المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
إذا أخطأ صاحب تلك النفس فإنه لا يعترف بخطئه، وإذا ظلم فإنه لا يقر بظلمه؛ بل يحدد ميزانَ الخطأِ والصوابِ، والعدلِ والظلمِ نفسُهُ الجامحة، وهواه المتبعُ، يضع الأمور في غير مواضعها، ويظن أنه أحسن، وهو قد...
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: عندما يطغى على المرء حبُ نفسه، ورفعُ ذاته؛ فإن الأنانية والظلم يلازمانه ملازمة الظل؛ إذ لا يحدد معنى العدل والظلم، والخير والشر، والحسن والقبيح، في هذه النفس المريضة إلا الرغباتُ والأهواء، ومتطلباتُ تلك النفس الظالمة؛ فلا ترى الحق لأحد إلا في إطار حظوظها ومكاسبها.
إذا أخطأ صاحب تلك النفس فإنه لا يعترف بخطئه، وإذا ظلم فإنه لا يقر بظلمه؛ بل يحدد ميزانَ الخطأِ والصوابِ، والعدلِ والظلمِ نفسُهُ الجامحة، وهواه المتبعُ، يضع الأمور في غير مواضعها، ويظن أنه أحسن، وهو قد أخطأ وظلم. وإذا ساد هذا الفهم المغلوط في أمة من الأمم، فإن الهلاك يكون وشيكاً؛ لأن من أعظم أسباب تدمير الأمم وفنائها انتشار الظلم بين أفرادها.
والظلم نوعان: ظلم النفس، وظلم الغير؛ وأعظم الظلم الشرك كما قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13]، فإن المشرك جعل المخلوقين في منزلة الخالق فعبدهم وتألههم، فوضع الأشياء في غير موضعها.
وأكثر ما ذكر في القرآن من وعيد الظالمين إنما أريد به المشركون، (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة:254]، ثم يليه المعاصي عل اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر، ويكون العبد ظالماً لنفسه بارتكاب الشرك أو المعاصي؛ لأنه عمل ما يوجب عقوبته، فكان ظالماً لنفسه.
ولشناعة الظلم فإن الله تعالى نزه نفسه عنه فقال: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [قّ:29]، (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ) [آل عمران:108]، (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس:44]، (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ) [النساء:40]، وقال تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا..." أخرجه مسلم، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه..."، وجاء الأمر منه -صلى الله عليه وسلم- بنصر المظلوم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "... ولْيَنصر الرجلُ أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوماً فلينصره".
إن مرارة الظلم شديدة، وإن وطأته على المظلوم عظيمة، وقد يحتمل المرء تلف ماله، أو هلاك ولده، أو ذهاب نفسه؛ لكنه قد لا يحتمل الظلم من الغير؛ لذا كان جزاء الظالم عند الله عظيماً في الدنيا والآخرة.
ففي الآخرة: يفقد الظالم النور يوم القيامة؛ فيتخبط في الظُلَم جزاءً له على تخبطه في المظلومين في الدنيا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" أخرجه مسلم.
وإذا كان للظالم أعمال صالحة من صلاة وصيام وقرآن وصدقة وإحسان؛ فإنه يوقف يوم القيامة ليقتص منه المظلومون؛ فيأخذون ثواب أعمال البر التي عملها في الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". سيحصل هذا للظالمين يوم القيامة، ولسوف يقتص العبادُ بعضهم من بعض.
ومن عدل الله -سبحانه وتعالى- أن كل مظلوم يقتص من الظالم، حتى البهائم يقتص بعضها من بعض، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لتؤُدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" أخرجه مسلم.
لذا كان المسلم مأموراً أن يتخلص من الظلم، ويتوب إلى الله في الدنيا، ويرد الحقوق إلى أهلها، ويتحلل من مظلوميه؛ وإلا فإن الوفاء يوم القيامة من الحسنات والسيئات. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" أخرجه البخاري.
وقد يستهين بعض الناس بالظلم اليسير، وهو عند الله عظيم، يوجب النار وحرمان الجنة، وقد نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك؛ لئلا يتهاون العباد بالظلم، يسيراً كان أم كثيراً فقال: "مَن اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة"، فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: "وإن كان قضيباً من أراك".
فأين الذين يأكلون حقوق العباد ويظلمونهم؟ ويقتطعون الأموال العظيمة بالأيمان المغلظة الكاذبة، وشهادات الزور، والشفاعات السيئة، والرشوة والتزوير؟ كل هذه ذنوب عظيمة، فإذا انضم إليها ظلم الغير فكيف ستكون؟! فيالخسارة هؤلاء! اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، واستبدلوا المغفرة بالعذاب. إنْ غفر الله لهم ما بينه وبينهم، فكيف بحقوق العباد التي لا يغفرها الله إلا إذا تنازل أصحاب الحقوق عنها؟.
وكلُ إنسان يوم القيامة أحوجُ ما يكون إلى أن يزاد له حسنة، وتوضع عنه سيئة، فيا ترى كيف سيتنازل المظلوم عن حسنات كثيرة تؤخذ من الظالم فتضاف إلى رصيده؟ ما أشد غبن هؤلاء لو كانوا يفقهون النصوص الشرعية!.
ومع هذا الوعيد في الآخرة فإن الظالم متوعَّدٌ بالانتقام منه في الدنيا، وقد يقع العبد في الظلم فلا يعاقبُ سريعاً بل يمهله الله تعالى، فيتمادى في ظلمه وغيه، ويأمن مكر الله وعقوبته، وما كان الله تعالى لينساه أو يتركه؛ بل يؤخره، حتى إذا أخذه لم يفلته، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102]" متفق عليه.
أيها الإخوة: اتقوا الظلم، وحاسبوا أنفسكم؛ فإن العبد قد يقع في الظلم وهو لا يشعر أو لا يعلم بأن فِعله داخل في الظلم، كأن يكون مديراً أو مسؤولاً، فيفضل موظفيه على بعض، إما لقرابتهم منه، أو لمكانتهم في المجتمع، أو لصداقتهم ومجاملاتهم؛ فيعطيهم ما لا يعطي غيرهم من المراتب والوظائف والمهام، مع أن غيرهم أكثرُ كفاءة وإخلاصاً منهم، فهذا من الظلم العظيم.
وقد يستهين أصحاب الشركات والمؤسسات والبيوت بظلم أجرائهم وعمالهم وخدمهم، وتأخير حقوقهم، أو تكليفهم ما لا يطيقون، وذلك من الظلم.
وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن من الظلم تفضيل بعض الأولاد على بعض، وبعض الزوجات على الأخريات، واشتد تحذيره من ذلك؛ لمظنة كثرة وقوعه.
ومن الظلم حبسُ الآباء بناتهم عن الزواج أو تزويجهم من غير الأكفاء في الدين والأخلاق. وأكلُ مالِ اليتيم والأرملة ظلم، وعدم توريث النساء أو بخس حقوقهن من الميراث ظلم لا يرضاه الله ورسوله.
فاتقوا الله ربكم واحذروا الظلم، وحاسبوا أنفسكم، فعسى أن لا يكون العبد واقعاً في الظلم وهو لا يدري.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) [إبراهيم:43].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاعلموا أن دعوة المظلوم مستجابة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من تلك الدعوة؛ فقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه "... واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" متفق عليه.
وقد يَعْجَبُ بعضنا إذا علموا أن دعوة المظلوم الفاجر تقبل على الظالم الصالح، فقد يحصل من بعض من فيهم صلاحٌ وزيادةُ عبادة ظلم للغير في أمور مالية أو غيرها، وقد يكون من هؤلاء المظلومين فاجرٌ مقصرٌ في الطاعات مرتكب للمحرمات، فيدعو على ذلك الصالح فيستجيبُ الله دعوته؛ وما ذاك إلا لعظيم حق المظلوم عنده سبحانه وتعالى.
وليس فجور العبد مسوِّغاً لأن يظلم، بل حتى الكافر لا يجوز لأصلح الصالحين أن يظلمه؛ وإذا ظلمه باء بالإثم، وهذا من عدل الإسلام. أخرج أحمد بإسناد حسن من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً، ففجوره على نفسه".
والواقع يشهد لذلك؛ فما من أحد من الناس في الغالب إلا ويعرف حادثة أو أكثر دعا فيها مظلوم على ظالم فاستجيب له، والحوادث والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصر؛ روى الشيخان عن سعيد بن زيد أن أروى بنت أويس خاصمته في بعض داره فقال: "دعوها وإياها! فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أخذ شبراً من الأرض بغير حق طوقه في سبع أرضين يوم القيامة"، اللهم! إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واجعل قبرها في دارها، قال الراوي: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها".
وكان سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- والياً على الكوفة لعمر ابن الخطاب -رضي الله عنه-، فاشتكاه أهل الكوفة ظلماً وعدواناً حتى ادعوا أنه لا يحسن الصلاة، فأرسل رجالاً يسألون عنه، فأثنوا عليه معروفاً، حتى قام رجل يكنى أبا سعدة فقال: "إن سعداً كان لا يُسَيِّرُ السريَّة، ولا يقسم بالسويَّة، ولا يعدل في القضية. فقال سعد -رضي الله عنه-: أما والله لأدعو بثلاث: اللهم إن كان عبدُك هذا كاذباً قام رياءً وسمعةً فأطِلْ عمره، وأطل فقره، وعرِّضْه للفتن، وكان بعدُ إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني، دعوة سعد. قال عبد الملك: فأنا رأيته بَعْدُ قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن" أخرجه الشيخان.
وأفسدت امرأة على أبي مسلم الخولاني امرأته فدعا عليها فعميت، فأتته فاعترفت وتابت فقال: "اللهم إن كانت صادقة فاردد بصرها، فأبصرت".
وأخرج أبو نعيم أن رجلاً كذب على مطرف بن عبد الله وظلمه فقال مطرف: "اللهم إن كان كاذباً فأمِتهُ، فخر ميتاً مكانه، فرفع ذلك إلى زياد فقال: قتلت الرجل. قال: لا، ولكنها دعوة وافقت أجلاً".
والأخبار في ذلك تطول، العاقل يكفيه القليل منها، والمحروم لو سيقت له الأخبار كلها لم يعتبر بها؛ لاستحكام غفلته، وانطماس قلبه.
والمغبون من يخسر آخرته بعرض من الدنيا قليل، وربما خسر الدنيا مع الآخرة، فقد يطمع في شيء بسبب دعوة المظلوم التي أوقعه في شراكها الطمع والجشع.
ونعوذ بالله من نفس لا تشبع، وقلوب لا تخشع، وعيون لا تدمع، ودعاء لا يسمع؛ ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله كما أمركم بذلك ربكم...