الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فمرض القلب أن يتعذر عليه ما خُلق له من معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوة؛ فلو عرف العبد كل شيء، ولم يعرف ربه، فكأنه لم يعرف شيئًا؛ ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا، ولَذَّاتها، وشهَواتها، ولم يظفر بمحبة الله، والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلَذَّةٍ ولا نعيمٍ ولا قرةِ عين؛ بل يصير معذَّبًا بنفْس ما كان يراه منعمًا به.
الحمد لله الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله؛ البصير الذي يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، حيث كانت من سهله وجباله؛ ويرى تقلب قلب عبده ويشاهد اختلاف أحواله؛ أحمده –سبحانه- هو أرحم بعبده من الوالدة بولدها الرفيقة به في حمله ورضاعه وفصاله؛ إذا تاب إليه العبد فهو –تعالى- أفرح بتوبته من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه، في الأرض المهلكة، إذا وجدها وقد تهيأ لموته وانقطاع أوصاله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا رادَّ لحكمه، ولا معقِّب لأمره؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وأقام الدين، وترك أمته على البيضاء الواضحة للسالكين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله -سبحانه- لم يخلق خلقه هَمَلاً، بل جعلهم موردًا للتكليف، ومَحَلاًّ للأمر والنهي، وألزمهم فهْم ما أرشدهم إليه مجملاً ومفصَّلا؛ وقسمهم إلى شقي وسعيد، وجعل لكل من الفريقين منزلا، وأعطاهم موارد العلم والعمل، من القلب والسمع والبصر؛ فمن استعمل ذلك في طاعته، وسلك به طريق معرفته، فقد قام بشكر ما أوتيه من ذلك؛ ومن استعمله في إراداته وشهواته، ولم يرع حق خالقه فيه، يخسر إذا سئل عن ذلك، ويحزن حزنًا طويلا، ويقول: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزُّمَر:56].
عباد الله: إن عبادة الله وشكره وذكره، وأوامره وحقه الذي أوجبه على عباده، وشرائعه التي شرعها لهم، هي قرة العيون، ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسرورها، وبها شفاؤها، وسعادتها وفلاحها، وكمالها في معاشها ومعادها؛ بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك. لكن، لا يدرك هذه القرة وهذه اللذة وهذا النعيم إلا من كان قلبه صحيحًا، فالقلب الصحيح هو الذي يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58، 59].
ومن علامات صحة القلب أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه وسرور قلبه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا بلال، أرِحْنا بالصلاة"، وقال عليه الصلاة والسلام: "وجُعلَت قرة عيني في الصلاة".
ومن علامات صحة القلب أن يشح بوقته أن يذهب ضائعًا؛ ومنها أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى ربه، ويخبت إليه، ويتعلق به؛ ومنها أن يترحل عن الدنيا ويقرب من الآخرة حتى يصير من أهلها.
والقلب قد يمرض فتعتل صحته، ولمرضه علامات، وله علاج. فمرض القلب أن يتعذر عليه ما خلق له من معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوة؛ فلو عرف العبد كل شيء، ولم يعرف ربه، فكأنه لم يعرف شيئًا؛ ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها، ولم يظفر بمحبة الله، والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين؛ بل يصير معذبًا بنفْس ما كان يراه منعمًا به، من جهة حسرة فوته، ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم.
وللقلب مرَضان: الشبهة والشهوة. والقرآن شفاء للنوعين، ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل في الاعتقادات والآراء الفاسدة، فتزول أمراض الشُّبَه المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بشرط فهمه ومعرفة المراد منه؛ وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة، بالترغيب والترهيب، والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرهب ما يضره، فيصير القلب محبًا للرشد، مبغضًا للغي، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها، فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية، كما يعود البدن بصحته وصلاحه إلى الحال الطبيعي، فلا يقبل إلا الحق، كما أن الطفل لا يقبل إلا اللبن، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء:82].
وللقلب أمراض أُخَرُ: الرياء، والكبر، والعجب، والحسد، والفخر، والخيلاء، وحب الرياسة، وحب العلو في الأرض. وهذا المرض مركب من مرض الشهوة والشبهة، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى- فتقواه هي وصية الله للأولين والآخرين، وليكن نصب أعينكم دائمًا العناية بصحة وسلامه قلوبكم لتصلح إراداتها فتصلح أفعالها.
فغذُّوا القلوب من الإيمان والقرآن بما يزكيها ويقويها، ويفرحها وينشطها، واحرصوا دائمًا على حمايتها عما يضرها ويؤذيها، فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته، وذلك بالإيمان، وأوراد الطاعات؛ وإلى حماية عن المؤذي الضار، وذلك باجتناب الآثام والمعاصي وأنواع المخالفات، وتنقيته من كل مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح، واستغفار غافر الخطيئات، لتكمل له السعادة في الحياة وبعد الوفاة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النُّور:21].
الخطبة الثانية:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ومن غوى فلن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في كتابه الكريم: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) [يس:69-70].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، طبيب القلوب العارف بأدوائها، الناصح المرشد لأتم صحتها وصلاحها، القائل: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
أما بعد: فقد صح عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن؛ وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر؛ وقلب منكوس، فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي؛ وقلب تمده مادتان: مادة إيمان، ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه منهما".
وقال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "لو طَهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله"، فالقلب الطاهرُ لكمال حياته ونوره وتخلُّصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته؛ بخلاف القلب الذي لم يطهِّرْه الله، فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه بحسب ما فيه من النجاسة، كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح.
فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على صحة وسلامة قلوبكم أكثر من حرصكم على صحة أجسامكم، فقد شخص لكم الداء والدواء، والحمية والغذاء، وقال طبيب القلوب والأبدان: "ما أنزل من داء إلا أنزل له شفاء".