الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
أما عباد الله المؤمنون، فهم على ربهم متوكّلون، قلوبهم به متعلّقة، ونفوسهم بفضله مطمئنة، قد علموا أن القوة لله جميعًا، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين، وأنه يدافع عن الذين آمنوا، وأنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فلم يشتغلوا إلا بطاعته وتقوية العلاقة به، قد شغلهم التوكل عليه عن التفكير بغيره، شعارهم الذي يرفعونه ويرددونه، بل عقيدتهم التي يعضون عليها بالنواجِذ ويصدعون بها في وجه ..
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -جلّ وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:28، 29]، اتقوا الله وآمنوا به وتوكلوا عليه، فالله يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2].
أيها المسلمون: وكلما ابتعد الناس من عهد النبوة واقتربت الساعة ازدادوا على الدنيا حرصًا ومن الله بعدًا، وكلما كان الأمر كذلك ضعف الإيمان في القلوب وقلّت التقوى، وازدادوا تمسّكًا بالأسباب المادية، وتعلّقًا بالدنيا تعلّقًا ينسيهم بعض ما هو من صميم عقيدتهم وأعظم واجبات دينهم، وإنه لم يكن المسلمون فيما مضى من عصور في حالة هي أضعف ولا أهون مما هم عليه اليوم، حيث تبايعوا بالعينة، واشتغلوا بالزرع، ورضوا بالدنيا، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، فسلّط الله عليهم ذُلاًّ لم يعرفوه على مدى التاريخ إلا قليلاً، وتكالب الأعداء عليهم من كل ناحية، واجتمعوا لحربهم من كل صوب، وتداعت عليهم الأمم كما تتداعى الأَكَلة على قَصْعَتها، بل سَلّط عليهم أذل أهل الأرض، وأحقر من وطئ ترابها وهم اليهود، فأي ذلة هي أشد من هذه الذلة؟! وأي مهانة هي أبلغ من هذه المهانة؟! وفي فترات الذل القصيرة التي كانت تمرّ بها الأمة في أزمنة مضت لم يكن الأمر يطول بهم حتى يقيّض الله لهم من يجدد لهم أمر الدين ويعلي راية الجهاد، فيعودوا إلى سالف عزتهم، ويرجعوا إلى ماضي قوتهم، يثخنون في الأعداء، ويحسّونهم بإذن الله.
أما في أزماننا المتأخرة فلقد طال السُّبَات، وامتدّ الرُّقاد، وسلك المسلمون طرقًا شتّى في سبيل استعادة الأمجاد، اتبعوا السبل وتفرقوا عن سبيل الله، وركنوا إلى الذين ظلموا، وخضعوا لأعداء الله، قدّموا التنازلات تلو التنازلات، وخُدِعوا بالمباحثات والمفاوضات، أعلنوا الاستسلام باسم السلام، وخذل بعضهم بعضًا في كل مقام، تفرّقت كلمتهم، وتنازعوا أمرهم بينهم، فنزع الله مهابتهم من صدور أعدائهم وذهبت ريحهم.
نعم -أيها الإخوة-، لقد ضعفت العقيدة في النفوس، واختُرِق حصن التوكل في كثير من القلوب، فتعلقت بغير الله وتوكلت على الأسباب المادية، بل توكلت على أعداء الله واطمأنت إليهم من دون الله.
ولو نظرنا في واقع كثير من ضعفاء الإيمان في هذه الأزمان، وتفكّرنا في حديث مجالسهم وما يشغل نواديهم، لوجدناه يدور حول قوة الغرب وهيمنة أمريكا، وتفكير صاحبة القوة العظمى بضرب الدولة الفلانية، أو عزمها على تحطيم دفاع الدولة العلانية، يتحدث جبان عن قوات الغرب التي ملأت الخليج، ويعلّق رِعْدِيد على ما لها من وراء ذلك من الأهداف والأطماع، ويستمع خائف لهذه التحليلات الباردة، ويصدق وَجِلٌ هذه التخرّصات الفاسدة، متابعة على تخوّف للقنوات، وتوقّعات وتكهّنات، وتصديق لما يبثه المنافقون والمُرْجِفون، قلوب من الإشفاق وَجِلة، وصدور بما يُحَاك ضائقة، مُحَلِّل للأحداث يقول: إنا لفي وضع عَصِيب! ومُرْجِف يقول: أنّى لنا بمواجهة أسلحة الدمار الشامل؟! (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) [المائدة:52].
أما عباد الله المؤمنون، فهم على ربهم متوكّلون، قلوبهم به متعلّقة، ونفوسهم بفضله مطمئنة، قد علموا أن القوة لله جميعًا، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين، وأنه يدافع عن الذين آمنوا، وأنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فلم يشتغلوا إلا بطاعته وتقوية العلاقة به، قد شغلهم التوكل عليه عن التفكير بغيره، شعارهم الذي يرفعونه ويرددونه، بل عقيدتهم التي يعضون عليها بالنواجِذ ويصدعون بها في وجه كل معتد ومتكبر: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) [التوبة:51، 52]، مردّدين قول ناصرهم ومولاهم: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [الطارق:15-17]، لا يخيفهم مكر ماكر أو تهديد كافر، ولا يأبهون لما يكيده الكائدون أو يدبره الكافرون، سلفهم في ذلك نبيهم ورسولهم الذي حاول الكفار في عصره أن يمكروا به، وبذلوا لذلك ما في وسعهم من الوسائل، فخابوا بحمد الله وخسروا: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30]. وقبله إمام الموحّدين الخليل -عليه السلام- إذ تآمر عليه أهل الأرض في زمانه، وقالوا: حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين، فما زاد على أن قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجاءه المدد ممن بيده ملكوت كل شيء: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:70-72].
أيها المسلمون: إن التوكل على الله من أهم المهمات وأوجب الواجبات، بل هو نصف الدين وجماع الإيمان. ومما يدل على فضله وعلو منزلته أن الله أمر به في أكمل الأحوال والعبادات، فأمر به في مقام العبادة فقال: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود:123]، وأمر به في مقام الدعوة فقال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة:129]، وورد ذكره في مقام الحكم والقضاء، قال -عز وجل-: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [الشورى:10]، وورد ذكره في مقام الجهاد وقتال الأعداء، قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:121، 122]، فمع أنه -صلى الله عليه وسلم- يعد العدّة ويرتب الجيش ويعيّن الأماكن ويصفّ الصفوف، فقد أُمِر مع ذلك بالتوكل على الله، فالنصر بيد الله حتى ولو أُخِذت الأسباب، والتأييد من عنده مهما ادْلَهَمّت الخطوب وقوي شأن الأعداء، فأين من ذلك من يتوكلون على أعداء الله، ويركنون إليهم، ويفرحون بتأييد دولة الكفر لهم ورضاها عنهم، ويخافون سطوتها، ويخشون تهديدها؟!
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المائدة:11]، وقال تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [الأنفال:61]، فالتوكل على الله باقٍ حتى ولو وضعت الحرب أوزارها، وحتى لو خَنَع العدو وخضعوا وضعفوا وطلبوا السلم؛ لأن ذلك قد يكون منهم خدعة ومراوغة للمسلمين. وفي قصة موسى -عليه السلام- عندما قال المتخاذلون: (يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة: 22، 23].
وجاء الأمر بالتوكل في مقام المشورة، قال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159]، فأخذ المشورة من باب الأخذ بالأسباب، لكن المستشير لا ينفك حتى ولو كان عنده كبار المستشارين عن التوكل على الله؛ لأن هؤلاء المستشارين قد يُجْمِعون على قرار غير صائب، وقد يصيبون في قرارهم ويخطَأ في تنفيذه، ومن هنا كان لا بد من التوكل على الله، حتى مع وجود الخبراء والمستشارين وأخذ الأسباب.
وجاء الأمر بالتوكل في مقام طلب الرزق، قال الله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [القصص:60]، وقال -عز وجل-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:2، 3].
وجاء الأمر بالتوكل في معرض ذكر العهود والمواثيق، وقد أخبر سبحانه عن يعقوب -عليه السلام- وأبنائه يوسف وإخوته، حيث قال: (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [يوسف:66، 67].
وجاء ذكر التوكل في مقام الهجرة في سبيل الله، ذلك المقام العظيم الأليم على النفس، والذي لا يهوّنه إلا التوكل على الله والاعتماد عليه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل:41، 42].
وجاء ذكر التوكل في مجال إبرام العقود، قال تعالى عن موسى -عليه السلام- واتفاقه مع الرجل الصالح: (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص:28].
وجملة القول -أيها المسلمون- أن التوكل على الله عبادة جليلة القدر عظيمة الأثر، وأنه من أعظم واجبات الإيمان وأعلى مقامات التوحيد، إن لم يكن أعظمها وأجلها، وما ذلك إلا لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة والرضا العميق واليقين الثابت، ولو أن المسلمين دولاً وأفرادًا حقّقوا التوكل وأعدوا ما استطاعوا من قوة لما ضعفوا ولما استكانوا، لو أنهم اعتمدوا على ربهم ولجؤوا إليه ونصروه وحفظوه في أمره ونهيه لنصرهم وأيدهم وحفظهم، ولأصبحوا على عدوهم ظاهرين، (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [الفتح:7]. قال الإمام الواثق بربه ابن القيم -رحمه الله-: "ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل من مكانه وكان مأمورًا بإزالته لأزاله".
ألا فاتقوا الله -أيها المسلمون- وحققوا التوكل تحقِّقوا التوحيد وتنصروا، واصدقوا مع الله، وقووا علاقتكم به، فإن من صدق مع الله وقاه الله، ومن توكل على الله كفاه الله، (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة:23].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:173-176].
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وتوكلوا على الله حق توكله يكفكم وينصركم ويرزقكم.
واعلموا أن التوكل شعور ويقين بعظمة الله وربوبيته وهيمنته على الحياة والوجود والأفلاك والأكوان، التوكل قَطْع القلب عن العلائق، ورَفْض التعلق بالخلائق، وإعلان الافتقار إلى محوّل الأحوال ومقدّر الأقدار، إنه صِدْق اعتماد القلب على الله -عز وجل- في استجلاب المصالح ودفع المضار، إنه صدق وإيمان وسكينة واطمئنان، ثقة بالله في الله، وأمل يصحب العمل، وعزيمة لا ينطفئ وَهَجُها مهما ترادفت المتاعب وتتابعت المصاعب.
التوكل إيمان بالغيب، وتصديق بموعود الله بعد استنفاد الوسائل المشروعة في عالم الشهادة واستكمالها، إنه تسليم لله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوبات وواجبات، ما كان تواكلاً ولا اتكالية ولا تضييعًا للسنن ولا إهمالاً للأسباب، بل إن المتوكلين في كتاب الله هم العاملون: (نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت:58، 59].
وإمام المتوكلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد اختفى في الغار عن الكفار، وظاهر في بعض غزواته بين درعين، وقال: "من يحرسنا الليلة؟!"، وتعاطى الدواء، وأمر بإغلاق الباب وإطفاء النار عند المبيت، وقال لصاحب الناقة: "اعقلها وتوكل"، وقال سبحانه لنبيه لوط -عليه السلام-: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) [هود:81]، وأوحى إلى نبيه موسى: (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) [الشعراء:52]، ونادى أهل الإيمان فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء:71]، فليس التوكل بإهمال العواقب واطراح التحفظ، بل إن ذلك عند العقلاء والعلماء عجز وتفريط يستحق صاحبه التوبيخ والاستهجان.
أيها المسلمون: من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأكمل وأقوى، ومن لم يكن كذلك فهو يظن أن حظوظًا عمياء هي التي تقرر مصائر الحياة والأحياء.
وإن من الجهل الذريع بالله وصفاته أن يتوقع المرء الخذلان وهو مرتبط بربه معتمد عليه، أو يخاف غير الله والله تعالى يقول: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) [الزمر:36، 37].
وإن من ضعف الإيمان بوعد الله ووعيده أن يظن جاهل أنه لن ينصر الله الإسلام والمسلمين ويكفيهم شر أعدائهم، وإن من سوء الظن بالله -جل وعلا- أن يعتقد أحد أنه لن ينصر دينه ويعلي كلمته، وهو الذي (أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ)، ألا فإن الله يقول: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) [الحج:15].
فاتقوا الله -عباد الله-، وتوكلوا عليه، فقد أمركم بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء وغسل الجنابة، ونهاكم عن التوكل على غيره سبحانه.