التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عبد الله بلقاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
يجب أن تكون الأمانة مختلطة بعظامنا ودمائنا ، يجب أن يرضعها أولادنا في بيوتنا وفي مدارسنا، يجب أن يصرخ بها الدعاة في محاضراتهم ومنابرهم، يجب أن نجعل المرتشين واللصوص في خط المواجهة مع المجتمع كله، يجب أن يشعر كل مسؤول وموظف أن عيون الناس كلها تحاسبه، إذا كان هو لا يخاف الله ولا يراقبه فإن المجتمع النزيه يقف له بالمرصاد، وأن يكون هناك احتساب في رفع الدعاوى للجهات المختصة ..
قال تعالى: (وَمِن النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة:204-205].
الفساد في خطاب القرآن معنى جامع لكل معاني الخروج عن الاستقامة والعدل وانتفاء الصلاح، وقد بين الله تعالى في كتابه أنه لا يحب المفسدين ولا يحب الفساد، ولا يُصلح عمل المفسدين، وأخبر أن ظهور الفساد في الأرض سبب لخراب الدنيا، وسوء العاقبة في الآخرة، في عشرات المواضع في القرآن.
وقد كثر إطلاق كلمة الفساد في لغة العصر على صورة خاصة من صور الفساد، فقد عرفته المنظمات الدولية أنه كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية لنفسه أو جماعته، وهو ظاهرة موجودة في العالم كله، في قطاعاته العامة والخاصة، لكنها متفاوتة بين بلد وآخر، وبين مؤسسة وأخرى.
وتسجل تسع دول من كل عشر دول من الدول النامية نسبة عالية في الفساد، بخلاف الدول المتقدمة.، وجريمة الفساد لها صور كثيرة منها: الرشوة، المحسوبية، الواسطة، نهب المال العام، الابتزاز. وكلها يجمعها جامع واحد هي التلاعب، والخيانة، وخراب الذمم؛ والتضحية بالمصلحة العامة للأنانية الرخيصة، بالحيل والأكاذيب والخداع، الذي يمرر به النهب والاختلاس والتبديل، ويُتحايل به على الأنظمة؛ لتظهر الأفعال المشينة في صورة الشرعية، وهي سرقة وخيانة وظلم وفساد.
الفساد جريمة في كل القوانين والشرائع، وقد جاءت شريعة الإسلام بتصنيف جرائم الفساد في خانة الكبائر، وجعل مرتكبيها مستحقين للَّعنة والوعيد بالعذاب، قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري في صحيحه: "إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة ".
وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي، قال -صلى الله عليه وسلم: "أما بعد، فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول: هذا عملكم و هذا أهدي إلي. أفَلا قعد في بيت أبيه و أمه فينظر هل يهدى له أم لا؟ فوالذي نفس محمد بيده لا يغل أحدكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، إن كان بعيرا جاء به له رغاء، و إن كانت بقرة جاء بها لها خوار، و إن كانت شاة جاء بها تيعر. فقد بلغت".
أيها المسلمون: لقد جاء قرار الملك المصلح -بيض الله وجهه- بالتحقيق في ما حصل في محافظة جدة كالثلج على قلوب المؤمنين الذي يحبون بلادهم، ويشتاقون لرفعتها وصلاحها.
أيها المسلمون: إن صور السيول الهادرة وهي تجوب شوارع جدة، مصطحبة معها أكثر من مائة نفس معصومة، وآلاف من المراكب والأمتعة والأثاث، مع ملايين الحسرات والأوجاع، تنادى بالسؤال عن السبب الذي أودى بتلك الأرواح؟! صراخ الأطفال وأمواج الماء تضرب برؤوسهم على الجسور والكباري، وتخنقهم بالوحل والطين! يشرع الباب: هل هناك نفوس خبيثة تسرق المال العام، وتخون الأمانة في تنفيذ المشاريع التي تأمر بها الدولة؟.
نعم رضينا بالله وبقضائه وقدره، نعم نحن نعلم أن ما أصابنا إنما هو بسبب ذنوبنا، نعم نحن تاريخ من الذنوب والأخطاء والمعصية، إن عذبنا الله فبعدله، وإن غفر لنا ورحمنا فبفضله،
ولكن كل عاقل يتأمل سخاء الدولة في المشاريع، ويقرأ المليارات التي تنفقها على خدمة المواطن. يخشى أن تكون هناك أياد بعيدة عن معنى الطهر تعوق التنمية، وتتلصص على المال العام، وتستبيح السحت والحرام بصور خادعة، وتمريرات كاذبة.
الملك -وفقه الله- ليس وحده في مقاومة الفساد يجب أن يكون المجتمع كله معه، بالدعاء والمساندة، والمعاونة.
إن بلادنا المباركة المحروسة بشرع الله لا يمكن أن تكون نهبا لبائعي الذمم، وسماسرة الفساد
إن هذا القرار قيادة للشعب نحو الإصلاح، ومقاومة الأشرار، وإعلان صريح أن البلاد في معركة دائمة مع الفساد في كل مكان، وأننا نسير في الطريق الصحيح للنهضة القائمة على الأمانة والنزاهة، والصراحة والوضوح.
يجب أن تكون الأمانة مختلطة بعظامنا ودمائنا ، يجب أن يرضعها أولادنا في بيوتنا وفي مدارسنا، يجب أن يصرخ بها الدعاة في محاضراتهم ومنابرهم، يجب أن نجعل المرتشين واللصوص في خط المواجهة مع المجتمع كله، يجب أن يشعر كل مسؤول وموظف أن عيون الناس كلها تحاسبه، إذا كان هو لا يخاف الله ولا يراقبه فإن المجتمع النزيه يقف له بالمرصاد، وأن يكون هناك احتساب في رفع الدعاوى للجهات المختصة على المسؤولين الذي يظهر منهم إخلال بالأمانة، وعدم السكوت عنهم، وذلك بالعدل، والإنصاف، والكلمة الموضوعية القائمة على الدلائل والبراهين، والمستندة إلى القواعد والأنظمة، وبالطرق الشرعية، والقنوات الحقوقية المعتبرة، بعيدا عن التضخيم والتهويل، والكذب والافتراء، والتهييج واستخدام الأساليب الفوضوية بالتشهير وإصدار الأحكام قبل التبين والتحقيق.
أيها المسلمون: ما هي أسباب الفساد؟ ما الذي يحمل الخائنين على الخيانة؟ أسباب كثيرة: أولها قلة الإيمان، وفساد القلب، وانهيار القيم أمام الطمع وحب المال، والجهل بالله ، وبأحكام شريعته، حتى تجد أحدهم يتحايل لتكون صورة القرار نظامية في الظاهر وهي خيانة في الباطن، ومحسوبية واضحة، واختلاس مبين، وواسطة مقنعة؛ فمثلا، حين تمنع الأنظمة من مباشرة المسؤولين أو أقاربهم للمناقصات الحكومية حفظا للنزاهة والشفافية والإتقان، يتلوَّن اللصوص فيأتون للمشاريع بجلود الغرباء وهم في الحقيقة شركاء؛ فبالله عليك! كيف يكون الخصم الحكم؟ كيف يستطيع أن يكون وفيا للدولة وهو شريك مع المستثمر؟ وهكذا، في طابور طويل من حيل الصبيان القذرة.
إن من أسباب الفساد سكوت المجتمع على الرشوة والابتزاز الذي يمارسه بعض المجرمين، فيأتي المواطن فيدفع الرشوة، والراشي ملعون قبل المرتشي على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الراشي أولى باللعنة، لأنه جزء من معادلة الفساد، يجب أن تتضافر الجهود، بالإبلاغ عن كل لص مهما كانت التضحيات، ومهما كانت العراقيل، فلتتأخر معاملتي، وليبق وطني وبلادي نزيهة نظيفة من صراصير الفساد.
لماذا نتحدث في المجالس عن وجود مرتشين ولا نبلغ عنهم ولا نتحمل مسؤوليتنا تجاه مجتمعنا؟ أين شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أين القائم على حفظ حدود الله؟ أين الحريصون على سلامة المجتمع وأمنه وماله؟ أين الموظفون الذين يرون بعض زملائهم يرتشون ولا يبلغون عنهم ويكتفون بالثرثرة في المجالس؟.
يجب أن نطور قدراتنا على تضييق منافذ الفساد، بكل صوره وأشكاله، ينبغي أن لا نوفر أي بيئة قابلة لنمو طحالب الفساد في مجتمعنا، يجب أن نواصل تطوير أجهزتنا ومؤسساتنا الرقابية على المال العام، يمكن أن نستفيد من التجارب الدولية في معالجة هذه الظواهر في مؤسساتنا، كل هذا مع التربية المتواصلة، والتذكير الدائم بخطورة الجرأة على الأموال العامة، وأن أكلها بغير وجه حق سحت ونار وعار، ومحْق وعذاب، وخيانة وفضيحة عاجلة أو آجلة، قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه وهو يحذر من المال العام:"والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرا له خوار، أو شاة تيعر".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...