البحث

عبارات مقترحة:

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

اللطيف

كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...

الباسط

كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...

في ظل تضييع المال العام.. وقفة على شاطئ العمرين

العربية

المؤلف بلال بن إبراهيم الفارس
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان - فقه النوازل
عناصر الخطبة
  1. صيرورة تضييع الأمانة عرفا ممقوتا .
  2. أمطار جدة تكشف المستور .
  3. العُمَران: ابن الخطاب وابن عبد العزيز، ومحافظتهما على المال العام .
  4. التحذير من أكل المال العام .

اقتباس

تعالوا بنا إلى شاطئ العمرين، حيث يفيض العدل، ويدحر الظلم، وتحفظ الحقوق؛ تعالوا بنا حيث كان الشعار: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، والدثار :اعدلوا هو أقرب للتقوى، تعالوا بنا حيث كان الزاجر: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، والآمر: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ..

 

 

 

 

 الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً. 

وتبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدّره تقديراً.

أحمده وأشكره، مصليا على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ووحدوه، فبالتوحيد تزكو قلوبكم، وبالتقوى يصلح حالكم، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:21].

عباد الله: إن المتأمل لعالمنا المضطرب فيما خلا من أيام يقف متعجبا, شعوب تئن تحت خط الفقر والمسغبة, وألوف مؤلفة تشتكي ظلم الرعاة وجور الولاة؛ الجوع هدهم، والفقر حدهم؛ يبحثون بكل السبل عن العدل، نعَم! عن العدل، ويشتكون من الظلم في تصريف المال العام.

تلك شعوب حولنا، وفي أرضنا وبلدنا -حرسها الله- مدينة تغرق، وناس تضطرب، مشاريع وهمية، وخيانات جلية، يكشفها يوم ماطر، وسحاب ثقيل.

إن في هذه الأحداث لعبرا ودرسا ومُدَّكَرا, إن تضييع الأمانة ممن أوسدت له أول درجات البلاء، إن الظلم وأكل المال العام بالباطل مُنْقَلَبُهُ أليم، ومرتعه وخيم؛ نعم، لقد أُضِيعَت في كثير من الجهات الأَمَانَةُ فَأُكِلَتِ الأَموَالُ العَامَّةُ بِأَدنى الحِيَلِ، وَأُضِيعَت حُقُوقُ العِبَادِ بالخِدَاعِ وَالمكرِ، وَأُهدِرَتِ المبَالِغُ الطائلة في مَشرُوعَاتٍ وَهمِيَّةٍ، فكان ما كان، والله المستعان.

نعم، لقد أمسى عرفا بغيضا يمقته كل غيور، ألا وهو استغلال بعض ضعاف النفوس -ممن استأمنهم ولي الأمر فولاهم المناصب المرموقة- مناصبهم والميزانيات التي يديرونها بالسرقة والجشع، والرشاوى والطمع، والغش والتقصير والتفريط.

إن الأمانة ثقيلة أبت عن حملها السماوات والأرض والجبال، وحملها الإنسان، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72]، فما بال فئام حملوها وليسوا لها بأهل، غرهم حسن المنصب، أو كرم الجاه، ولم يستشعروا عظيم المسؤولية، وكبير الأثر؟ وفي الحديث: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".

إن أمطار جدة كشفت مستورا، وأظهرت مغمورا، جِماعُهُ أن الفساد في إدارة الأموال العامة مؤذن بالنكبات، وقد رأيتم وسمعتم أنني حيث أقرأ هذه التتابعات أجد في النفس ظمأ لا يرويه إلا النهل من ماء السلف النمير، حيث كان العدل والأمانة أول صفات المسؤول، والخوف من الله أعظم دافع يدفعه، فعاش الناس -رغم قلة ذات اليد- عيشا هنيئا مريئا.

عباد الله: تعالوا بنا إلى شاطئ العمرين، حيث يفيض العدل، ويدحر الظلم، وتحفظ الحقوق؛ تعالوا بنا حيث كان الشعار: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، والدثار :اعدلوا هو أقرب للتقوى، تعالوا بنا حيث كان الزاجر: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، والآمر: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.

هلم إلى ابن الخطاب عمر، أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، الذي كان رحيما بالناس، وتلك سمة لا بد لكل مسؤول أن يعيها؛ فالعدل نهر يصب من بحر الرحمة، لا من تقديم الحظوظ الشخصية على حقوق المسلمين الجلية.

دونكم رأفة الوالي عمر، لقد كان عمر بن الخطاب يتعاهد الأرامل فيسقي لهنّ الماء بالليل، فرآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارًا، فإذا هي عجوز عمياء مُقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟! قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني، ويُخرج عني الأذى. فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة! عثراتِ عمرَ تتبَع؟.
 

عباد الله: ومع الرحمة كان عدل الفاروق مبنيا على المحاسبة الصادقة مع كل صغيرة وكبيرة، ومتى كان المسؤول خليا عن المحاسبة إلا خاض في وحل من التقصير والخطأ؛ ذكر الأحنف أن عمر غضب على رجل فضربه بالدِّرة، فتذمّر الرجل، وندم عمر، فاستدعى الرجل ليأخذ حقه من عمر، فأبى الرجل وقال: أدعها لله. وانصرف عمر حتى دخل منزله وصلى ركعتين وجلس، فقال: يا ابن الخطاب، كنت وضيعا فرفعك الله، وكنت ضالا فهداك الله، وكنت ذليلا فأعزك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاءك رجل يستعديك فضربته، ما تقول لربك غدا إذا أتيته؟! قال: فجعل يعاتب نفسه في ذلك.

ولقد سما عمر في سماء العدل حين بدأ بنفسه وأهله، فلم يقدمهم على غيرهم من المسلمين، ولربما بالغ في العدل فأنقص لهم حقا تورعا وصدقا، ثبت في الصحيحين أنه أعطى المهاجرين الأوائل أربعة آلاف درهم، وأعطى ابنه عبد الله ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: إنه كان من المهاجرين الأوائل، فقال: إنما هاجر به أبوه.

لقد كان الفاروق يباشر أمر الناس بنفسه، ينزل إليهم يسمع شكايتهم، لم يكن في برج عال، أو قصر منيف، أو مكتب وثير، لا يلج إليه الناس إلا لجاجا؛ كلا.

خذوا هذا الموقف: خرج عمر ذات ليلة إلى الحرة، ومعه مولاه أسلم، فإذا نار، فقال يا أسلم، ما أظن هؤلاء إلا ركباً قصر بهم الليل والبرد، فلما وصل مكانها إذا هي امرأة معها صبيان، يتضاغون من الجوع، قد نصبت لهم قدر ماء على النار، تسكتهم به ليناموا. فقال عمر: السلام عليكم يا أهل الضوء -وكره أن يقول: يا أهل النار- ما بالكم؟ وما بال هؤلاء الصبية؟ قالت المرأة: يتضاغون من الجوع، قال فأي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به، أوهمهم أني أصنع طعاماً حتى يناموا ، والله بيننا وبين عمر. فقال: يرحمك الله! وما يُدري عمر بكم؟ قالت: أيتولى أمرنا ويغفل عنا؟ فبكى عمر -رضي الله عنه-.

ورجع مهرولاً، فأتى بعدل من دقيق، وجراب من شحم، وقال لأسلم: احمله على ظهري. قال: أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين. فقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟ فحمله حتى أتى المرأة، فجعل يُصلح الطعام لها، وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل من لحيته، حتى نضج الطعام، فأنزل القدر، وأفرغ منه في صحفة لها، فأكل الصبية حتى شبعوا، وجعلوا يضحكون ويتصارعون، فقالت المرأة: جزاك الله خيراً، أنت أولى بهذا الأمر من عمر. فقال لها عمر: قولي خيرا.

ولما رجع من الشام إلى المدينة انفرد عن الناس ليتفقّد أحوالَ الرعية، فمرّ بعجوزٍ في خِباء لها فقصدها. فقالت: يا هذا، ما فعل عمر؟ قال: قد أقبل من الشام سالمًا، فقالت: لا جزاه الله خيرا، قال: ولم؟ قالت: لأنّه -والله- ما نالني من عَطائه منذ تولّى أمرَ المسلمين دينارٌ ولا درهم! قال: وما يدرِي عمر بحالِك وأنت في هذا الموضع؟! فقالت: سبحان الله! والله ما ظننت أن أحدًا يلي على النّاس ولا يدري ما بين مشرِقها ومغرِبها. فبكى عمر وقال: واعُمَراه! كلّ أحدٍ أفقهُ منك يا عمر، حتى العجائز.

ثم قال لها: يا أمةَ الله! بكم تبيعيني ظلامَتك من عمَر، فإني أرحمه مِنَ النّار، فقالت: لا تستهزئ بنا -يرحمك الله-، فقال: لست بهزّاء. فلم يزل بها حتى اشتَرَى ظلامتَها بخمسةٍ وعشرين دينارا. فبينما هو كذلك إذ أقبل عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فوضعَت العجوز يدَها على رأسها وقالت: واسوأتاه! شتمتُ أميرَ المؤمنين في وجهِه. فقال لها عمر: ما عليك يرحمك الله.

ثم طلب رقعةً من جِلد يكتب عليها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى به عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إلى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين دينارا، فما تدّعي عند وقوفه في الحشر بين يدَي الله تعالى فعمر منه بريء. شهد على ذلك علي وابن مسعود)، ثم دفع الكتاب إلى أحدهما وقال: إذا أنا متّ فاجعله في كفني ألقى به ربي.

لقد كان عمر معظِّما للمال العام؛ لأن المال مال الله لا يملكه أحد، جيء بمال كثير من العراق فقيل لعمر: أدخِله بيت المال، فقال: لا وربّ الكعبة، لا يُرى تحت سقفه حتى أقسمه بين المسلمين. هذا عدله في السراء، فما حاله مع الرعية في الضراء؟.

إنه إذا ما وقع بالناس بلاء، أو دهمتهم لأواء، يكون المسؤول العادل أول المتأثرين، وآخر المنتفعين، وهكذا كان عمر.

لما أصاب الناسَ هولُ المجاعة والقَحط في عهد عمر كان لا ينام الليل إلا قليلا، وما زال به الهمّ حتى تغيّر لونه وهزل، وقال من رآه: لو استمرّت المجاعة شهورا أخرى لمات عمر من الهمّ والأسى.

وجاءته يومًا قافلة من مصر تحمل اللحم والسّمنَ والطعام والكِساء، فوزّعها على الناس بنفسه، وأبى أن يأكل شيئا، وقال لقائد القافلة: ستأكل معي في البيت، ومنَّى الرجل نفسَه وهو يظنّ أن طعام أمير المؤمنين خير من طعام الناس، وجاء عمر والرجل إلى البيت جائعَين بعد التّعب، ونادى عمر بالطعام فإذا هو خبز مكسّر يابس مع صحنٍ من الزيت، فاندهش الرجل وتعجّب! وقال: لِمَ منعتني من أن آكل مع الناسِ لحمًا وسمنا؟! فقال عمر: ما أطعمك إلا ما أطعم نفسي، فقال الرجل: وما يمنعك أن تأكل كما يأكل الناس وقد وزّعتَ اللحم والطعامَ عليهم؟! قال عمر: لقد آليتُ على نفسي أن لا أذوقَ السمن واللحم حتى يشبعَ منهما المسلمون جميعا.

فلله أنت يا عمر! ولله قلب تحمله! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100].

ذلك شاطئ عمر الأول، فمن عمر الثاني؟ إنه خامس الخلفاء، وصالح الأمراء، إنه عمر بن عبد العزيز، الذي ضرب في العدل مثلا لا يكاد يجارى، حيث بدأ بنفسه وخاصة قومه.

ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة فنظر في بيت مال المسلمين، ثم نظر إلى ما في يده، ثم نظر إلى ما في يد أمراء بني أميه، فبدأ بنفسه، فدعا زوجه فاطمة ابنة الخليفة وزوجةَ الخليفة وأختَ الخلفاء، فقال: يا فاطمة، هذه حليّك، تعلمين من أين أتى بها أبوك؟ فإن رأيتِ أن أردَّها إلى بيت مال المسلمين فعلت، وإلا خذيها وفارقيني، فوالله لا أجتمع أنا وهي في دارٍ أبدا، فقالت: لا والله يا أمير المؤمنين، بل أؤثر صحبَتَك، فردّت حليَّها على بيت مال المسلمين. فلما مات عمر قال لها أخوها: يا فاطمة، إن شئتِ رددتها إليك، قالت: لا والله! لا آخذها وقد ردّها عمر. فأخذها أخوها هشام فقسمها على بناته.

ثم انقلب عمر بعد أن بدأ بنفسه إلى بني أميه، فقطع كلّ صلات كانوا يأخذونها، وأعطياتٍ كانوا يستلمونها؛ نظر إلى بيت المال فإذا اسمه بيت مال المسلمين، بيت مال المسلمين، ليس بيتَ مال عمر، ولا بيت مال الأمراء، ولكنه بيت مال المسلمين، فكلّ مال أخِذ من بيت مال المسلمين فدفِع إلى أمير قام عليه عمر فردّه من حيث أخذ، واستشاط أمراء بني أميه غضبًا، فأرسلوا إليه ابنَه عبد الملك، فقالوا: يا عبد الملك، إما أن تستأذنَ لنا على أبيك، وإما أن تبلّغه عنا. قال: قولوا. قالوا: أخبِره أنّ من كان قبله من الأمراء يعطوننا أعطياتٍ، ويصلوننا بصلاتٍ، وأنه قد قطعها عنا، مُرْه فليردّها علينا. وأبلغَ عبد الملك أباه المقالةَ فقال: ارجع إليهم فقل لهم: إن أبي يقول: إني أخاف إن عصيت ربي عذابَ يوم عظيم، إني أخاف إن عصيت ربي عذابَ يوم عظيم. لجامٌ ألجم عمر به نفسه.

لقد كانت حاجات المسلمين هي حاجته، وهمومهم همه، لا يستصغر حاجة ولا يستعظمها. كتبت إليه أمة سوداء من مصر برسالة تقول: "بسم الله الرحمن الرحيم، من فرتونة السوداء إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز"، لم تكتب إليه تطلب أن يجري لها نهرا، ولا أن يقطع لها ضيعة،كان الأمر أيسر من ذلك وأقل، لكنه عند أهل العدل عظيم. كتبت "من فرتونة السوداء إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. أما بعد: فإن لي جدارا على حائطي انهدم بعضه، فأصبح الغلمان يعبرون على حائطي فيسرقون دجاجي، فأمُر واليَك على مصر فليقِم الجدار".

إنّ هذا الطلبَ الصغير الذي يوجَّه في رسالة إلى عمر يدلّ على تواضع عمر، وأن حاجات المسلمين كبيرة عنده وإن كانت في ظاهرها صغيرة. فكتب إليها: "من عمر بن عبد العزيز إلى فرتونة. أما بعد: فإني قد أمرتُ أميري على مصر أن يقيم لك الجدارَ، والسلام. عمر بن عبد العزيز.

فيا كل مسؤول! أنت مؤتمن، فكن مثل عمر، أو بعضَ عمر، تفز في الدنيا بثناء الناس، وتوفيق الله لك؛ وفي الآخرة برضوان الله، ورضوان الله أكبر.

وبعد: هذا هو العدل، وتلك نتائجه، ومن كابَر وظلم فليحذر كل الحذر، سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، فقال: "أتدرون ما المفلس؟"، قالوا: الْمُفْلِسُ فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعْطَي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيتْ حسناته قبل أن يقْضِي ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار" رواه مسلم والترمذي.

إن أمامنا يوما يجتمع فيه الخصوم عند الله فيقضي بينهم بحكمه، وحكمه العدل جل وعز، يقضي الله بالعدل، حتى فيما يكون بين الحيوان، فكيف بظلم الإنسان؟ وفي الحديث: "لَتُؤَدَّن الحقوقُ إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقَاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" رواه مسلم. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من ظلم قيد شبر من الأرض، طُوِّقَه من سبع أرضين" متفق عليه.

ولا يغتر ظالم بظلمه، فربنا يمهل ولا يهمل، وفي الحديث: "إن الله لَيمْلِي للظالم (أي: يؤخر عقابه) حتى إذا أخذه لم يفْلته" متفق عليه. ثم قرأ: (وكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102].

ومن غش المسلمين أو أكل المال العام ظلما فليتذكر أنه صائر إلى الله، وأن للمظلومين دعوات لا يحجبها عن الله حاجب، ولئن كان الظلم في المال الخاص ممقوتا، فإنه في المال العام أنكى أثرا، وأشد خطرا، وأبعد ضررا.

أَمَا واللهِ إنَّ الظُّلْمَ شُؤمٌ

وما زَالَ المـُسيءُ هو الظَّلُومُسَيُعلم في الجَزَاءِ إذا التَقَيْنَا غداً عِنْدَ الإِلهِ مَن المـــَلُومُ إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمـــْضِي وعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصُومُ

بقي أن أشير إلى أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وإن ما يصيب بعض الضواحي من شدة وكرب، أوضائقة وخطب، لهو تخويف من الله، لعلهم يرجعون.

ولعل باغي الشر أن يكف، ومروِّج الفتنة أن ينزجر، فالله يغار، وبطش الله شديد، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، فلنتعاهد أنفسنا بالتوبة إلى الله ننجو بها في الأولى، ونفوز بها في الأخرى.

اللهم صلِّ على نبينا محمد...