الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
لم يكن صلى الله عليه وسلم متجبرًا متسلطًا، لم يكن متعطشًا لسفك الدماء، لم يكن لينتقم لنفسه، أو يتشفَّى من خصمه، ولو كان أسيرًا مربوطًا بين يديه, بل كان همهُ الأولُ أن ينقذ الله به العبادَ من النار، وأن تؤمن نفوسهم بالله الواحد القهار, وهكذا تكون الرحمة..
أما بعد: عنوان هذه الخطبة (الأمير الأسير).
من هو هذا الأمير؟ ولماذا أُسِر؟ وكيف كان حاله في الأسر؟
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث خيلاً قِبَل نجد (أي أرسل النبي سرية استطلاعية ناحية نجد، وكانت هذه السرية العسكرية بقيادة محمد بن مسلمة -رضي الله عنه-، فمرَّت السرية برجل من بني حنيفة يقال له: ثُمامة بن أُثال، كان طريقه إلى العمرة وهو على الشرك، فقبضت السرية عليه، وأُحضر إلى المدينة، وربطه الصحابة في سارية من سواري المسجد وهم لا يعرفونه، فلما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد عرف ثمُامة، فقال لهم: أَلاَ تَعرِفُونَ مَنْ هَذَا؟!، إِنِّهَ ثُمَامةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ اليَمَامَة، وأمر -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يحسنوا إليه.
ومر النبي -صلى الله عليه وسلم- بثُمامة فقال له: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامةُ؟", فقال: عندي يا محمدُ خيرٌ، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي حتى كان الغد, فقال له: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامًةُ؟", فقال له مثل ما قال، فتركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى كان اليوم الثالث فقال له مثل ما قال، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَطْلِقُوا ثُمَامةُ"، فأطلقه الصحابة، فانطلق ثمامة إلى نخل قريب من المسجد النَّبوي، فاغتسل، ثم دخل المسجد، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وقال: يا محمد والله ما كان على الأرض وجهٌ أبعضَ إلىَّ من وجهك، فقد أصبح وجهُك أحبَ الوجود كُلها إلىّ، والله ما كان من دينٍ أبغضَ إلىّ من دينك، فأصبح دينُك أحبَ الدين كلِه إلىَّ، والله ما كان من بلد أبغضَ إلىّ من بلدك، فأصبح بلدُك أحبَ البلاد كلها إلىَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا تأمرني؟, فبشره النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ قال: "لا, ولكنى أسلمتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله لا يأتيكم من اليمامة حبةُ حنطةٍ حتى يأذن فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وفى رواية ابن هشام في السيرة: أن ثمامة لما وصل بطن مكة رفع صوته بالتلبية, فكان أوَّلَ من لبَّى وجهر بالتلبية في مكة، فلما رأى المشركون رجلاً يتحداهم بهذه الصورة العلنية الجريئة قالوا: من هذا الذي يجترىء علينا ويرفع صوته بالتلبية في بلادنا وديارنا ويردد الكلمات التي يُعَلّمُهَا محمدٌ لأصحابه؟! فانقضوا عليه وأرادوا أن يضربوا رأسه، فقال أحدهم: ألا تعرفون من هذا؟ إنه ثمامة بن أُثال، سيد أهل اليمامة، وأنتم تحتاجون إلى اليمامة في طعامكم فخلُّوا سبيل الرجل، فخلَّوا سبيله.
قصَّةٌ عظيمةٌ، وحادثةٌ مؤثرةٌ، فيها الكثير من الدروس والعبر، الدرس الأول:
1/ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]:
هكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحمةً مهداةً ونعمةً مسداة، لا للموحِّدين فحسب، بل للعالمين أجمع.
لم يكن صلى الله عليه وسلم متجبرًا متسلطًا، لم يكن متعطشًا لسفك الدماء، لم يكن لينتقم لنفسه، أو يتشفَّى من خصمه، ولو كان أسيرًا مربوطًا بين يديه, بل كان همهُ الأولُ أن ينقذ الله به العبادَ من النار، وأن تؤمن نفوسهم بالله الواحد القهار, وهكذا تكون الرحمة.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "رسول الله رحمة للبَّر والفاجر، فمن آمن به تمت له النعمة، وتمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر أمن من عذاب الدنيا حتى يلقى الله في الآخرة؛ مصداقًا لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال:33]".
2/ الرفق والإحسان مفتاح القلوب:
تدبروا كيف حَوَّل رفقُه وإحسانُه -صلى الله عليه وسلم- البُغضَ المتأصِّلَ في قلب ثمامة إلى حب جياش فياض.
ما أحوجنا -يا عباد الله- إلى أن نعيَ هذا الدرس, إن العنف يهدم ولا يبنى، إن الشدة تفسد ولا تصلح, إن الرفق والإحسان هو الذي يفتح القلوب ويؤثر في النفوس.
أيها الداعية المسلم, أيها الشاب المسلم في ديار الغرب: إياك أن تصد الناس عن دين الله بسوء خلقك.
أيها الشاب المستقيم: يا من شرح الله صدره للالتزام بالدين، عليك بالرفق والإحسان، وإياك والعنف والإساءة إلى والديك أو أهلك أو أقاربك، وإن كانوا بعيدين عن الاستقامة، وتذكر أن مقام الدعوة يحتاج إلى الحلم والصبر، والحكمة والرحمة، كما هو هدي حبيبك -صلى الله عليه وسلم-.
لقد قرأ قتادة -رحمه الله- "(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طـه:43-44], فبكى وقال: سبحانك ما أحلمك، أن كنت تأمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولاً ليناً، فإن كان هذا هو حلمك بفرعون الذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعـات:24]، فكيف يكون حلمك بعبد قال سبحان ربي الأعلى؟!".
والنماذج كثيرة في رفقه وحلمه -صلى الله عليه وسلم- بالمدعوين.
ففي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم -رضي الله عنه- قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجلٌ من القوم فقلت يرحمك الله, فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وَاثُكْلَ أُميَاه! ما شأنكم تنظرون إلىَّ، فجعلوا يضربون بأيدهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصَمِّتُونَني لَكِنِّي سَكَتُ، فلما صلى رسول الله فبأبي هو أمي! ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن منه تعليمًا، فوالله ما كَهَرَنَي ولا ضَرَبَني ولا شَتَمنَي وإنما قال: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة وأنس -رضي الله عنهما- بينما نحن في المسجد مع رسول الله إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال الصحابة: مه مه (يعني ماذا تصنع) فقال المصطفى: "لَا تُزْرِمُوهُ, دَعُوهُ", فتركوه حتى بال، ثم نادى عليه وقال له: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ -عزَّ وجل- وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ", وصح عند ابن ماجه وأحمد أن الأعرابي قال: فقام إلي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي فلم يؤنِّب، ولم يسبْ، ولم يضربْ", وعند البخاري: أن الأعرابي قام يصلي فقال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "لقد حَجَّرْتَ واسعًا"، يريد رحمة الله.
ومن النماذج العظيمة لرفقه وحلمه -صلى الله عليه وسلم- ما رواه ابن حبان والحاكم والطبرانيُّ بسندٍ رجاله ثقات عن عبد الله بن سلام أن حبر اليهود زيد بن سَعْنَة اشترى من النبي -صلى الله عليه وسلم- حائطًا إلى أجل معلوم، بثمانين مثقالاً من ذهب فدفعها صلى الله عليه وسلم كلَّها إلى قوم يتألَّف قلوبهم، قال زيد بن سعنة: وقبل أن يحل وقت السداد رأيت محمدًا في نفر من أصحابه، بعد أن صلى على جنازة رجل من الأنصار، يجلس إلى جوار جدار، فأقبلت عليه، وأخذت النبي من مجامع ثوبه و قلت له: أدِّ ما عليك من دَيْنٍ يا محمد فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلا مُطْلاً!! فالتفت عمر إلى اليهودي وهو لا يعرفه وقال: يا عدو الله، تقول لرسول الله ما أسمع، وتفعل برسول الله ما أرى، والله لولا أنى أحذر غضبه، لضربت رأسك بسيفي هذا، فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عمر، فقال له: "أَنَا وَهُو يَا عُمَرُ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْكَ، أَنْ تَأْمُرِنَي بحسْنِ الأَدَاءِ، وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التَّقَاضِي، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فَاقْضِهِ حَقَّهُ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ جَزَاءَ مَا رَوَّعْتَهُ", يقول زيد: فأخذني عمر فأعطاني حقِّي وزادني عشرين صاعًا من التمر, فقلت له: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أزيدكها جزاء ما روعتك, فقال زيد بن سعنه: ألا تعرفني يا عمر؟ قال: لا، قال: أنا زيد بن سعنة، قال عمر: حبر اليهود؟ قال: نعم, قال عمر: فما الذي حملك على أن تفعل برسول الله ما فعلت؟ قال زيد: يا عمرُ والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أعرفهما فيه، الأولى: يسبق حلمُه جهلَه، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، أما وقد عرفتهما اليوم، فإني أشهدك أني قد رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً، وعاد زيد مع عمر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد فقال: أشهد أن لا أله الله وأن محمد رسول الله، وشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشاهد والغزوات حتى قتل شهيدًا في غزوة تبوك.
عباد الله: هكذا كانت أخلاقه -صلى الله عليه وسلم-، إن المنهج النظريَّ في التربية والأخلاق سيظل حبرًا على ورق مالم يتحول إلى واقع عمليٍّ ومنهج سلوكيٍّ في حياة الناس.
3/ من يحمل هم الإسلام؟
انظر إلى ثمامة -رضي الله عنه- وهو السيد المطاع في قومه، لما شرح الله صدره للدين وضع كل قدراته وطاقته لنصر الدين، فاستشعر المسئولية العظيمة منذ أول لحظه دخل فيها إلى الإسلام، وأعلن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وأعلن البراءة من الشرك والمشركين، وقطع التبادل التجاري مع عدو النبي -صلى الله عليه وسلم-، كل ذلك حبًا لله ورسوله ونصرةً لدينه.
إن نصرة الإسلام والمسلمين في شتى الميادين واجب على كل مسلم، دفاعًا عن الإسلام، وعن القرآن، وعن جناب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتبنيًا لقضايا المسلمين، ونصرةً للمستضعفين في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من بلاد المسلمين, وليس الأمر كما يرى الدكتور المأفون، المتروك غير المحمود، حينما قال قبل أيام: "لا إسرائيل أكبر همنا، ولا قضية فلسطين منتهى غايتنا", وهذا والله من علامات الذل والهوان، ودلائل ضعف الإيمان، والله المستعان.
أقول: ومن أنواع نصرة الدين وهو الدرس الخامس:
4/ السلاح الاقتصادي:
لقد قام ثمامة -رضي الله عنه- بعد إسلامه بتطبيق ما يسمى بالحصار الاقتصادي للعدو، وقد أضر هذا الحصار بقريش بسبب الجوع والشدة، حتى استجاروا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- واستعطفوه على الرغم من عدائهم له فقالوا: إنك تأمر بصلة الرحم وإن ثمامة قد منع عنا المِيرة من اليمامة، فإن شئت فاكتب إليه ليخلي بيننا وبين الميرة، فما كان من نهر الرحمة وينبوع الحنان -صلى الله عليه وسلم- إلا أن كتب إلى ثمامة أن يرفع الحصار ففعل ثمامة.
وفي هذا الدرس إشارة إلى أن السلاح الاقتصادي من أخطر الأسلحة، وهو اليوم من الأسلحة الدولية الفعَّالة، ويوجه كثيرًا وللأسف إلى العديد من البلاد المسلمة لإذلال المسلمين والتحكم في بلادهم.
ومع هذا نقول: إنه على الرغم من تخلف المسلمين وضعفهم وتفرقهم -وللأسف- فإن بيدهم من الأوراق الاقتصادية ما هو مصدر من مصادر قوة الغرب، وله أثره الكبير على حياتهم.
وقد علمتنا الأزمة الاقتصادية الأخيرة، أن الغرب لا غنى له عن المسلمين أو بعض المسلمين، فالأموال التي تحرك دفَّة الاقتصاد في البنوك شرقًا وغربًا جزء منها أموال إسلامية، وهي مؤثرة بلا شك، والنفط والطاقة -التي هي شريان الاقتصاد والصناعة اليوم- أكثرها من ثروات بلاد الإسلام.
وقد رأينا هذه الأيام اعتراف الدول الكبرى بالدورِ الهام لبعض الدول التي يقال عنها نامية، وأثرِها في الاقتصاد العالمي، والمؤتمرات ذات القرارات العالمية، ومنها بلادنا -حرسها الله-.
وتبقى الورقة الاقتصادية مصدر قوة وضغط بيد دولنا الإسلامية وساستها متى ما كانوا على قلب واحد، واقتضت مصلحة الأمة وقضاياها هذا الأمر، ولا ننسى ما حل بدول الغرب حينما قطعت عنها حرب العاشر من رمضان عام 1393هـ، حينما قطعت الدول العربية إمداد النفط عن الدول التي تساعد إسرائيل وعلى رأسها أمريكا, في موقف لن ينساه التاريخ لحكيم العرب الملك فيصل -رحمه الله وطيب ثراه-, نسأل الله -تعالى- أن يصلح أحوال المسلمين ويهديهم رشدهم، ويكفيهم شر أعدائهم وشر سفهائهم.
الخطبة الثانية
5/ لماذا يبغضون الإسلام؟
تقدَّم في القصة أن ثمامة -رضي الله عنه- قَبْل إسلامه تأصَّل البغض في قلبه على النبي -صلى الله عليه وسلم- ودينه، كما هو متأصِّلٌ اليوم في قلوب كثير من أعداء الإسلام، فلماذا يبغضون الإسلام؟
وحتى نكون واقعيين نقول: ليسوا سواءً، نعم، هناك فئة جاحدة معاندة، تعادي الإسلام والمسلمين قصدًا وعدوانًا، وتمسكًا بعقائدها المنحرفة, وهناك فئة أخرى ربما تعادي الإسلام لأنها لم تعرف حقيقة الإسلام، فصورة الإسلام عندها مشوهة مُحرَّفة، بسبب الدعايات المغرضة وحملات التشويه العالمية للإسلام.
إنه لا بد من تغيير هذه الصورة المزيفة، وتصحيح المفاهيم، وتقديم الصورة الحقيقية للإسلام بسماحته وعدالته، دون تميع أو تنازل, ولا بد قبل ذلك أن نعود -نحن المسلمين-إلى الإسلام، ونحوِّله بسموه وعظمته إلى منهج حياة على أرض الواقع العملي، ونقول للبشرية: هذا هو ديننا، فإن القول إذا خالف الواقع والعمل بذر بذور النفاق في القلوب؛ كما قال علام الغيوب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف:2-3].
إن ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ثمامة من رفق وطيب لسان، وعفو وإحسان، كان كفيلاً بأن يفتت كل معاني البغض والكراهية في نفس ثمامة، لتتحول إلى حب جارف وقناعة تامة، وقبول لهذا الدين, ولنا في رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة.
وفي القصة بعض الدروس الفقهية، منها:
6/ جواز دخول الكافر المسجد للحاجة:
وقد ترجم البخاري على حديث ربط ثمامة في المسجد باب: (دخولِ المشركِ المسجدَ).
وفي ربط ثمامة في المسجد حكم عديدة: ليرى ثمامة بعينيه وليسمع بأذنيه عظمة هذا الدين، وكلام رب العالمين، ويرى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويسمع كلامه، ويلمس أخلاقه مع أصحابه -رضي الله عنهم-.
7/ جواز الْمَنّ عَلَى الْأَسِير الْكَافِر والعفو عنه دون مقابل، إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك.
8/ استدل بالحديث من يرى وجوب الِاغْتِسَال عِنْد الْإِسْلَام، والصحيح أن الاغتسال عند الإسلام ليس بواجب، كما يدل عليه إسلام الجموع الغفيرة يوم الفتح ولم ينقل أنهم أمروا بالغسل.
9/ في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمامة بالعمرة دليل على أن الْكَافِر إِذَا أَرَادَ عَمَل خَيْر ثُمَّ أَسْلَمَ شَرَعَ لَهُ إتمام عَمَل الْخَيْر.
10/ وأخيرًا: البشارة للتائبين:
فقد جاء في الحديث أن ثمامة -رضي الله عنه- لما أعلن إسلامه بشره النبي -صلى الله عليه وسلم-،بشره بماذا؟
قال الحافظ ابن حجر: "أي بخيري الدنيا والآخرة، أو بشَّره بالجنة، أو بمحو ذنوبه وتبعاته السابقة"أهـ.
ما أعظمَ هذه البشارة، وما أعظمَ التوبة التي حوَّلت هذا السيد الأمير، ثمامة بن أثال، من عدو مبغض لله ورسوله -صلى الله وعليه وسلم- ودينه، إلى صحابي جليل، لم يزل على إسلامه، وثبت عليه لما ارتد قومه من أهل اليمامة بعد وفاة النبي -صلى الله وعليه وسلم-، ثم ارتحل هو ومن أطاعه من قومه فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه.
فالتوبةَ التوبةَ أيها المذنبون، وكلنا مذنبون, يامن أثقلته الذنوب, وصدَّته عن الله -علام الغيوب-, متى ما تبت إلى الله توبة نصوحًا، فأبشر بالعفو والمغفرة, أبشر بخير الدنيا والآخرة, أبشر بدخول الجنات، وغفران السيئات، وتبديلها حسنات, (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].