القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | محمد بو سنه |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
عدوك الشيطان قد أقسم لأبيك آدم وأمك حواء أنه لهما لمن الناصحين، وقد علمت كذبه وغشه، ورأيت فعله بهما، وأما أنت فقد أقسم أن يغويك كما قال: (فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، فالعجب ممن يصدق عداوته، ويتبع غوايته ولا يحذر من مكايده، واعلم أنه قد قعد لك على كل طريق وسبيل تسلكه، فإنك تارة تأخذ على جهة يمينك وتارة على شمالك وتارة أمامك وتارة ترجع خلفك ..
قال الله تعالى إخبارًا عن عدوه إبليس حين سأله عن امتناعه عن السجود لآدم وأنه احتج لذلك بأنه خير منه، سأله إبليس أن ينظره إلى يوم القيامة فأنظره، ثم قال عدو الله: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16، 17].
اعلم -يا عبد الله- أن عدوك الشيطان قد أقسم لأبيك آدم وأمك حواء أنه لهما لمن الناصحين، وقد علمت كذبه وغشه، ورأيت فعله بهما، وأما أنت فقد أقسم أن يغويك كما قال: (فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص: 82]، فالعجب ممن يصدق عداوته، ويتبع غوايته ولا يحذر من مكايده، واعلم أنه قد قعد لك على كل طريق وسبيل تسلكه، فإنك تارة تأخذ على جهة يمينك وتارة على شمالك وتارة أمامك وتارة ترجع خلفك، فأي سبيل سلكته من هذه وجدت الشيطان عليها يترصد لك، فإن سلكتها في طاعة الله، وجدته عليها يثبطك ويشغلك عنها، ويبطئك حتى تتركها، وإن سلكتها في معصية الله وجدته عليها خادمًا ومعينًا ومزينًا لها، ويشهد لهذا المعنى قوله سبحانه: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) [فصلت: 25]، أي ألزمناهم قرناء من الشياطين فزينوا لهم الدنيا حتى آثروها على الآخرة، ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة والإعراض عنها.
فزينوا لهم ما مضى من خبث أعمالهم، فلم يتوبوا منها، وزينوا لهم ما يستقبلون من أعمالهم الباطلة، وما يعزمون عليه فلا ينوون تركه. وهكذا يفعل عدو الله ويلبس على الناس ويكيد لهم حتى يجعلهم في حزبه أصحاب السعير.
ولكي تحذره -يا عبد الله- عليك أن تعرف مكايده وحيله التي يصل بها إلى تحقيق غايته، وهي إضلال الناس وغوايتهم وإدخالهم النار.
فمن كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد أخبرنا الله تعالى عنه فقال: (إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175]، فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم.
ومن مكايد عدو الله أنه يسحر العقل دائمًا حتى يتغلب عليه، ولا يسلم من سحره هذا إلا من شاء الله، فتراه يزين ويحسن له الفعل الذي يضره حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء، وتراه يقبح له الفعل الذي ينفعه حتى يخيل إليه أنه يضره. فكم فتن بهذا السحر من إنسان، وكم حيل به بين القلب وبين الإسلام، وكم أظهر الباطل في صورة حسنة، وأخرج الحق في صورة قبيحة، فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أصحابها في البدع والخرافات، بل زين لهم عبادة الأصنام والقبور وقطع الأرحام، ووعدهم الفوز بالجنات مع الكفر والفسوق والعصيان، فهو صاحب قابيل حين قتل أخاه، وصاحب قوم نوح حين أغرقوا، وقوم عاد حين أهلكوا بالريح العقيم، وصاحب قوم صالح حين أهلكوا بالصيحة، وصاحب قوم لوط حين خسف بهم، وأتبعوا بالرجم بالحجارة، وصاحب فرعون وقومه حين أخذوا فأغرقوا، وصاحب بني إسرائيل عبّاد العجل حين جرى عليهم ما جرى، وصاحب قريش حين أخرجهم الله يوم بدر، وهكذا لا يزال عدو الله يصاحب كل هالك ومفتون إلى قيام الساعة.
وأول مكره وكيده -لعنه الله- أنه كاد آدم وحواء بالأيمان الكاذبة أنه ناصح لهما، بأنه إنما يريد خلودهما في الجنة؛ قال تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) [الأعراف: 20-22]. فعلم عدو الله أنهما إذا أكلا من الشجرة بدت لهما عوراتهما، وهذه معصية، والمعصية تهتك ستر ما بين الله وبين العبد، فلما عصيا انتهك ذلك الستر فبدت لهما عوراتهما.
فالمعصية تبدي السوأة الباطنة والظاهرة، ولهذا رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه الزناة والزواني عراة بادية سوآتهم، ومن هذه الرؤيا قيل: إنه إذا رأى الرجل أو المرأة في منامه أنه مكشوف عارٍ دلّ ذلك على فساد في دينه ينبغي عليه أن يراجع نفسه، فإن الله سبحانه أنزل لباسين: لباسًا ظاهرًا يستر العورة ولباسًا باطنًا من التقوى يجمّل العبد ويستره، فإذا زال عنه هذا اللباس انكشفت عورته الباطنة، كما تنكشف عورته الظاهرة إذا نزع ما يسترها.
ولما أحس عدو الله من آدم وحواء أنهما يريدان الخلود في تلك الدار في النعيم المقيم دخل عليهما من هذا الباب، فإنه باب كيده الأعظم الذي يدخل منه على ابن آدم، وعلم إخوانه وأولياءه من الإنس أنهم إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من الصالحين أن يدخلوا عليهم من الباب الذي يحبونه ويهوونه.
ثم أقسم لهما كاذبًا أنه يريد لهما النصح والخير، فغرّهما وخدعهما بأن سمى تلك الشجرة التي حذرهما الله من أن يأكلا منها سماها شجرة الخلد.
وهكذا يسمي أتباعه الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبها النفوس وتقبلها حتى سمّوا الخمر بأم الأفراح أو بالمشروبات الكحولية، وسمّوا الميسر والقمار بلقمة الراحة، وسمّوا الربا بالفائدة، وسمّوا الغناء والرقص بالثقافة، وهكذا يلبّس عدو الله على الخلق ويزين لهم الباطل في صورة الحق حتى يطيعوه فيكونوا من أوليائه، نعوذ بالله منه ومن مكره وكيده وتلبيسه. والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
ومن كيد عدو الله العجيب أنه يتتبع النفس حتى يعلم أي القوّتين تغلب عليها: قوة الشجاعة، أم قوة الضعف والمهانة، فإن رأى الغالب على النفس الضعف زاد في إضعافها وثقّلها عن الواجب، حتى تتركه كله أو تقصر فيه وتتهاون به، وإن رأى الغالب عليها قوة الشجاعة والإقدام على الخير قال له: إن الذي تفعله من الخير قليل، ولا يكفيك، فتحتاج إلى مبالغة وزيادة حتى يوقعه في البدعة والغلو، ولأجل ذلك قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو وتعدٍّ على الحد المشروع.
وأكثر الناس قد أخذوا في هذين الواديين وادي التقصير ووادي التعدي والمجاوزة، والقليل منهم جدًّا من ثبت على الصراط الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
فقوم قصّر بهم الشيطان، فلم يأتوا بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم فيها إلى حد الوسوسة، وقوم قصّر بهم عن إخراج الزكاة حتى بخلوا بأموالهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا يسألون الناس ويطمعون فيما بأيديهم.
وقوم قصّر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من طعام وشراب ولباس حتى أضرّوا بأبدانهم وقلوبهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.
وقوم قصّر بهم في حق الأنبياء والعلماء حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى غلوا فيهم وعبدوهم.
وقصر بقوم في مخالطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات، فلا يأتون المساجد إلا في الجمعات أو الأعياد، وتجاوز بقوم حتى خالطوا الناس في الظلم والمعاصي والآثام.
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكلوها، وتجاوز بآخرين حتى اعتدوا على دماء الناس المعصومة.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم هو غايتهم دون العمل به.
وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الزواج، فرغبوا عنه، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا الفاحشة، وكذلك قصر باليهود في المسيح عيسى -عليه السلام- حتى كذّبوه ورموا أمه بما برّأها الله تعالى منه، وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله وجعلوه إلهًا يعبد مع الله.
وقصر بقوم حتى عبدوا الله بالنجاسات وهم النصارى وأشباههم، وتجاوز بآخرين حتى أدت بهم الوسوسة إلى درجة التشدد وهم أشباه اليهود.
وقصر بقوم حتى تزينوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات، حتى يمدحوهم، وتجاوز بقوم حتى أظهروا القبائح وتجاهروا بالفسق دومًا حياءً أو خوفًا.
وقصر بقوم حتى أهملوا قلوبهم وغفلوا عنها، وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم على القلوب ولم يلتفتوا إلى أعمال الجوارح.
وهذا الباب واسع جدًّا يدخل منه الشيطان ليمكر ويكيد بالإنسان، ولكي تسدّه عليه وتمنعه الدخول منه عليك أن تتبع الطريق الوسط الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم- في كل الأمور، فإن خير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور".
فاللهم أعذنا من الشيطان، وبصّرنا بمكره وكيده، واجعلنا في حصن منه.
وللحديث بقية في خطب لاحقة إن شاء الله، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.