البحث

عبارات مقترحة:

المجيد

كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

الخلاق

كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...

الوضوء .. فضله وأحكامه

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الطهارة
عناصر الخطبة
  1. المؤمن طاهر حسيا ومعنويا .
  2. فضل الوضوء .
  3. أحكام الوضوء .
  4. فضل الديمومة على الطهارة .

اقتباس

والديمومة على الطهارة تجعل العبد يلقى ربه وهو على طهارة لو كان موته فجأة؛ ولذلك فإن المؤمن لا يرضى إلا أن يكون على طهارة دائمة حتى في نومه، كيف والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "طهِّروا هذه الأجساد طهّركم الله، فإنه ليس عبد يبيت طاهراً إلا بات معه ملك في شعاره لا ينقلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهراً" ..

 

 

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن المؤمن يوصف بالطهارة، ويوصف المشرك بالنجاسة، فالمؤمن طاهر من الشرك ورجسه. وكلما اقترب من كمال الإيمان كلما كان قلبه طاهراً من الحقد والحسد والكراهية، وكان عمله طاهراً من الرياء والسمعة، وكانت جوارحه طاهرة من المعاصي والآثام.

وأعداءُ الله تعالى تنجسوا بعدائه، والاستكبار عن طاعته فهم أولى بكل نجاسة، (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة:41]. ولما كانوا كذلك كانوا حرباً على المؤمنين المتطهرين، يتواصون في نواديهم النجسة قائلين: (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [الأعراف:82].

إن طُهر المؤمنين كان بالإيمان بالله تعالى، والإخلاص له، والمسارعة إليه بالأعمال الصالحات. فالوضوء طهارة للوقوف بين يدي الله تعالى، والصلاة طهارة تغسل درن الذنوب والمعاصي، والزكاة طهارة للمال، (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة:103]. وهكذا سائر العبادات.

والأشياء المحترمة طاهرة، والمؤمن محترم حياً وميتاً فهو طاهر، وما في الجنة محترم لذا كان مطهراً (خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ) [آل عمران:15]، وبيوت الله محترمة؛ لذا وجب تطهيرها، (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة:125]، وكتاب الله تعالى محترم، طاهر مطهَّر، (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) [عبس:13-14]، (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً) [البينة:2]، لذا كان واجباً أن لا يمسه إلا طاهر (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة:77-79].

والطهارة الحسية تكمل الطهارة المعنوية، فالإسلام دين النقاء والطهارة؛ ولذا امتن الله تعالى على عباده بإنزال الماء: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً) [الفرقان:48]، (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) [الأنفال:11]. ومن أول النداءات التي نودي بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعثه: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر:1-5]. طهارة حسية بتطهير الثياب، وطهارةٌ معنوية باجتناب الأوثان. قال ابن زيد: "كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر، وأن يطهر ثيابه".

وما جاءت الطهارة في النداءات الأولى لهذه الشريعة العظيمة إلا لعظيم أهمية الطهارة في الإسلام؛ بل وجاء الخبر القرآني بمحبة الله تعالى للمتطهرين: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة:108]، قال -عليه الصلاة والسلام-: "نزلت هذه الآية في أهل قباء (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية" أخرجه أبو داود وصححه الحافظ.

ونصت السنة النبوية على أن الطهور شطر الإيمان، أي: نصفه، والوضوء للصلاة من أعظم الطهارات التي رتب عليها الأجر العظيم؛ فمن أسباب محو الخطايا، ورفع الدرجات، إسباغُ الوضوء على المكروهات؛ فالوضوء يُخرج خطايا الجوارح والأعضاء، روى عبد الله الصنابحي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه، حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه، حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه، حتى تخرج من تحت أظافر رجليه. ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة". أخرجه النسائي وابن ماجه، ومسلم بنحوه، عن أبي هريرة، وفيه: "حتى يخرج نقياً من الذنوب".

ويعظم فضل الوضوء وأثره في حياة المؤمن؛ إذ هو العلامة التي يعرفها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمته يوم القيامة من بين سائر الأمم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا" قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: "أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد" فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: "أرأيت لو أن رجلاً له خيل غُرٌّ محجَّلةٌ، بين ظهري خيل دُهم بُهم، ألا يعرف خيله؟" قالوا بلى يا رسول الله! قال: "فإنهم يأتون غُرّاً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض. ألا ليذادُنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلُمَّ! فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً" وعنه -رضي الله عنه- قال: سمعت خليلي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" أخرجهما مسلم.

أما صفة وضوئه -صلى الله عليه وسلم- فيحكيها أمير المؤمنين عثمان ابن عفان -رضي الله عنه- حيث دعا بوضوء فتوضأ، فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل اليسرى مثل ذلك. ثم قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه". قال ابن شهاب الزهري: "وكان علماؤنا يقولون: هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة".

وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً؛ وثبت عنه أيضاً أنه خالف بين أعضائه في عدد الغسلات، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرتين، ورجليه مرة.

وكل هذا ثابت في سنته -صلى الله عليه وسلم-، والأفضل أن يأتي العبد بهذا مرة وبهذا مرة، حتى يدرك سنته كلها.

وإذا صلى العبد بوضوئه استحب له أن يجدد وضوءه للصلاة الأخرى، أما إذا لم يُصلّ بوضوئه فلا يجدده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وإنما تكلم الفقهاء فيمن صلى بالوضوء الأول هل يستحب له التجديد؟ أما من لم يُصل فلا يستحب له إعادة الوضوء؛ بل تجديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولما عليه المسلمون في حياته وبعده إلى هذا الوقت" اهـ.

وإذا توضأ المؤمن فقد أدى طهارة بدنه، فيقول كلمة التوحيد تأكيداً على طهارة قلبه من الشرك، ويسأل الله أن يديمه على هذا الطهر؛ ورد هذا في سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مثبتاً الأذكار بعد الوضوء، فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء".

وخرَّج النسائي والحاكم وصحَّحه، من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " ... من توضأ فقال بعد فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله ألا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رقٍ ثم جعل في طابع، فلم يكسر إلى يوم القيامة".

والديمومة على الوضوء صفة من صفات الكمال للمؤمنين، لا يصبر على الاتصاف بها إلا هم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "استقيموا، ونعمَّا إن استقمتم، وخير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن".

والوضوءُ بعد الحديث، ثم الصلاة بهذا الوضوء، من ميادين المسابقة إلى الجنة، فقد روى عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع خشخشة أمامه، فقال: "من هذا؟" قالوا: بلال، فأخبره وقال: "بم سبقتني إلى الجنة؟" فقال: يا رسول الله، ما أحدثتُ إلا توضَّأت، ولا توضأت إلا رأيت أن لله عليَّ ركعتين أصليهما، قال -صلى الله عليه وسلم-: "بهما" صححه ابن حبان والحاكم.

الله أكبر! عمل قليل، وخير كثير! وضوء بعد كل حدث، وصلاة بعد كل وضوء، والجزاء سبقٌ إلى الجنة.

والديمومة على الطهارة تجعل العبد يلقى ربه وهو على طهارة لو كان موته فجأة؛ ولذلك فإن المؤمن لا يرضى إلا أن يكون على طهارة دائمة حتى في نومه، كيف والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "طهِّروا هذه الأجساد طهّركم الله، فإنه ليس عبد يبيت طاهراً إلا بات معه ملك في شعاره لا ينقلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهراً" أخرجه الطبراني.

ما هذا الفضل العظيم؟! استغفار الملائكة للعبد كلما تقلب في فراشه طوال الليل، وما على العبد إلا أن يتوضأ قبل أن ينام حتى ينال هذا الفضل. فمَن يا ترى يحرم نفسه هذا الخير؟! فينام على غير طهارة؛ فإن قبضت روحه قبضت على غير طهارة، وإن أرسلت فاته فضل استغفار الملائكة.

أيها الإخوة: هذا الوضوء، وهذا فضله في الإسلام، فأي دين أولى التطهر والنظافة هذه العناية العظيمة غير دين الإسلام؟! فلله الحمد بالإسلام، ونسأله الثبات عليه إلى الممات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة:6].

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمد الشاكرين، وأستغفره استغفار المذنبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشر أجمعين صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه تفلحوا، فإنه (مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90]، (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:179].

أيها الإخوة: مما يؤخذ على كثير من الناس في الوضوء عدم إسباغه إما تهاوناً بشأنه، وإما جهلاً بصفته الشرعية؛ وإنما رتب الأجر العظيم في الوضوء على إسباغه وإتمامه وإحسانه، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما من مسلم يتوضأ، فيحسنُ وضوءه، ثم يقومُ فيصلي ركعتين يُقْبِلُ عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة" أخرجه مسلم وأبو داود من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه-. وفي حديث آخر عن عثمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أتم الوضوء كما أمره الله، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن" أخرجه مسلم. قال البخاري: "وكان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم إذا توضأ".


وعدم إسباغ الوضوء فيه وعيد شديد، روى محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة وكان يمر بنا والناس يتوضؤون من المطهرة قال: أسبغوا الوضوء؛ فإن أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- قال: "ويل للعراقيب من النار" أخرجه الشيخان. فليتق الله أناس لا يبالون كيف توضؤوا، ولا يهتمون بإسباغ الوضوء كما أمر الله تعالى.

هذا فريق المقصِّرين، يقابله فريق الموسوسين في الوضوء، المعذِّبين لأنفسهم، المسرفين في صب الماء، وإهدارها بغير حق، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُغسّله الصاع من الصاع من الماء من الجنابة، ويُوضئه المد، كما في صحيح مسلم. ولما قال رجل لجابر عن الغسل بالصاع: ما يكفيني، قال له جابر: "كان يكفي من هو أوفى منك شعراً وخيرا منك" متفق عليه.

قال الإمام أحمد: "من فِقْه الرجل قلةُ ولوعه بالماء". وقال تلميذه المروزي: "وضَّأتُ أبا عبد الله فسترته من الناس؛ لئلا يقولوا إنه لا يحسن الوضوء، لقلةِ صب الماء، وكان -رحمه الله- يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ودلت السنن الصحيحة على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء، ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان".

وقال ابن القيم يذكر هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وكان من أيسر الناس صبَّاً لماء الوضوء، وكان يحذر أمته من الإسراف فيه، وأخبر أنه يكون في أمته من يتعدَّى في الطهور" اهـ. وإذا كان ينهى عن الإسراف وصب المياه في العبادات، ففي غيرها من باب أولى.

ومن الإسراف في المياه، والابتداع في الوضوء، الزيادةُ على ثلاث غسلات، قال الإمام أحمد: "لا يزيد على الثلاث إلا رجلٌ مُبْتَلَىً". وقال ابن المبارك: "لا آمن من ازداد على الثلاث أن يأثم". وقال النخعي: "تشديد الوضوء من الشيطان، لو كان هذا فضلاً لأوثر به أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-". وقد جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثاً ثم قال: "هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم" أخرجه أبو داود و النسائي وابن ماجه.

فاتقوا الله ربكم، وتفقَّهوا في دينكم، وأحْسِنوا الوضوء، (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:31]. ثم صلُّوا وسلِّموا على محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم...