تفصم عراها ولا شملها.
أخي المسلم: دعونا إلى تظاهرات يزعمون أنهم يحققون بها إصلاحًا، وأنهم يحققون بها خيرًا، والله يعلم إنهم لكاذبون، هذه التظاهرات والغوغائيات مردودة في شريعة الإسلام، مرفوضة لا قيمة لها ولا خير فيها، إن المشترك فيها والمنظم إليها ليعلم أنه يقاتل في سبيل الطاغوت، في سبيل الشيطان: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) [النساء:76].
نعم، إنها شعارات زائفة جاءت لسفك دماء الأبرياء وانتهاك الأعراض ونهب الأموال والإخلال بالأمن، جاءت لتعقم الأمة وتدمر كيانها وتفسد أخلاقها وتقضي على اقتصادها، وتجعل أموالها نهبة للأعداء بأية وسيلة كانت.
أيها المسلم: كم شاهدنا اليوم في بلاد الإسلام من أصيبوا بهذه المصائب بأرض الكنانة وفي الصومال وفي أفغانستان، وفي، وفي، وفي... وعد ما تشاء، هم من أرادوا التخلص من الظلم، ولكن المصيبة أن الظلم جرجر عند التخلص وجاء بظلم أعظم من الظلم الذي أراد التخلص منه؛ ذلك أن الأعداء خططوا لذلك وضربوا الأمة بعضها ببعض، فتخلخلوا في صفوفها، واندسوا من بين أبنائها، فسعوا في الإفساد، وسعوا في الإضرار، وسعوا في إذلال الأمة، وأصبح الإعلام الجائر على مدار الساعة ينقل ويشعل الهمم لهذه البلايا، ويصورها بأنها نهضة إصلاحية وأنها وأنها... يا إخواني: إنها بلاء عظيم، لا شك أن هناك ظلمًا، ولكن هذا الظلم بماذا يزال؟! أيزال بظلم أعظم منه؟! أيزال بظلم يعقبه ظلم أعظم منه وفساد ودمار وقتل للأبرياء، سفك لدماء للأبرياء ضاعت بلا حق، إنها مصيبة عظيمة، وبلية كبيرة، لو عقلها المسلمون وتدبروا واقعهم وعرفوا مآل الأمور.
أيها المسلم: نحن في هذا البلد المبارك بلد الإسلام والتوحيد، هذا البلد الذي هو مأوى الحرمين الشريفين، تهوي له أفئدة المسلمين، وفيه الحرم الشريف مسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بلد يعتمد العالم به بعد الله في معظم حياته على ما أودعه الله من الخيرات، وما أودع فيه من النعمة العظيمة، ويحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وقيادة أرجو الله لها التوفيق والسداد والعون على كل خير.
إن أعداءنا لا يرضون ذلك منا، لا يرضون أن نعيش هذا الأمن وهذا الاستقرار وهذه الطمأنينة، يريدون أن يلحق بركب الآخرين، يريدون أن يوصل إلينا المبادئ الهدامة والآراء الضالة والأفكار المنحرفة، إننا ضدها كلها في كل وقت، إننا ننادي إخواننا وأبناءنا أن من اشترك في هذه الأمور أو أيد أهلها أو تغاضى عنهم أو رأى أن أمرها حسن فإنه ظالم لنفسه، وما أصابه من مصيبة فهو المتحمل لمصيبته، المتحمل لإثمه، الساعي في قتل نفسه، فليتقِ المسلمون ربهم وليراقبوه وليستحيوا منه، ولينظروا نعم الله التي يعيشونها ليحمدوا الله عليها، وكل مقيم في هذا البلد من جميع أبناء المسلمين هم مسؤولون عن أمن هذا البلد؛ لأن هذا بلد الإسلام، بلد التوحيد، بلد الحرمين، يجب المحافظة عليه، والقيادة -وفقها الله- تسعى جاهدة فيما ينفع الأمة، ولكن الحاقدين يأبون إلا أن يرفعوا شعارات مضللة تحت الغوغاء وكل مجرم ومتربص ومنتهز للفساد.
فنحن في بلاد الإسلام نرفض كل هذه الأمور ولا نقرها شرعًا ودينًا، ونعتقد أنها فساد وضلال وجلب للمفاسد وتحطيم للمصالح، فليتّقِ المسلم ربه، وليراقب الله في كل أحواله، ولا يجعل نفسه منقادًا مع كل من دعاه، ومع كل شعارات رفعها من لا دين له، ومن لا خلق، ومن لا أمانة عنده، ومن يريد بالأمة الضلال والفساد. نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق والاستقامة عليه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا -رحمكم اللهُ- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى اللهُ عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ؛ ومن شذَّ شذَّ في النار، وصَلُّوا -رَحِمَكُم اللهُ- على عبد الله ورسوله محمد، كما أمركم بذلك ربُّكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين الأئمةِ المَهدِيِّين: أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك، وإحسانِكَ، يا أرحمَ الراحمين.