الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
البحث
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحج |
لقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة ما عليه أهل الجاهلية من الكتابيين والأميين ، مما لا غنى للمسلم في أن ينبذها وينأ بنفسه عن الوقوع في هوتها ، وأن ينسل بنفسه ، عن أشدها خطرا وآكدها ضررا ، وهو عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
أما بعد :
فوصيتي لنفسي ولكم عباد الله هي تقوى الله سبحانه ، في السر والعلن ، والسفر والحضر ، والفرح والحزن، في خلواتكم وجلواتكم إن الله يحب المتقين .
أيها الناس:
لقد ابتليت المجتمعات الجاهلية في غابر الأزمان ، برجس الأصنام والوثنية ، والخمر والميسر، والأنصاب والأزلام، يتخرج منها رجال ونساء ، في الشرك والتضليل ، والجهالة والعبْيَّة الجاهلية ، حتى لقد أصبحت مقاصد الحج عندهم عبارة عن تجمعات مكثفة ، في سوق عكاظ، يقصدها الناس من شتى أنحاء البلاد ، وكان يقام فيها السوق شهر ذي القعدة نحوا من نصف شهر ، ثم يأتون بعد ذلك موضعا دونه إلى مكة ، يقال له: سوق مجنة ، فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر، ثم يأتون موضعا قريبا منه ، يقال له: ذو المجاز، فيقام فيه السوق إلى يوم التروية ، ثم يصدرون إلى منى.
كانت تجتمع في هذه الأسواق قبائل العرب ، ووفود ملوكهم ، بالهدايا والقرابين إلى الأصنام ، يتناشدون الأشعار ، ويفتخرون بالسلب والنهب ، وقتل الأنفس البريئة دون ما ذنب أو جريمة، ويمارسون وأد البنات إبان حياتهن ، ويعدون ذلك من المكرمات ، التي تهون دونها الحرمات.
عباد الله:
لقد كانت مواقف الجاهلية في الحج ، مواقف مخزية ، إنما هي خليط ممزوج، من الأضداد والمتناقضات ، يظهر ذلك جليا في بعض المواقف المتكررة، ومن ذلك مثلا تلبيتهم في الحج، التي يخلطون معها الشرك فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.
وكانت قبيلة عك إذا خرجت حاجة ، قدمت أمامها غلامين أسودين من غلمانهم، فكانا أمام ركبهم فيقولان: نحن غرابا عك، فتقول عك من بعدهما : عك إليك عانية ، عبادك اليمانية ، كيما نحج الثانية، هذه هي تلبيتهم.
ولقد كانت قريش ومن دان بدينها ، يقفون بالمزدلفة ، وسائر العرب يقفون بعرفات، حتى أنزل الله على رسول (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [سورة: 199].
ومن مظاهر الجاهلية في الحج – عباد الله – ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما بقوله : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ، ويحمل الحمالات ، ويحمل الديات ، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [البقرة: من الآية200]
وفي خضم الجاهلية الجهلاء يمن الرب الرحيم القادر الحليم على عباده ، بالنبي الخاتم ذي النفس الطاهرة ، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، فأنزلت آيات الكتاب المتلوة ، وأبلغ الرسول دعوته ، فسمع الأصم نبراته ، وأبصر الأعمى آياته ، جاء البشير النذير والسراج المنير ، فاقتلع الوثنية من جذورها واستأصل شأفتها ، بعد أن سفه أحلامهم وعاب آلهتهم في مدة من الزمن وجيزة (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة:2].
ويمن الله عليه بفتح مكة ، وتحطيم ما فيها من أصنام وأوثان ، ثم يرسل أبا بكر في السنة التاسعة حاجا ، لينادي بالناس ، ألا يحج بعد العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان ، ثم يأتي صلوات الله وسلامه عليه حاجا في السنة العاشرة ، ليختم دعوته ، بلقاء حافل مع جموع المسلمين ، في عرصات المشاعر المقدسة ، ويقول لهم: "خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" ، وفي عرصات عرفة ، في اليوم الذي أكمل الله فيه دينه وأنزل قوله (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً) [سورة المائدة:3].
في يوم عرفة عباد الله ، يرى الحبيب صلى الله عليه وسلم أن هذا الجمع العظيم ، وهذه القلوب الصافية الخاشعة، فرصة عظيمة ؛ لأن تعي ما سيقول لها ، من قواعد عظيمة ، ربما عدوها وصية مودع مشفق ، فيقف على راحلته ، ويخطب الناس خطبته المشهورة ، كما جاء في السنن لأبي داود وابن ماجة وغيرهما ، فكان مما قال فيها: "ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمانا ، دم ابن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع كله ، وأول ربا أضع ربانا ، ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله .." الحديث.
إن هذه الكلمات ، المنبعثة من، مشكاة النبوة ، ليؤكد المصطفى صلى الله عليه وسلم حتمية المخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية ، ويبين بذلك أن مسمى الجاهلية ، يعني أن يكون الأمر إسلاما أو لا إسلام ، فالجاهلية والإسلام أمران نقيضان ، لا يمكن أن يجتمعا في نفس واحدة البتة .
إن كلمة الجاهلية ، لم تكن نشازا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا وكلا ، بل هي كلمة مطروقة ، تكرر ذكرها في غير ما موضع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقد قال سبحانه (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة: 50]. وقال عز وجل (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)[آل عمران: 154]. ويقول جل شأنه (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب: 33].
ويقول أيضا (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) [الفتح: 26].
ولقد بوب البخاري في صحيحه بابا فقال : باب المعاصي من أمر الجاهلية . وذكر فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه لما عير رجلا بأمه "إنك امرؤ فيك جاهلية" ، قال الحافظ ابن حجر: إن كل معصية تؤخذ ، من ترك واجب أو فعل محرم فهي من أخلاق الجاهلية .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال :قال رجل: يا رسول الله ، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال: "من أحسن في الإسلام ، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر " رواه البخاري ومسلم .
وقد قال ثابت بن الضحاك رضي الله عنه: نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ " قالوا :لا ، قال : "فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " قالوا : لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوف بنذرك …" الحديث ، رواه أبو داود .
فيؤخذ من هذا الحديث وغيره – عباد الله – التحذير الشديد من أمور الجاهلية ، أو مشابهة أهلها ، في أي لون من ألوانها ، كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ألا إن كل شيء من أمور الجاهلية تحت قدمي موضوع" ، ولو لم يكن من ازدرائها وشناعة قبحها ، إلا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنها تحت قدميه لكفى .
لقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة ما عليه أهل الجاهلية من الكتابيين والأميين ، مما لا غنى للمسلم في أن ينبذها وينأ بنفسه عن الوقوع في هوتها ، وأن ينسل بنفسه ، عن أشدها خطرا وآكدها ضررا ، وهو عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ناهيكم عما ينضاف إلى ذلك ، من استحسان ما عليه أهل الجاهلية ، الذي تتم به الخسارة والبوار كما قال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [العنكبوت: من الآية52]. (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران:83].
عباد الله:
إن مسائل الجاهلية برمتها ، قد بسطها أهل العلم في كتبهم ، وسطروها بأقلامهم وألسنتهم ، حتى لقد أوصلها بعضهم إلى مائة وثلاثين مسألة ، وهي إلى الثلاثمائة أو تزيد أقرب .
وإن من أعظم التشبه، بما كان ، عليه أهل الجاهلية، وأكثرها إيقاعا للخلل في دين الناس ودنياهم، أمورا ثلاثة:
أولها: أن كثيرا من الناس يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته ، يريدون شفاعتهم عند الله في حين أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ؛بل إنهم لأحوج إلى عفو الله ورحمته من أولئك الذين يدعونهم ؛ كما قال سبحانه (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) [الإسراء:57].
وهذه – عباد الله – هي أعظم مسألة خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان عليه أهل الجاهلية ، وعندها بدت بينه وبينهم العداوة والبغضاء أبدا حتى يؤمنوا بالله وحده ، ومن هنا افترق الناس إلى مسلم وكافر ، ولأجل هذه القضية العظمى شرع الجهاد في سبيل الله (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ) [البقرة :193].
وثاني الأمور الثلاثة : هو أن أهل الجاهلية ، متفرقون في دينهم ودنياهم ، وهم في ذلك فرق وأحزاب ، كل حزب بما لديهم فرحون ، كل منهم يرى أنه على الحق دون سواه ، فمحق الخير ، وأحيي الشر ، حتى أصبح المرء لا يعرف إلا نفسه ، ولا يهتاج بالفرح والحزن ، إلا لما يمسه هو من خير أو شر ، فماتت العاطفة ، وقل الاكتراث المبتوت الصلة ، بمشاعر الأخوة الإسلامية العامرة .
فجاء الإسلام ودعا إلى الأخوة الدينية وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول ربه (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [سورة الشورى :13]. وتلا قول خالقه (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام: 159].
ويعلن المصطفى صلى الله عليه وسلم قولته المشهورة : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " رواه مسلم .
ويكون بذلك مؤكدا أخوة الدين ، التي تفرض تناصر المؤمنين المصلحين ، لا تناصر العبية العمياء ، والجاهلية الجهلاء ، لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وإجارة المهضوم ، وإرشاد الضال ، وحجز المتطاول ، وهذا كله هو ثمرة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" رواه البخاري .
إن الله سبحانه رد أنساب الناس وأجناسهم إلى أبوين اثنين ، فهم جميعا من جهة التمثال أكفاء، أبوهم آدم وأمهم حواء ، وإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به ، فهو الطين والماء ، ليجعل الله من هذه الرحم ، ملتقى تتشابك عنده الصلات وتستوثق العرى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13].
إنه التعارف لا التفاخر ، والتعاون لا التخاذل ، وأما الشرف والرفعة فإنما هو في قوة الدين ، وتمكن التقوى من قلب العبد ، في إزالة الفوارق البشرية ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراف قريش ، يقف مع الناس ويقول لقومه (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [البقرة: من الآية199]. تحقيقا للمساواة بين المسلمين ، وكان الرجل من أشراف قريش يأنف أن يزوج ابنته أو أخته من الرجل من عامة الناس ، فيأتي رسول الله ويزوج ابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية ، من مولاه زيد بن حارثة ، ويقول صلى الله عليه وسلم عن رجل من أصحابه: "يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه " ، وقد كان حجاما رضي الله عنه، رواه أبو داود والحاكم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10].
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد البشر ، والشافع المشفع في المحشر ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر.
أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن ثالثة الأثافي من أمور الجاهلية : هي ديدن الجاهلية ، المتمثل في ظنهم المقلوب ، أن مخالفة ولي الأمر ، وعدم الانقياد له ، فضيلة ورفعة ، وأن السمع والطاعة والانقياد ، ذل ومهانة ، ونقص في الرجولة والعلم ، فخالفهم المصطفى صلى الله عليه وسلم وأكد على مخالفتهم في ذلك ، بالسمع والطاعة في المنشط والمكره ، للولاة الشرعيين بالبيعة الشرعية ، وأمر بالصبر على جور الولاة ، وعدم الخروج عليهم ، مع بذل النصح والإرشاد لهم ، فغلظ في ذلك وأبدى وأعاد ، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ؛ حيث يقول : "من كره من أميره شيئا فليصبر ، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية " رواه البخاري ومسلم .
فهذه الأمور الثلاثة التي مضت ، جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن الله يرضى لكم ثلاثا : ألا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " رواه أحمد .
وإن مما ينبغي التنبيه إليه عباد الله ، هو ما وقع فيه كثير من الناس في هذا العصر إلا من رحم الله ، من التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم و التراضي بأحكام البشر وقوانينهم ودساتيرهم ، وهذا وربي هو عين فعل الجاهلية (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة: من الآية50].
لقد أنكر سبحانه ، على من خرج عن حكمه ، المشتمل على كل خير ، الزاجر عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من قوانين البشر وأعرافهم ، التي وضعها رجالهم بلا مستند أو أثارة من علم ، كما كان عليه أهل الجاهلية الأولى ، وكما كان يحكم به التتار ، من السياسات المأخوذة عن سلاطينهم ، والتي اقتبسوها من شرائع شتى ، كاليهودية والنصرانية وغيرها ، فصارت فيمن بعدهم شرعة متبعة ، يقدمونها إلى الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يصف أمثالهم لبيد بن ربيعة ويقول :
من معشر سنت لهم آباءهم
وهم بذلك ، قد كفروا وجب قتالهم لأجله حتى يرجعوا إلى حكم الله ورسوله (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50].
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء:65].