السميع
كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | أحمد حسين الفقيهي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن مما ينبغي العناية به والتركيز عليه، خاصة في هذا الزمان، وبالذات من أهل الغيرة والفضل، إعطاء النفس حقها من العبادات الخاصة، أو ما يسميه البعض: العبادات القاصرة؛ كتدبر القرآن، وقيام الليل، والإكثار من ذكر الله، وصيام الهواجر، وزيارة المقابر، ونحوها من العبادات. هذه العبادات -أيها الإخوة- فيها تربية للنفس على الطاعة، والصبر عليها، وفيها تفرُّغٌ بين الفؤاد وبين المولى سبحانه، وخاصة في ظلمات الليالي ..
أما بعد:
فيا عباد الله: أخرج الإمام البخاري في صحيحه، عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ويشير بإصبعيه فيمدهما. فنحن، إذاً، نعيش في آخر الزمان، وعلى مقربة من الساعة، وهذا الزمان تكثر فيه الفتن، وتتنوع فيه المحن، حتى تجعل الحليم حيران، قال: "إن بين الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرًا، القاعد فيه خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي"، وفي رواية: "بادروا بالأعمال فتنًا" أخرجه أبو داود، وأصله في صحيح مسلم.
عباد لله: لقد كثر المتحدثون عن آخر الزمان، وتعدّد المتكلمون عن الوسائل الواجب اتخاذها تجاه الفتن والبلايا، والمحن والرزايا، بل لا عجب أن يضع أهل التخطيط والإدارة خططًا خمسية وعشرية في شتى جوانب الحياة استشرافا للمستقبل، وتداركًا لما تأتي به الأيام.
أَلَا وإن من أهم ما تستعد به النفوس لمقابلة الفتن ومقاومتها أمراً في غاية الأهمية، قَلَّ الحديث عنه، وتساهل البعض في جدواه، ولكن ما راءٍ كمَن سمع. إنها -أيها المؤمنون- عبادة الله، والتقرب إليه بشتى أنواع الطاعات؛ هذه الوسيلة التي غفل عنها المتحدثون، وتجاهلها المثبِّطون، ولم يفطن لها إلا العلماء والربانيون، إنهم يعلمون أنها وصية محمد -صلى الله عليه وسلم- لأمته حيث أخبرهم بأن العبادة في زمن الفتنة كالهجرة إليه؛ أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- أن النبي قال: "العبادة في الهرج كهجرة إلي"، قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: والهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها، ويُشغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد. اهـ.
وفي حديث آخر أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "يتقارب الزمان وينقص العمل". قال ابن حجر -رحمه الله-: وأما نقصهم العمل فيحمل أن يكون بالنسبة لكل فرد، فإن العامل إذا دهمته الخطوب ألهته عن أوراده وعبادته... إلى آخر كلامه -رحمه الله-.
عباد الله: إن للعبادة شأنًا عظيمًا في تثبيت النفوس، وبثّ روح الأمل والرجاء في العاملين، كيف لا وهي الهدف الأسمى من إيجاد البشر وخلق الوجود؟! قال سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]. هذه السموات، وهذه الجمادات، وتلك الأنفس، وهاتيك الحيوانات، كلها من أجل أن نعبد الله وحده لا شريك له. العبادة وصية الله لأقوامهم، فما من نبي إلا وصى قومه بقوله: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف:59، 65، 73].
عباد الله: إن الشخص لا يحبّ أن ينادى إلا بأحب الأسماء والأوصاف إليه، وهذه سنة محمد -صلى الله عليه وسلم- أن ندعو الشخص بأحب ما يرغب النداء به، وهل هناك وصف ولقب أفضل من كلمة: يا عبدي؟! إنه الوصف الذي وصف المولى سبحانه به أنبياءه ورسله في كتابه، لم يذكرهم بصفة النبوة، ولا بمنزلة الرسالة، بل ذكرهم بالوصف المحبب إليه: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ) [ص:45]، وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى...) [الإسراء:1].
يا قوم! لنعد إلى الغاية التي خلقنا من أجلها، ولنتمثل العبادة التي أمرنا بتنفيذها؛ لكي نسلم من شقاء الحياة ومُشْكِلاتها، ونتخلص من ضغوط الدنيا ولأْوائها.
أيها المؤمنون: العبادة لا يحصرها حد، ولا ينقضي بها عد، فالصلاة عبادة، والزكاة والحج والصدقة عبادة، بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى المساكين عبادة، الصفق في الأسواق وتنمية التجارات والنفقة على الأسر والعائلات عبادة لمن احتسبها، ذكر الله وقراءة القرآن والتفكر في أرجاء الكون عبادة. إنها -بإيجاز-: اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
عباد الله: إن مما ينبغي العناية به والتركيز عليه، خاصة في هذا الزمان، وبالذات من أهل الغيرة والفضل، إعطاء النفس حقها من العبادات الخاصة، أو ما يسميه البعض: العبادات القاصرة؛ كتدبر القرآن، وقيام الليل، والإكثار من ذكر الله، وصيام الهواجر، وزيارة المقابر، ونحوها من العبادات.
هذه العبادات -أيها الإخوة- فيها تربية للنفس على الطاعة، والصبر عليها، وفيها تفرغ بين الفؤاد وبين المولى سبحانه، وخاصة في ظلمات الليالي.
إن العلم، والدعوة إلى الله، وإنكار المنكرات، وتعليم القرآن، أعمال جليلة تحتاج ممن بذل نفسه لها أن يخالط الناس، ويصبر على أذاهم؛ وفي المقابل، تلك العبادات القاصرة تجعله يحاسب نفسه، ويخلو بمولاه، ويتلذذ بالطاعة وحيدًا فريدًا، لا يراه ولا يعلم به إلا مولاه.
أيها الإخوة: لقد نبتت نابتة أضحت تركن إلى العمل المتعدي لعظم أجره وفضله، وتركت أو هجرت ما تسمّيه العمل القاصر، وتجدها تؤصِّل لعملها، وتستشهد بمقولة مشهورة: العمل المتعدّي أفضل وأعظم أجرا من العمل القاصر. وهذه المقولة -وإن كانت صحيحة في أصلها- إلا أن حياة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسير سلفنا الصالح من علماء ودعاة ونحوهم، أفضل شاهد، وخير قدوة نحتذي بها.
إننا -حين ندعو للعناية بالجانب التعبدي القاصر على الشخص نفسه- لا ندعو إلى الرهبنة، ولا إلى ترك مجالات العمل المتعدي؛ كلا، بل نريد أن تعطى الروح والجسد شيئًا تستشعر فيه لذة الخلوة والمناجاة مع الله سبحانه. وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
أيها الإخوة: إن خير ما تقابل به آراء ومناهج أولئك الأقوام منهج محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهو -على كثرة مشاغله وأعماله- يوتر يوميًا بإحدى عشرة ركعة، ويقول : "إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"، وفي رواية: "أكثر من مائة مرة". فها هو المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لم تمنعه قيادته للغزوات، ولا إمامته الصلوات، ولا شؤون البيوت وغيرة الزوجات، أن يحافظ على هذه العبادات.
وإليكم مثالاً آخر لخليفة رسول الله الذي كان يعدّ الوزير المرافق للنبي، وكان النبي يكثر أن يقول: "خرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهب أنا وأبو بكر عمر". ولا يخفى عليكم مكانة هذا المنصب، وعظم الوقت الذي ينفق فيه، ومع ذلك نجده -رضي الله عنه- في يوم واحد يقوم بعبادات يعجز الأكفاء عن القيام بها؛ ولا ضير! فجائزتها دخول الجنة؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: "من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: من أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: من عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة" أخرجه مسلم.
وبعد أبي بكر يأتي عمر -رضي الله عنه-، وهو الذي له خطان أسودان في وجهه من كثرة البكاء.
وأما عثمان فيكفي أنه كان يختم القرآن في كل ثلاث ليال مرة.
ولقد ضرب عليّ -رضي الله عنه- مثالاً يحتذى في المحافظة على العبادات التي رآها البعض قاصرة، فها هو -رضي الله عنه- يقول عن نفسه: إنه لم يترك الورد الذي علمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقوله قبل نومه كل ليلة، قال: ما تركتها حتى في يوم صفين.
أولئِكَ آبائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ
عباد الله: وإليكم مثالاً لشخص تعرفونه جميعًا، ولا يشك أحد في علمه، ويعجز البعض عن مجاراته في دعوته لله، وبذله الخير والنصح للناس، ومع ذلك سطّر التاريخ لنا من حياته ذكريات تبقى نبراسًا لمن سلك الطريق الذي سلكه، ذلكم الرجل هو العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-، وإليكم شيئًا من عباداته وطاعته:
كان قلبه معلقا بالمسجد، فلا يشغله عن الصلاة والتبكير إليها كثرة الأعمال، ولا تزايد المراجعين؛ وإذا تأخر المؤذن قليلاً عن وقت الآذان أخذ سماحته يتساءل: ألم يحن الآذان بعد؟ وأما إذا سمع الآذان ترك جميع ما في يده وبادر إلى متابعة المؤذن وذكر الأذكار المشروعة في ذلك.
كان -رحمه الله- يقوم للتهجد قبل الفجر بساعة تقريبًا، فيصلي إحدى عشرة ركعة، وفي آخر عمره لم يترك ورده، وصار يصلي متربعًا.
لم يعُهد عنه أنه ترك سنة من السنن الثابتة في الصلاة، وإذا فرغ من الصلاة -وخاصة صلاتي المغرب والفجر- لا يجيب على سؤال، ولا يستفتح الدرس، حتى يفرغ من جميع الأذكار المأثورة في ذلك.
كان -رحمه الله- من أشدّ الناس ضبطًا للقرآن الكريم، وكان له ورد في ذلك لا يتخلف عنه أبدًا؛ لسانه يلهج بذكر الله من حين أن يخرج من منزله حتى يصل إلى المسجد.
قام ذات ليلة لقيام الليل ولم ينم إلا متأخرًا، وبعد صلاة التهجد اضطجع فأخذه النوم، ولم يكن حوله أحد يوقظه أو يضبط له الساعة المنبهة، وبعد أن صلى الناس استيقظ؛ لأنه كان على موعد بعد الفجر، فلما علم بفوات صلاة الفجر حزن حزنًا شديدًا، وأمر بتغيير المكان الذي نام فيه، وقال: هذا المكان أدركَنا فيه الشيطان. ثم قال لمن حوله: هذه أول مرة تفوتني صلاة الفجر. رحمه الله رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم.
يَـا رَبِّ فَابْعَثْ لنَا مِن مِثْلِهِمْ نَفَرَاً
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: روي عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: يؤتى بثلاثة نفر يوم القيامة: بالغني وبالمريض والعبد، فيقول للغني: ما منعك من عبادتي؟ فيقول: أكثرتَ لي المال فطغيتُ، فيؤتى بسليمان بن داود -عليه السلام- في ملكه فيقال له: أنت كنت أشدّ شغلاً أم هذا؟ قال: بل هذا. قال: فإن هذا لم يمنعه شغله عن عبادتي. قال: فيؤتى بالمريض فيقول: ما منعك عن عبادتي؟ قال: يا رب، أشغلتَ عليّ جسدي. قال: فيؤتى بأيوب في مرضه فيقول له: أنت كنت أشد ضررًا أم هذا؟ قال: فيقول: بل هذا. يعني أيوب -عليه السلام-، قال: فإن هذا لم يمنعه ذلك أنْ عَبَدَني. قال: ثم يؤتى بالمملوك فيقول له: ما منعك عن عبادتي؟ فيقول: جعلتَ عليَّ أربابًا يملكونني. قال: فيؤتى بيوسف الصديق -عليه السلام- في عبوديته، فيقال: أنت أشد عبودية أم هذا؟ قال: لا، بل هذا. قال: فإن هذا لم يشغله شيء عن عبادتي" اهـ من حلية الأولياء.
معاشر الآباء: لقد أخبر المصطفى بأن أعمار أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ما بين الستين إلى السبعين، وقليل من يجاوز ذلك، وأنتم قد تجاوزتم النصف أو يزيد من أعماركم، ولم يبق إلا القليل؛ لقد مضى -معاشر الآباء- زمن الكدح والنصب من أجل الأبناء، والغالب أن الأكثر في هذا العمر قد استقرت له أكثر أموره، ولم يبق إلا أن يتفرغ ويعطي العبادة جزءا من الوقت.
معاشر الآباء: لا تزال الذاكرة تذكر أولئك الآباء الذين عقدوا العزم على عدم مفارقة المسجد بين العشاءين؛ تفرغا للطاعة، وابتعادا عن اللهو والمعصية، ولا تزال كذلك تذكر من يختم القرآن في ثلاث، ومن اعتاد قيام الليل لساعات؛ ولا زلنا -بحمد الله تعالى- نرى أولئك الآباء وهم يدلفون إلى المساجد في يوم الجمعة مع الساعات الأولى، يبتغون الأجر من الله سبحانه.
معاشر الآباء: لقد كنتم -وما زلتم- مضرب المثل في اغتنام الأوقات، وبذل الساعات، للقرب من رب الأرض والسماوات، وما هذا النداء إلا حثاً للمزيد، وتذكيرا، والذكرى تنفع المؤمنين.
معاشر الشباب: وأنتم تعانون الاختبارات، لقد ازدانت بوجودكم هذه الأيام الجمع والجماعات، فأصبحت المساجد بحمد الله تمتلئ بالكثير منكم، وخاصة صلاتي الفجر والعصر التي كنا نفتقد بعضكم فيها.
إن إقبالكم إلى المساجد في هذه الأيام دليل خير فيكم، حيث لجأتم إلى الواحد القهار، وعلمتم أنه سبحانه القادر على تحقيق آمالكم، وتلبية تطلعاتكم، فاستمروا -معاشر الشباب- على هذه المحافظة، وعلى هذا الإقبال على الخير وعلى الصلاة، ولتكن هذه الأيام فاتحة خير، وانطلاقة منكم نحو الإقبال إليه سبحانه.
معاشر الشباب: ها أنتم تذوقتم لذة الطاعة، وأدركتم روعة كتاب الله، وهان عليكم الاستيقاظ للصلاة، فاللهَ اللهَ أن تكون هذه الإقبالة مؤقتة، بل اعقدوا العزم على جعلها بداية لا تنتهي إلا إلى القبر، ومنها إلى جنات النعيم بإذن الله.
معاشر الشباب: إن الإقبال على الطاعة يَسْتَلزم الأعراض عن المعصية، والابتعاد عنها، حتى تتحقق لكم أمانيكم، وتذكروا أن من عرف الله في الرخاء فلا يخشى رحمة الله وتوفيقه في حال الشدة، فهو سبحانه كريم لا يخلف الميعاد.
أخي الشاب:
بـَادِرْ شَبَابَكَ أنْ يَهْرَمَا
عباد الله: صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، كما أمركم الله بذلك...