الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات - الحكمة وتعليل أفعال الله |
وبما أن الشريعة الإسلامية هي خاتمةُ الشرائع؛ فإنها جاءت جامعةً مانعة لما يُحقِّق حفظَ هذه الضرورات بكل وجهٍ من الوجوه المُمكِنة، فقد يكون الحفظُ تارةً عن طريق النصوص الصريحة الصحيحة في كل ضرورة، وقد يكون في الإجماع أو القياس تارةً أخرى، كما أنه قد يكون تاراتٍ أخرى في قاعدةٍ مشهورة لا يمكن تجاهُلها، وهي القاعدة المعروفة بـ"سد الذرائع أو فتحها"، وهي التي تعنِينا في مقامنا هذا ..
الحمد لله وليِّ الصالحين، ذي القوة المتين، الرحيم الرحمن الحق المبين، خلق كلَّ شيء فقدَّره تقديرًا، (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد: 39]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله بالحق بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وجعلنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغُ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه، والعضِّ على دينه بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90].
أيها الناس: لا يشك أحدٌ ذو لُبٍّ يعِي ذو عينٍ ترمُق أننا نُعالجُ زمنًا اتَّسعت فيه الثقافات والمعارف بحلوها ومُرِّها، وزَيْنها وشَيْنها، وكبيرها وصغيرها، وسهُلت طريقة الوصول إليها حتى درجة الابتذال المُفقِد لقيمتها وأثرها، في صورةٍ لم تكن لمن قبلنا.
بَيْد أن القُرَّاء ليسوا كأولئك القُرَّاء، والمُفكِّرين ليسوا كأولئك المُفكِّرين؛ حيث إن هذا الاتساع برُمَّته لم يكن خيرًا كلُّه، كما أنه ليس شرًّا كلُّه، كما أن هناك خلطًا وعصفًا ذهنيًّا خارج طاوِلة الاختصاص، فأصبح الحديثُ عن المعارف والثقافات والمسائل وقضايا الناس العامة كلأً مُباحًا لكل أحد كيفما اتفق، فقلَّ الفقهاء، وضعُف المُدقِّقون ذوو الأفهام الذين يُحسِنون الربط بين المُتماثلات، والفرزَ بين المُختلِفات، فجُمِع بين المُتعارِضَيْن، وأُلِّف بين المُتناقِضَيْن قسرًا بلا مِعيار.
وإننا لو نظرنا نظرةً مُجملةً إلى الضرورات التي أجمعت الشرائعُ السماوية على حفظها وحمايتها لوجدناها خمسَ ضرورات، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعِرض، وأنه لا يمكن لأية شريعةٍ أن تُهمِل واحدًا منها، كما لا يمكن لأي مجتمعٍ بشري -أيًّا كان تديُّنه ومِلَّتُه ووعيُه- أن يُكتبَ له البقاء إذا لم يكن حفظُ هذه الضرورات غايةً من غاياته.
وبما أن الشريعة الإسلامية هي خاتمةُ الشرائع؛ فإنها جاءت جامعةً مانعة لما يُحقِّق حفظَ هذه الضرورات بكل وجهٍ من الوجوه المُمكِنة، فقد يكون الحفظُ تارةً عن طريق النصوص الصريحة الصحيحة في كل ضرورة، وقد يكون في الإجماع أو القياس تارةً أخرى، كما أنه قد يكون تاراتٍ أخرى في قاعدةٍ مشهورة لا يمكن تجاهُلها، وهي القاعدة المعروفة بـ"سد الذرائع أو فتحها"، وهي التي تعنِينا في مقامنا هذا.
فالذريعةُ -عباد الله- هي: ما كان وسيلةً وطريقًا إلى الشيء، وهذا هو أصلُها في اللغة، ولكنها صارت في عُرف الفقهاء عبارةً لما أفضَت إلى فعلٍ مُحرَّم، هذه هي الذريعةُ -يا رعاكم الله-.
وأما سدُّها؛ فإنه يعني: تركَ مباشرتها، أو الحيلولة بينها وبين المقصود المُحرَّم بحائلٍ مادي أو معنوي.
وإنه ما من شيءٍ في الشريعة الإسلامية إلا وهو راجعٌ إلى مسألة الذرائع سدًّا أو فتحًا؛ فالمُحرَّمات ذريعةٌ إلى النار، والواجبات والسنن ذريعةٌ إلى الجنة، فما أدى إلى الجنة من الذرائع فُتِح، وما أدى إلى النار سُدَّ.
وإذا علِمنا ذلكم -عباد الله- فلنعلَم أن قاعدة سد الذرائع وفتحها قد أوجزَ الحديثَ عنها العلامةُ ابن القيم -رحمه الله- في عباراتٍ مُوجزةٍ؛ حيث قال: "لما كانت المقاصد لا يُتوصَّل إليها إلا بأسبابٍ وطرقٍ تُفضِي إليها كانت طرقها وأسبابُها تابعةً لها مُعتبرةً بها، فإذا حرَّم الربُّ تعالى شيئًا وله طرقٌ ووسائل تُفضِي إليه فإنه يُحرِّمها ويمنع منها؛ تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعًا أن يُقربَ حِماه، ولو أباحَ الوسائل والذرائع المُفضِية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمةُ الله تعالى وعلمُه يأبى ذلك كل الإباء". انتهى كلامه -رحمه الله-.
ثم لتعلَموا -عباد الله- أن قاعدة سد الذرائع ليست بدعًا من المسائل، ولا هي ظنًّا أو خرصًا يُدلِي به الخرَّاصون، كلا؛ بل هي قاعدةٌ ثابتةٌ بالشرع والعقل:
فمن الشرع: قوله تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 108]، فنهى الله -جل وعلا- عن سبِّ آلهة المشركين -وإن كان فيه مصلحة- إلا أنه يترتَّب عليه مفسدةٌ أعظم منها، وهي: سبُّ المشركين اللهَ -عز وجل-، وهذا دليلٌ على منع الجائز إذا كان يُفضِي إلى محرَّم، ومنه: قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) [النور: 30]، وقوله: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) [النور: 31]، والنظرُ في حدِّ ذاته مُباح؛ بل هو نعمةٌ من الله على عباده، ولكن لما كان نظرُ الرجال إلى النساء ونظرُ النساء إلى الرجال وسيلةً قد تُفضِي إلى الفتنة أمر الله بغضِّ البصر إلى غير المحارم.
وقد جاء في سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما يدلُّ على ذلكم؛ فقد قال -صلوات الله وسلامه عليه-: "إياكم والجلوسَ في الطرقات". فقالوا: يا رسول الله: ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدَّث فيها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقَّه". قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟! قال: "غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". متفق عليه.
فانظروا -يا رعاكم الله- كيف نهاهم عن الجلوس في الطرقات مع أن أصل الجلوس مُباح؟! ولكنه إذا كان سبيلاً إلى النظر إلى ما حرَّم الله أو وقوع الأذى فإنه يُمنع سدًّا لذريعة المخالفة لأوامر الله ونواهيه.
وأما دليل سدِّ الذرائع من جهة العقل: فإننا نعجزُ جميعًا عن حصر ذلكم؛ بل لن نُبعِد النجعةَ لو قلنا: إن حياتنا اليومية مليئةٌ بقاعدة سد الذرائع أو فتحها، ولا يُنكِر ذلك إلا غِرٌّ مُكابِر.
ألسنا نمنع أطفالنا من تناوُل الحلوى سدًّا لذريعة التسوُّس؟! ألسنا نمنعُ قطع إشارات المرور سدًّا لذريعة الحوادث؟! ألسنا نمنعُ السرعة الجنونية سدًّا لذريعة الهلاك؟! ألسنا نمنعُ استهلاك العقاقير إلا بوصف الطبيب سدًّا لذريعة الوقوع في الخطر؟! وهكذا الأمر دوالَيك، لا نكاد نُصبِح ونُمسي إلا وتمرُّ بنا قاعدةُ سدِّ الذرائع في حياتنا، غير أن سوء فهم البعض لهذه القاعدة المهمة أنهم قصَروا المحرمات على ما جاءت به النصوص صراحةً فحسب، وهنا مكمنُ النقص؛ لأن بعض الأفهام لا تقنَع بمنعٍ أو تحريمٍ يخرج عن هذا الإطار؛ بل وصل الأمر ببعضهم إلى الهمز واللمز بمن يُعمِلون قاعدةَ سد الذرائع على وجهها الصحيح؛ حيث أصبحت إدانتُها وتهوينُها تُكأةً يتَّكِئُ عليها المُعارِضون لها، فلاكُوها بأفواههم وقد خلَت بها المثُلات، وتلاعَبَت بها أمواجُ التأويلات والآراء والأهواء.
وليس أساس البلاء في الشعارات، وإنما هو في الرُّؤى والمضامين، وقديمًا قيل: "تحت الرّغوة اللبنُ الصريح".
إنه لا أحد يستطيع أن يحيا على هذه البسيطة دون أن يتعامل مع قاعدة سد الذرائع وإحسان إيجادها في كل ضرورةٍ من الضرورات الخمس التي سبق ذكرُها، حسب ما تتطلَّبه حالُ كل ضرورة، ولو أخذنا بقول المُعارضين لقاعدة سد الذرائع لَما حرَّمنا المُخدِّرات، ولا غسيل الأموال، ولا الاتِّجار بالبشر، ولا أسلحة الدمار الشامل، ولا كثيرًا من أمثال ذلكم.
ثم إنه قد يُلاحِظ المتأمِّل أن القاسم المشترك بين تلكم الضرورات الخمس: هو عنصر الأمن، فلا تديُّن بلا أمن، ولا نفسٌ مستقرةٌ بلا أمن، ولا مالٌ ثابتٌ بلا أمن، ولا عقلٌ مُتَّزنٌ بلا أمن، ولا عِرضٌ سالمٌ من الأذى بلا أمن.
وهنا تبرُز الدقةُ في الفقه والإدراك للواقع الذي يُؤلِّف بينهما تحقُّق عنصر الأمن بوجود الشيء وعدمه، سواءٌ أكان أمنًا فكريًّا أم ماليًّا أم غير ذلك، وهذه مسألةٌ لا يُدرِكها إلا صيارفةُ الفقه والوعي للوقائع والمآلات الذين تحكُمهم المصلحةُ العامةُ لحماية كل ضرورة دون مُزاحمةٍ فكريةٍ مُعاكِسة، أو استفزازٍ إعلامي، أو حراكٍ ثقافيٍّ مُشوَّش، حتى يكون تكييفُ المسائل وإقرارُها بعيدًا عن أي مُشوِّش وجودًا وعدمًا، إيجادًا وسلبًا.
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يقضيَ القاضي وهو غضبان في مسألةٍ فرديةٍ حقوقية؛ فكيف بالقضايا الكِبار التي تمسُّ جميعَ شرائح المجتمع؟! وإنه متى وقع مثلُ ذلكم في الخائضين في مثل تلكم القضايا فسيكونون للزَّلَل أقرب، ومن الصواب أبعد؛ بل ربما صار بينهم وبين الصواب مفاوِزُ ومهامِه.
إننا بحاجةٍ ماسة إلى تهيئة أجواءٍ تُبرِزُ الفقهاء والمُفكِّرين والمُثقَّفين الذين تتوفَّر فيهم القوة الفقهية والقوة الواعية لما عليه الناس، وما عليه العصر؛ إذ هما مُتلازمان تلازمًا لا يجوز انفِكاكُه للفقيه والمُفكِّر والمُثقَّف الذي يريد أن يكون له أثرٌ في الأمة لِيُوجِد حلولاً لمُشكلاتهم، وليربِطَ بين أحكام الشريعة ومُستجدَّات العصر ونوازِله؛ ليُعلَم ما يصحُّ منها وما لا يصح، وهذا لا يكون إلا لمن جمع بين الدليل الشرعي وبين الواقع العملي.
ولهذا فرَّق الإمام القَرافيُّ -رحمه الله- بين أدلة الأحكام وأدلة وقوع الأحكام؛ إذ ما كل من علِمَ الحكمَ استطاعَ أن يُنزِّله على الواقع، كما أن من يعلم الواقع لا يستطيع أن يحكم عليه إذا لم يُتقِن الدليل.
ومن هنا جاء الانفكاك في كثيرٍ من مسائل العصر؛ فإما قوةُ فقهٍ تفتقِرُ إلى إدراكٍ لواقع الحال، أو فهمٌ واستيعابٌ لواقع الحال دون فقهٍ دقيق، وكلاهما مُؤخِّرٌ للوصول إلى مُبتغاه، ولذا كانت مواقف السلف الأفذاذ الذين أصَّلوا الشريعة وقعَّدوا لها القواعد المُنتظمة مع مقاصد الشارع الحكيم ظاهرةً جليَّة لكل سابرٍ لأقوالهم، فكان من أجمع ما ذكروه حول هذه القاعدة أن قالوا: إذا تعارَضت مفسدةٌ ومصلحة، فإن كانت المفسدةُ أقوى وجبَ درؤُها -وهذا ما يُسمَّى سدَّ الذرائع-، وإن كانت المصلحةُ أقوى وجبَ اختيارُها -وهذا ما يُسمَّى فتح الذرائع-.
ومن رزقه الله العلمَ والخشية رزقَه الله البصيرةَ والتوفيقَ: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن مسألة سد الذرائع وفتحها مسألةٌ جدُّ مهمة؛ لأنها تمسُّ كثيرًا من جوانب حياتنا، فإنه مُخطئٌ من يرُدُّها هكذا سبهللاً، ومُخطئٌ أيضًا من يأخذها على مِصراعَيْها دون ضبطٍ أو فقهٍ لمضامينها، والاعتدالُ هو أس الانضباط.
وقد قال الإمام القَرافيُّ -رحمه الله-: "إن الذريعة كما يجبُ سدُّها فإنه يجبُ فتحُها، ويُكرَه ويُندَب".
ويقصدُ بذلكم -رحمه الله- أنها تجري عليها الأحكام التكليفيةُ الخمسة، وهي: الوجوب، والتحريم، والكراهة، والندبُ، والإباحة، كل حالٍ بحسبها، غير أن هذا الفهم والإدراك لن يتمَّ لكاتبٍ ليس بفقيه، ولا لغَيورٍ ليس بفقيه، ولا لمُفكِّرٍ ليس بفقيه، ولا لإعلاميٍّ ليس بفقيه.
فيا ليتَ شِعري؛ هل نُدرِك جميعًا أن قضايانا الكِبار لا يصلُح لها إلا الكبار؟! حتى لا تزِلَّ قدمٌ بعد ثُبوتها، ولا يُنقَضُ غزلٌ من بعد قوةٍ أنكاثًا.
ولله! ما أحسن ما ذكره ابن تيمية -رحمه الله- في هذا الباب؛ حيث قال: "لقد تأمَّلتُ ما أوقعَ الناسَ في الحِيَل فوجدتُّه أحدَ شيئين:
إما ذنوبٌ جُوزوا عليها بتضييقٍ في أمورهم، فلم يستطيعوا دفعَ هذا الضيق إلا بالحِيَل، فلم تزِدهم الحِيَلُ إلا بلاءً، كما جرى لأصحاب السبت، وهذا الذنب ذنبٌ عمليٌّ.
وإما مُبالغةٌ في التشدُّد لما اعتقَدوه من تحريم الشارع، فاضطَّرهم هذا الاعتقادُ إلى الاستحلال بالحِيَل، وهذا من خطأ الاجتهاد، وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحلَّه له وأدَّى ما وجبَ عليه فإنه لا يُحوِجُه إلا الحِيَل المُبتدَعة أبدًا، فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرجٍ، وإنما بعثَ نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- بالحنيفية السَّمحة.
فالسببُ الأول: هو الظلم، والسببُ الثاني: هو عدم العلم؛ فالظلمُ والجهلُ هما وصفٌ للإنسان المذكور في قوله تعالى: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72]". انتهى كلامه -رحمه الله-.
وحاصلُ الأمر -عباد الله- أن أقوى الأسباب التي جعلت السلفَ الكرامَ يقولون بسدِّ الذرائع يرجعُ لأمورٍ ثلاثة:
أولها: كثرةُ الأهواء في الشهوات والشُّبهات.
وثانيها: كثرةُ الحِيَل وتتبُّعها للفرار من المُحرَّم.
وثالثُها: الموازنةُ الدقيقة التي تغيبُ عن كثيرٍ من المُتكلِّمين عن الحلال والحرام، وهي الموازنة بين المصالح والمفاسِد؛ حيث إن المقرر: أن درء المفاسد مُقدَّمٌ على جلب المصالح.
ووصيةُ إمامنا وقدوتنا -صلوات الله وسلامه عليه- قوله: "فمن اتقى الشُّبهات فقد استبرأَ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشُّبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعَى حول الحِمَى يُوشِك أن يرتعَ فيه". رواه البخاري ومسلم.
هذا؛ وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون-، فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56]، وقال -صلوات الله وسلامه عليه-: "من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا".
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.