الأحد
كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المهلكات |
وهكذا كان حال المنافقين مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. كانوا يتعلقون بأي شيء فيه إضعاف للحق، وإرجاف بين المؤمنين؛ رجاء أن يزول هذا الحق الذي لا يريدونه، وتكررت منهم الظنون السيئة في مواقف كثيرة، سجل القرآن منها ظنونهم في أحدٍ والأحزاب والحديبية، واستمر المنافقون منذ ذلك الوقت إلى اليوم على هذا المنهج الفاسد، تدفعهم إليه قلوبهم المريضة ..
الحمد لله، خلق الخلق بقدرته، وأفاض عليهم من نعمته، وابتلاهم بحكمته، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرد بصفات الجلال و الكمال، وتنزه عن النظراء والأشباه، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أكمل الخلق إيماناً، وأعظمهم يقيناً، وأحسنهم بربه ظناً. ساومه المشركون على دينه، وآذوا أصحابه؛ فما زاد إلا استمساكاً بدينه، واستسلاماً لأمر ربه. وتبعه المشركون في هجرته؛ حتى وقفوا على باب غاره، وخاف صاحبه، فكان يقينه بربه أعظم حيث قال: "الله معنا"، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ كانوا نعم صحب لأفضل نبي، هجروا ديارهم، وتركوا أهلهم وأموالهم؛ نصرةً لدين الله تعالى؛ والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، فإن التقوى نور يضيء الطريق في الظلمات، وسبيل إلى المغفرة وتكفير السيئات؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال:29].
أيها المؤمنون: قوة الإيمان واليقين، وصحة المعتقد والتوحيد، مع حسن العمل؛ طريق الأمن والسعادة في الدنيا، والفوز والفلاح في الآخرة. من آمن بالله تعالى، وسلم الأمر إليه، وتوكل عليه، وأحسن الظن به، مع حسن عمله، فلن يزيغ أو يضل؛ بل سيكون من المهديين الفائزين.
ومهما تكالب العدوان على المؤمن، وتحاوشته الفتن، وتناوشته المحن، فإن يقينه بربه، وحسن ظنه به، عاصم له من كل فتنة، ومخفف عليه كل بلية، ومن هنا كان حسن الظن بالله تعالى من صفات المؤمنين، وسوء الظن به من صفات المنافقين.
إن المؤمنين صدقاً مؤمنون أنهم على الحق، وموقنون بنصر الله تعالى ووعده، وإن المنافقين يتقلبون في الشكوك والأوهام، والظنون الفاسدة، ولا تصيح صيحة إلا فزعوا يحسبونها عليهم، قلوبهم مريضة وظنونهم فاسدة، (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) [آل عمران:120]، وهم على هذا النهج الباطل منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، وعبر الزمن الطويل. كم غموا بعزٍّ للإسلام، وظفرٍ للمسلمين؟ وكم فرحوا بدائرة دارت على أهل الحق واليقين.
لما حصل ما حصل في غزوة أحد من هزيمة المسلمين، وكان من المنافقين من انخذل من الجيش، فرحوا بذلك أشد الفرح، وظنوا أنه لا قائمة للإسلام بعد ذلك، (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران:154].
عن ابن جريج قال: "قيل لعبد الله بن أبي: قتل بنو الخزرج؟ قال: وهل لنا من الأمر من شيء". قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله -سبحانه- بأنه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له فيه".
ثم لما كانت غزوة الخندق عاود المنافقين ظنهم السيئ، وقالوا مقولاتهم المرجفة: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب:10-12]. قال الحسن -رحمه الله تعالى-: "ظنون مختلفة، ظن المنافقون أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون".
لقد ظهر في الساعة العصيبة نفاق المنافقين؛ لأن ظنهم السيئ هداهم إلى أن دعوة الإسلام على مشارف الانتهاء والاضمحلال، وأخذوا يشككون في وعد الله ورسوله، حتى قال قائلهم: "كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط".
وخيَّب الله ظنهم، فحفظ المؤمنين، وردَّ الكافرين على أعقابهم لم ينالوا خيراً، ( وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) [الأحزاب:25].
ويتواصل الظن السيئ مع المنافقين؛ لأن قلوبهم قد مردت على النفاق، فتكون غزوة الحديبية التي ما خرج فيها مع المؤمنين أحد من المنافقين؛ لأنهم لا يحبون أن يراهم المشركون متلبسين بأعمال المسلمين، مظاهرين لهم، وكانوا يحسبون أن المشركين يدافعون المسلمين عن مكة، وأن النصر سيكون للمشركين.
لقد ظنوا أن الله تعالى لم يَعِدْ رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالفتح، ولا أمره بالخروج إلى العمرة، ومن ثم لن يُنصرَ لقلة أتباعه، وقوة أعدائه، فسجل القرآن عليهم هذا الظن السيئ، وجعل عليهم دائرة السوء، (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [الفتح:6].
وتمادى بهم ظنهم السيئ، وامتلأت به قلوبهم، وزينه لهم شياطينهم؛ حتى اعتقدوا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لن يرجع من الحديبية سالماً، وهذا هو شأن العقول الواهية، والنفوس الهاوية، أن لا تأخذ من الصورة التي تتصور بها الحوادث إلا الصورة التي تلوح لها في بادئ الرأي، والتي تهواها وتحبها.
وما أحقر المنافقين! يعيشون بين المؤمنين، وينعمون بحمايتهم، وتبادل المنافع معهم، وهم يودون لهم الشر والهلاك؛ تخلفوا عن الحديبية، ثم جاؤوا بأعذار كاذبة، وطلبوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستغفر لهم؛ لكن القرآن كان أسرع في تنزيله؛ إذ راحت آياته تفضحهم، وتبين مخازيهم، (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) [الفتح:12].
إنهم تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وظنوا أن أهل مكة سيقتلون محمداً وصحبه، ويستأصلون شأفتهم، ويبيدون خضراءهم؛ فلا يرجع منهم مخبر حتى كانوا يقولون: إن محمداً وأصحابه أكلة رأسٍ لا يرجعون. وذلك كناية على القلة؛ أي: يشبعهم رأس بعير من قلتهم، فما هم بالنسبة لقريش والأحابيش وكنانة ومن في حلفهم.
هكذا ظنوا وتمنوا، ولكن الله تعالى خيب ظنهم، ونكس أمانيهم، فعاد رسول الله -صلى الله عليه- وسلم من الحديبية سالماً مظفراً، وقد فات المنافقين شرف صحبته، وفضل بيعة الرضوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً * وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً) [الفتح:11-13].
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين...
أما بعد: فإن الظن السيئ بالله سبحانه وتعالى هو نتاج قلب فاسد جاهل بالله تعالى وأسمائه وصفاته، خالٍ من ذكر الله تعالى وتعظيمه.
وهكذا كان حال المنافقين مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. كانوا يتعلقون بأي شيء فيه إضعاف للحق، وإرجاف بين المؤمنين؛ رجاء أن يزول هذا الحق الذي لا يريدونه، وتكررت منهم الظنون السيئة في مواقف كثيرة، سجل القرآن منها ظنونهم في أحدٍ والأحزاب والحديبية، واستمر المنافقون منذ ذلك الوقت إلى اليوم على هذا المنهج الفاسد، تدفعهم إليه قلوبهم المريضة.
ومع بالغ الأسف! فإن كثيراً من المسلمين يقعون في الظن الفاسد الذي هو من خصال المنافقين، من حيث لا يعلمون، فقد ينظر بعض المسلمين إلى أحوال الأمة الإسلامية، وما أصابها من الضعف والهوان؛ فيصيبه اليأس من صلاح أحوالها؛ فيقعد عن العلم والدعوة، ويتخلف عن الخير والصلاح. يظن ظناً سيئاً أنه لا صلاح يرجى، ولا خير ينتظر.
ويبصر البعضُ الآخرُ الكفارَ وما يملكون من أسلحة متطورة، وصناعة متقدمة، وقوة ضاربة، ويقارن ذلك بأحوال المسلمين الذين يقتلون ويشردون ويمنعون أبسط الحقوق الضرورية للعيش على الأرض؛ فلربما يقدح الشيطان في قلوبهم أن تلك القوة عند الكفار دليل على الحق، وأن ذلك الضعف عند المسلمين دليل على الباطل، فيطلقون لأنفسهم العنان في هذه الأوهام الفاسدة، والظنون السيئة؛ حتى ربما خرجوا من الإسلام وهم لا يشعرون.
ويساعد على ذلك الطرقُ الإعلامي الذي يصف الكفار بكل مدحة، بينما يصف المسلمين بكل نقيصة؛ حتى طفحت كتابات كثير ممن ينتسبون للإسلام بمدائح الكفار، والتشكيك في كونهم يدخلون النار، ويكتب أحدهم مستغرباً أن تدخل هذه المليارات كلها النار، وتكون النار من نصيب صناع الحضارة، ومن أسهموا في رفاهية الإنسان؟ وتكون الجنة للمتخلفين الإرهابيين الأصوليين.
وهذا الطرْق والتشكيك يزداد يوماً بعد يوم؛ ليزعزع المسلم في إيمانه، ويشككه في معتقده. وأقل شيء يورثه سوء الظن بالله تعالى، الذي هو بوابة من بوابات الكفر والنفاق.
ولكن المسلم الحق مؤمن بدينه، واثق بربه، مستمسك بعقيدته، داعٍ إلى سبيل ربه، لا يهتم لقول المنافقين، ولا يضره تخاذل المتخاذلين؛ في قلبه من الطمأنينة بدينه، والثقة بربه، ما يجعله ثابتاً لا يتزحزح عن إيمانه ولو كفر الناس جميعاً. وهكذا يكون المؤمن حقاً.
فاتقوا الله ربكم، وجانبوا سبيل المنافقين، واحذروا ظن السوء برب العالمين، وأحسنوا الظن به؛ فإنه تعالى عند ظن عبده به، إن ظن العبد خيراً وجد خيراً، وإن ظن شراً وجد شراً، وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم.