البحث

عبارات مقترحة:

الأعلى

كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...

الولي

كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...

القريب

كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...

العبادة في الهرج

العربية

المؤلف فهد بن حسن الغراب
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. العبادة حصن المسلم عند الفتن .
  2. هدي النبي الكريم عند البلاء .
  3. التحلي بالصبر عند الفتن .

اقتباس

.. ويتتبع الإذاعات، ويلهث خلف الجرائد والمجلات ولكنه ينسى أمرًا عظيمًا، وسياجًا واقيًا، ودرعًا حصينًا، أرشد إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وباشرها إذا ادلهمت الخطوب، واشتدت الكروب، وكثر القتل، وعظمت الفتن، فزِع إليها، ففرج الله همه، ونفس كربه، وهزم عدوه، وأعلى كلمته .. أتدرون ما هي؟ إنها العبادة على اختلاف أنواعها وأوقاتها، وتفاوت أفضالها وأزمانها ..

 

 

 

 

في خضم ما نعيشه من أحداث، وما يمر بنا من فواجع، وما أصيبت به الأمة من ويلات، وما نراه من تسلط الأعداء، وما نلاحظه من تسارعِ الحوادث وتغيرٍ في الأمور، انتصاراتٌ تعقبها هزائم، وأفراحٌ تتلوها أتراح، وفتنٌ متنوعةٌ أصبح الحليمُ فيها حيران، يبقى الإنسان متلهفًا للخبر، متابعًا للحدث، باحثًا عن الحقيقة، يقلب القنوات ويتتبع الإذاعات، ويلهث خلف الجرائد والمجلات. 

ولكنه ينسى أمرًا عظيمًا، وسياجًا واقيًا، ودرعًا حصينًا، أرشد إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وباشرها إذا ادلهمت الخطوب، واشتدت الكروب، وكثر القتل، وعظمت الفتن، فزِع إليها، ففرج الله همه، ونفس كربه، وهزم عدوه، وأعلى كلمته .. أتدرون ما هي؟ إنها العبادة على اختلاف أنواعها وأوقاتها، وتفاوت أفضالها وأزمانها.

العبادة -عباد الله- حصن الله الأعظم، مَن دخله كان من الآمنين، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله انقلبت المخاوفُ في حقه أمانًا، ومن عصاه انقلبت مآمنهُ مخاوف، فلا تجد العاصي إلا وكأن قلبَه بين جناحي طائر، إن حركت الريحُ البابَ قال جاء الطلب، وإن سمع وقع قدمٍ خاف أن يكونَ نذيرًا بالعطب، يحسب كلَّ صيحةٍ عليه، وكلَّ مكروهٍ قاصدًا إليه.

أيها المسلمون: ما أحوجنا اليوم للعبادة، لكي نتمثل قولَه كما في صحيح مسلم من حديث معقلِ بن يسار -رضي الله عنه-: "العبادةُ في الهرج كهجرةٍ إليّ"؛ أتدرون ما الهرج؟ قال: "يتقاربُ الزمان، ويُقبضُ العلم، وتظهرُ الفتن، ويلقى الشح، ويكثرُ الهرج"، قالوا: ما الهرج يا رسول الله؟ قال: "الهرج القتل". قال النووي -رحمه الله-: المراد بالهرج الفتنةُ واختلاطُ أمورِ الناس، وسببُ كثرةِ فضلِ العبادة فيه أن الناسَ يغفُلون عنها، ويشتغلون بغيرها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد.

عباد الله: ولقد أرشد الله إلى أمرين عظيمين، يستعان بهما في السراء والضراء، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة:45]؛ فأمر بالصلاة لمدافعة الفتن، كما في حديث أمِّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: استيقظ النبي ليلةً فزِعا يقول: "سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل الله من الفتن؟ من يوقظ صواحبَ الحجرات -يعني زوجاتِه- لكي يصلين؟! رب كاسية في الدنيا، عارية في الآخرة".

أيها المسلمون: أرأيتم إذا غارت الآبار، وقلت الأمطار، وذبلت الأزهار، فإلى أين تفزعون؟ أليس إلى الصلاة؟ أرأيتم إذا كسفت الشمس، وخسف القمر، وعظم الخطب، وحل الخوف، فإلى أين تفرون؟ أليس إلى الصلاة؟ قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا انكسفت فافزعوا إلى الصلاة".

وتأملوا قول علي -رضي الله عنه-: لقد رأيتُنا ليلة بدر، وما فينا إلا نائم غيرَ رسول الله، يصلي ويدعو حتى أصبح. ويقول حذيفة: رجعت إلى النبي ليلة الأحزاب، وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان رسول الله إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

عباد الله: يزداد فضل الصلاة ويتأكد إبان حلول الفتن، ونزول الكوارث والمحن، لما في ذلك من جمع الشتات، ولمّ الشعث، والبعد عن التفرق والنزاع؛ فعن عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وهو محصور، فقال: إنك إمامُ عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمامُ فتنةٍ ونتحرج. فقال: الصلاةُ أحسنُ ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسِنْ معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: وفي هذا الأثر الحضُّ على شهود الجماعة، ولا سيما في زمن الفتنة؛ لئلا يزداد تفرقُ الكلمة.

وصلاة الليل -على وجه الخصوص- لها آثارٌ عظيمة، وفوائدُ جليلة على المتمسك بها، فزمن الفتن يضطرب الناسُ ويموجون، فيحتاج المسلم إلى صلةٍ بالله قوية، تؤنسُ نفسه، وتقوي روحه، وتثبت قدمه، وتشرح صدره، وتهدئ من روعه، فلا يموج حين الفتن كما يموج الناس، ولا ينزلق كما ينزلقون، ولا يضطرب كما يضطربون؛ لأنه موقن بأن العاقبة للمتقين.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

ولقد جعل الله سبحانه وتعالى الصبر جوادًا لا يكبو، وصارما لا ينبو، وجندا غالبًا لا يهزم، وحِصنًا حصينا لا يهدم، فهو والنصر أخوان شقيقان.

الصبر معين لا ينضب، وموردٌ عذبٌ لا يتكدر، متى تمكن في القلوب والضمائر، وتحكم في الأحاسيس والمشاعر، أورث صاحبه قوة عارمة، وهمة عازمة، وثقة جازمة، تجعله يتحمل المشاق، ويواجه الأخطارَ لا يهاب، يندفع إلى الشدائد غير ضعيف ولا مستكين، بل يستحلي المُرَّ، ويستعذب الصعاب، ويحرص على الموت حرص كثير من الناس على الحياة، مادام في سبيل الله.

إنه إذا استحكمت الأزمات، وتوالت النكبات، وكثُرت العوائق، وترادفت الضوائق، فإن الصبر هو الذي يشع النور العاصم من الردى، ويدله على الهدى، والصبر يُعَلِّم مواجهة التحديات مهما ثقلت، وانتظار الثمار مهما بعدت، بقوة إيمان، وثبات جنان، وصحة يقين، حتى يخرج المسلم من المآزق، وينجو من المضايق، ويسلم من المزالق، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ) [البقرة:155].

وعن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: وأيم الله! لقد سمعت رسول الله يقول: "إن السعيد لَمَنْ جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن؛ ولمن ابتلي فصبر، فواهًا!" أي: ما أحسن وما أطيب من ابتلي بالفتن فصبر على البلاء!.

وتأملوا قول أبي ذر: ركب رسول الله حمارًا و أردفني خلفه وقال: "يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد، لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟" قال: الله ورسوله أعلم، قال: "تعفَّفْ. يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس موت شديد، يكون القبر فيه بالعبد، كيف تصنع؟" قلت: الله ورسوله أعلم؟ قال: "اصبر".

وقد أوصى النبي بالصبر أيضًا عند جور الأمراء، وضلال الحكام، فعن ابن عباس عن النبي قال: "من كره من أميره شيئًا فليصبر؛ فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية" أخرجه البخاري.

أريتم إذا التقى الصفان، وتقابل الجمعان، وحمي الوطيس، فما المخرج؟ وإلى أين المفر؟ أليس إلى الثبات وذكر الله؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال:45]. ولقد حث القرآن على الصبر والتقوى لمواجهة الكيد، والسلامة من الفتن: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) [آل عمران:120].

ودفاع الله سبحانه عنا، وحمايته لنا من الفتن والمكايد، إنما يكون على قدر إيماننا وعبوديتنا، قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر:36]، وكان السلف يقولون: على قدر العبودية تكون الكفاية.

عبد الله! المفر من الفتن إلى العبادة هذا هدي نبيك، وسبيل سلفك؛ فماذا غيَّرتْ فيك هذه الأحداث؟ هل أحدثْتَ بعد المعصية توبة؟ وهل قررتَ بعد التفريط أوبة؟ هل بكرتَ إلى الصلاة وقد كنت عنها متقاعسا؟ هل حافظت على السنن وقد كنت فيها مفرطا؟ هل قمت الليل وقد كنت عنه متثاقلا؟.

هل أكثرت من الاستغفار، وعلمت أن إلى الله الفِرار، ورفعت يديك بالأسحار؟ هل ازداد تقواك؟ هل عظم بالله رجاك؟ لئن كنت كذلك فأبشر بتغيير الحال من الشدة إلى الرخاء، ومن الخوف إلى الأمن، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11].