الواسع
كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...
العربية
المؤلف | محمد الشاذلي شلبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
أجمل ما في الحياة معرفة الله، فالحقّ تعالى يحبّ أن يُفَرِّج كربك أكثر ممّا تحبّ أنت أن يُفَرَّجَ كربك، الله يحبّ أن يعطيك أكثر ممّا تحب أنت أن تُعْطى، الله يحبّ أن يُنْعِمَ عليك أكثر ممّا تحبّ أنت النعم، انظر إلى نبيّه -صلى الله عليه وسلّم- وهو يقول: "من لم يسأل الله يغضب عليه". وفي حديث آخر قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالله يوشك الله له برزق عاجلٍ أو آجلٍ، ومن أنزلها بالنّاس اشتدّت صعوبته" ..
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، اللهم فصلّ وسلم وبارك على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
عباد الله: أجمل ما في الحياة معرفة الله تعالى، ما من توبة إلاّ قَبِلَها، وما من مصائب ومشاكل إلاّ حلّها، كلّ شيءٍ ذَلَّ لعزّته وتواضع لعظمته، وضعُف لقُواه وافتقر لغناه، الله سبحانه وتبارك جلّ جلاله، أجمل ما في الحياة معرفة الله، حياتك ستكون أجمل، وأمورك ستكون أسهل، سبحان الله؛ هل هذا حقّ؟! يعني بمجرّد أن تتعرّف على الله حياتك ستكون أحلى؟! نعم، لماذا؟! وهل من كرب أو غمٍّ جاءك إلاّ بالذنوب؟! فإذا عرفت أنّ الله هو الذي يغفرها ويبدّل حالك، ألست تسعد؟! وهل من صعوبة في الحياة إلاّ بسبب الكروب والمحن؟! المشاكل والصعوبات وقلّة الرزق، فإذا علمت أنّ الله هو الرزّاق، إذا سألته أعطاك، ألا تكون حياتك سعيدة؟! وألا تكون حياتك جميلة؟! وإذا عرفت أنّ سبب الحزن من المرض، وعرفت أنّ الله هو الشّافي، ألا يسعدك ذلك أن تعلم أنّ خالقك ورازقك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين قادرٌ على شفائك بكلمة (كُنْ فيكون)، ألا تسهل أمورك وتكون أفضل وأحسن؟!
أيّها الناس: أجمل ما في الحياة معرفة الله، فالحقّ تعالى يحبّ أن يُفَرِّج كربك أكثر ممّا تحبّ أنت أن يُفَرَّجَ كربك، الله يحبّ أن يعطيك أكثر ممّا تحب أنت أن تُعْطى، الله يحبّ أن يُنْعِمَ عليك أكثر ممّا تحبّ أنت النعم، انظر إلى نبيّه -صلى الله عليه وسلّم- وهو يقول: "من لم يسأل الله يغضب عليه". وفي حديث آخر قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالله يوشك الله له برزق عاجلٍ أو آجلٍ، ومن أنزلها بالنّاس اشتدّت صعوبته". أي من أنزلها بالناس لم تسدّ فاقته، فأجمل ما في الحياة معرفة الله تعالى، كلّ شيء في الحياة يكون سهلاً وجميلاً: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، هذه صفة من صفات الله تعالى: الإرادة، وإذا أراد الله شيئًا فعله كما قال تعالى: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) [هود: 107]، فإذا أراد الله بنا اليسر، ألا تكون حياتنا يسيرة؟! نعم تكون يسيرة؛ لذلك أجمل ما في الحياة معرفة الله.
يا مسلم: ما ظنُّك بربِّكَ؟! ماذا تعرف عن الله؟! هل تدري أنّ الله -عزّ وجلّ- يفرح بتوبتك؟! ويضحك لطاعتك؟! سنعود إن شاء الله لهذا بالتّفصيل، ونعرف كيف يفرح الله بعبده؟! وكيف يضحك لطاعة عبده؟! هل تدري أنّ الله يضحك؟! كان من أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- رجل اسمه "أبو رُزَيْل"، سمع أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يقول: "إنّ الله يضحك"، فقال: أَوَ يضحَكُ الرَّبُّ يا رسول الله؟! قال: "نعم"، قال أبو رزيل: إذًا لم نَعْدِمْ من رَبٍّ يضحك خيرًا!!
انظروا كم سعد هذا الرجل لمّا علم أنّ الله تعالى يضحك!! تصوّروا أنّكم تنظرون إلى الله يضحك لرجلٍ قد تاب، يضحك لرجل قد صلح، يضحك لرجل قام اللّيل، إن كان في العمر بقيّة سنأخذ إن شاء الله هذه الصفات، خطبة عن ضحك الله تعالى، وخطبة عن رضاه سبحانه، وخطبة عن غضبه -عزّ وجلّ-، وخطبة عن جمال الله تقدّست صفاته، وهكذا سنعرف الله -تبارك وتعالى-.
ولكن أعود فأسأل: ما ظنّك بربّك يا مسلم؟! هل تعلم أنّ معرفة أسماء الله وصفاته تُحَسِّنُ ظنّك بالله؟! وإذا حسُن ظنُّك بالله ماذا سيحدث؟! سيجزيك الله بحسن ظنّك، والجزاء من جنس العمل، ألم تسمع قول العزيز الغفّار في الحديث القدسي: "أنا عند ظنّ عبدي بي، فليظنّ بي ما شاء"، إن ظننت فيه سترًا سترك، وإن ظننت فيه جبرًا جبرك، وإن ظننت فيه رحمة رحمك، وإن ظننت فيه مغفرة غفر لك، وفي رواية أخرى: "فليظنّ بي ما شاء فإن خيرًا فله، وإن شرًّا فله". حاذر أن تغفل عن الله يا عبد الله!! إيّاك أن تجهل؛ لأنّ من أساء الظنّ بالله كان شرًّا عليه.
ما ظنّك بالله؟! ما ظنّك بربّك؟! رحمته وسعت كلّ شيء، ما ظنّك بربٍّ واسع المغفرة، يغفر لك ذنبك وإن كان مثل زبد البحر، وإن كان مثل عدد قطر الماء، وعدد أهل السّماء، ما ظنّك بربٍّ يغفر زلّتك ويغسل حوبتك ويفرّج كربتك، ما ظنّك بربٍّ يعاملك بالحسنة عشر أمثالها، وبالسيّئة بمثلها أو يعفو، ما ظنّك بربٍّ سخّر لك كلّ شيء، وفرّغك لنفسه -سبحانه وتعالى-؟! ما ظنّك بربٍّ يتنزّل إليك كلّ ليلة في الثلث الأخير من الليل ويقول: "هل من سائل فأعطيه؟! هل من تائب فأتوب عليه؟!"؛ ليفرّج كربك ويزيل همّك ويغفر ذنبك، ما ظنّك بربٍّ رحم رجلاً قتل مائة ببعض خطوات مشاها ثمّ أدخله الجنّة؟! ما ظنّك بربٍّ أدخل امرأة من البغايا الجنّة لأنّها سقت كلبًا؟! ما ظنّك بربٍّ كتب لامرأة الجنّة لأنها شقّت تمرة بين بنتيها؟! ما ظنّك بربٍّ أدخل رجلاً الجنّة وهو يتقلّب في أنهارها من أجل شوكة نزعها من طريق الناس؟! ما ظنّك بربٍّ يستحيي من خلقه، وإله يستحيي من عبيده؟! سبحان الله، إنّ الله حييٌ كريمٌ يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردّهما صفرًا خائبتين، ما ظنّك؟! ماذا تظنّ في الله تبارك وتعالى؟! حسّن ظنّك في الله، واقترب واعرف الله سبحانه.
أحبّتي في الله: ما من نعمة إلاّ وهو الذي أنزلها، ما من كسور إلاّ وهو جابرها، ما من ذنوب إلاّ وهو الذي غافرها سبحانه، فالله تعالى أجمل ما في الحياة معرفته، وأجمل ما قال اللّسان ذكره، وأجمل ما فعل القلب حبّه، الله من هو؟! تعال ولنقترب، الله هو الواحد الأحد، سبحانه ليس له شريك، هو الرّحمن الرّحيم، خلق الرّحمة مائة جزء، أنزل جزءًا منها إلى الأرض تتراحم بها الخلائق، فَبِهِ يتراحمون، وبه يتعاطفون، حتّى إنّ الدّابة لَتَرْفَعُ حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، هذا هو الله -جلّ جلاله-، إن أذنبت أمهلك، وإن تبت قبلك، هذا هو الله الغفّار الغفور، يغفر ذنبًا مهما كان: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
أن تيأس من النّاس، تيأس من ذنوبك، تيأس من نفسك، لكن لا تيأس من رحمة الله أبدًا، هذا هو الله، يستر عيبك، إنّ الله يحبّ الستر، لذلك يستر خلقه، ويعاقب من يفضحهم، قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم".
انظر إلى ستر الله تعالى، يغضب الله ممن يفضح النّاس حتّى لو كانوا مذنبين؛ لأنّه يحبّ الستر سبحانه، ومن يتّبع عورات المسلمين يتتبّع الله عورته، ومن تتبّع الله عورتَهُ فضحه في بيته، إذًا هذا هو الله القدّوس، تقدّس عن الكذب: "ومن أصدق من الله قيلاً"، تقدّس عن الظّلم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) [النساء: 40]، تقدّس عن الزوجة والولد وأنّه تعالى جدّ ربّنا: (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا) [الجن: 3]، تقدّس سبحانه عن النّوم: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) [البقرة: 255]، تقدّس -تبارك وتعالى- عن الموت: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) [الفرقان: 58]، وتقدّس سبحانه أن يبدّل أحد شيئًا أراده: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الأنعام: 115]، تقدّس -جلّ جلاله- عن الشبيه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]، تقدّس -عزّ وجلّ- عن النسيان: (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) [طه: 52]، تقدّس عن الجهل: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 13، 14].
هذا هو الله -سبحانه وتعالى- الملك، يعني الذي يتحكّم في كل شيء بأمره ونهيه، إذا أراد شيئًا، أو أمر بشيء قال له: "كن فيكون"، كما قال سبحانه: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، خلق السماوات والأرض ثمّ قال لهما: (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11]، سماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ ذات أمواج، كلّها تدين لعظمته سبحانه جلّ في علاه، والخلق كلّهم يخضعون لعزّته ويتواضعون لعظمته.
أيها النّاس: هل تعلمون أنّ كلّ الخلق يعرفون الله؟! وكلّ الخلق يحبّون الله؟! وكلّ الخلق يعبدون الله؟! قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء: 44]، سبحان الله العظيم!! هذا الكلام في منتهى الخطورة، علينا أبناء آدم، الذئب يعرف من رزقه، قال للرجل الرّاعي: أتأخذ منّي رزقًا ساقه الله لي؟! البقرة تعرف من خلقها ولم خلقها؟! قالت لمن ركبها: إنّا لم نخلق لهذا!! الأرض والسماوات والجبال، الأرض من تحتنا والسماء من فوقنا والجبال من حولنا تعبد الله، كلّها تعبد الله وهي جنود من جنود الله، كيف ذلك؟! هذا ما سنعرفه في الخطبة الثانية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أذن لنا بذكره، الحمد لله الذي ألهمنا شكره، الحمد لله الذي علّمنا أسماءه وصفاته، الحمد لله الذي مدّ في أعمارنا ورزقنا نعمة الإسلام، ونسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يثبّتنا عليه حتّى نلقاه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، اللهم فصل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد:
السماوات والأرض والجبال تتفاعل معه سبحانه وتعبده بأسمائه وصفاته، أما رأيتم الجبل إذا سمع كلام الله تَدَكْدَكَ وتصدّع وخشع: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر: 21]، والقرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، السماوات والأرض والجبال توحّد الله وتغضب على من أشرك بالله، حينما قال النصارى: إنّ لله ولدًا، من الذي غضب؟! السماوات من فوقهم والأرض من تحتهم والجبال من حولهم، كلّهم يريدون أن يهلكوا بني آدم الذين ذكروا شيئًا من العيب ونسبوه لله؛ قال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا) [مريم: 88-92].
سبحان الله العظيم، والبحر يموج موجًا ويحب ربّه حبًّا، الموج يحبّ الله، والبحر يحبّ الله، والحوت يسبّح الله، أما سمعتم قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في صحيح ابن حبّان: "إنّ البحر يستأذن الله تعالى كلّ يوم أن يَنْفَضِخَ على بني آدم، يريد أن لا يكون هناك معصية على أحدِ شواطئه لله -عزّ وجلّ-، لا يريد أحدًا يؤذي الله معه، فيقول النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: "إنّ البحر يستأذن كلّ يوم كي ينفضخ على بني آدم فيكفّه الله".
الحوت في البحر، والنمل في الجحر، والطير في الوكر يعبدون الله، يعرفون الله، يذكرون الله، يسبّحون الله، ويغضبون لله.
سبحانه، من كان قبل الخلق أجمعه، لا قبل مِنْ قَبْلِهِ، لا بعد إلاّ هو، ربّ الوجود تعالى أن يحيط به علم العباد، بلا شرك عبدناه، فانظر، تأمّل، تفكّر، سوف تعرفه، وفي كلّ شيء توقن أنّه الله، هو الذي خلق الأشياء من عدم، وكلّ شيءٍ يسبّحه ويخشاه.
الشمس والبدر من أنوار حكمـته
سبحانه وتعالى جلّ في علاه، كل الخلق يعرفونه، كلّ الخلق يحبّونه، كلّ الخلق يتنافسون في عبادة الله، لو نحاول أن نخرج من هذا الهمّ المترجم لمعاصي الناسي ونصعد في السماء ولننظر، لو فُتح لنا مقطع في السماء، ما الذي سنراه في السماء؟! السماء الواحدة سمكها خمسُمائة سنة، مملوءة ملائكة، يقول من يصلّي عليه الرحمن وملائكته: "ما من موضع أربع أصابع في السماء إلاّ وفيه ملك"، ماذا يفعلون؟! "إلاّ وفيه ملكٌ راكع، وملكٌ ساجد، وملكٌ قائم، يعبدون الله -عزّ وجلّ". لو أنّك نزلت قليلاً من السماء، ما الذي ستجده؟! ستجد شمسًا، ماذا تفعل الشمس؟! تذهب عند الغروب لتسجد عند عرش الرّحمن، والحديث في صحيح مسلم، قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذرّ: "أتدري أين تذهب الشمس حين تغرب يا أبا ذرّ؟!"، قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "تذهب فتسجد تحت العرش، ثمّ تستأذن الله في الرجوع فيأذن لها، فإذا كان يوم القيامة لم يأذن لها في الرجوع". سبحان الله.
وانظر إلى الرّعد يسبّح بحمده والملائكة من خيفته، لو نزلت قليلاً لوجدت أنّ المطر ينزل، ممّن؟! من الله: (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) [لقمان: 34]، وكان رسول الله يحبّ كلّ شيء يأتي من عند الله.
انزل قليلاً ستجد الجبال، الجبال تخشع وتخضع وتبكي، بل وتهبط من خشية الله؛ قال تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ)، يا من قست قلوبكم: أين أنتم لتتعلّموا الخشوع من الجبال، ولتتعلّموا الدّموع من قمم العوالي، ما من جبل سقطت منه صخرة إلاّ من خشية الله، قال الله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 74]، وقال بعض المفسّرين في الماء الذي يهبط من الجبال هو "دموع للجبال"، هل رأيت جبلاً يبكي من خشية الله سبحانه وتعالى؟! هل تبكي أنت من خشية الله عزّ وجلّ؟!
أيها الناس: لو فهم الصحابة الإسلام كما نفهمه نحن الآن ما خرج رجل واحد من مكّة، وما وصل الإسلام إلى سور الصين العظيم.
أخي المسلم: اعلم أنّك عن قريب سوف تغادر هذه الحياة إلى عالم البرزخ، عالم الغيب، واعلم أنّ الموت يأتي بغتة، والحياة تنتهي فجأة، ولحظة الموت صمت رهيب سوف يمرّ بها كلّ إنسان، لحظة صمت تسقط فيها كلّ الأصوات، لحظة ظلام تخفت فيها كلّ الأنوار، ثمّ ظلام دامس وصمت رهيب قاتل، ثمّ إلى روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار.
تجهّز -يا مؤمن- من الآن واستعدّ إلى ما بعد الموت، إلى يوم مقداره خمسون ألف سنة، ولتنظر نفس ما قدّمت لغد، واعلم كذلك أنّك قادم على طول سفر وقلّة زاد وضعف يقين وخوف الوقوع من الصراط في النّار.
ألا تعرف -عبد الله- لماذا نخاف الموت؟! لأنّنا عمّرنا دنيانا وخرّبنا آخرتنا، والإنسان لا يحبّ أن ينتقل من الأعمار إلى الخراب، وكما قال سيّدنا على بن أبي طالب -كرّم الله وجهه-: "التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتّنزيل، والرّضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرّحيل". أكثر من ذكر هادم اللّذات فإنّه يجعلك تخاف مولاك وتقف عند حدوده ولا تبارزه بالمعاصي، فإنّ الله لا يجمع على العبد أَمْنَيْن وخَوْفَيْنِ، من خافه في الدّنيا أمنه في الآخرة، ومن أمنه في الدّنيا أخافه في الآخرة.
اللهمّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنّا شرّ ما قضيت، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك، وإنّه لا يذلّ من واليت، ولا يعزّ من عاديت، تباركت ربّنا و تعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم اهدنا لصالح الأعمال، لا يهدي لصالحها إلاّ أنت، اللهمّ اهدنا لصالح الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردّنا، واجعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير، واجعل الموت راحة لنا من كلّ شرّ يا ربّ العالمين، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمّن سواك.