القادر
كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن محمد القنام |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إنَّ الانسياقَ وراءَ الشهوةِ يُدمر إرادةَ الإنسان، ويُحطمُ كيانَ الإنسانيةِ، ويفقدها وعيها وإرادتها، ويقُودُها على نغمِ القطيعِ الذي يرقُصُ على إيقاعِ نزواته، فيعبدُ شهواتهِ، ويظلُّ يُمارسُ هذه العبودية، ويُسخِّر كلَّ طاقاتهِ للشهوةِ والهوى، إنَّها من أشدِّ الشهواتِ وأخطرِها على الشبابِ خاصةً في هذا الزمنِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما تركتُ بعدي فتنةً أضرّ على الرجالِ من النساء" ..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فإن بعد الحياة مماتًا، وبعد الممات سؤالاً، وبعد السؤال إما جنة أو نار، يقول الله الذي إليه المرجع والمآب: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا ربكم حقَّ التقوى، وتمسكوا بالعروةِ الوثقى.
الشهوة -عباد الله- أساسُ كلِّ قضية، ومنبعُ كل رزيَّة، إنَّها المستنقعُ الذي تتولدُ فيه قاذورات الخطايا، وهي البُركان الذي تتقاذفُ من رحمه البلايا، إنَّها داءُ الشبابِ، بل وغير الشباب، وهي القضيةُ الكبرى للشباب، ما من جريمةٍ إلاّ هي منبعُها، وما من كبيرةٍ إلا وهي مبدؤُها، إنَّها قضيةُ الشبابِ الكبرى، الزنا، واللواط، والعادة السرية، والغناء، والمعاكسات الهاتفية، جرائم الاغتصاب والاختطاف، والعشق والإعجاب، إدمان النظر المحرم، السهر والسفر، كلّ هذه الأدواء صدى لهذه القضية، واستجابة لسعارها، إنَّها حجابٌ حُفت به النار، من اخترقهُ دخلها، هي ابتلاءٌ من اللهِ وامتحانٌ لعباده، ليعلمَ الصادقين والصابرين، ويبلو أخبارهم.
إنَّها -أيّها المسلمون– قضيةُ الشبابِ والشهوةِ، ولستُ أعني بها كلَّ شهوة، لكنني أردتُ بها شهوة الفرجِ، أو ما يُسمى بالمصطلحِ المعاصر: "شهوة الجنس". وهل داءُ الشبابِ إلاَّ الميل الجنسي الذي يملأُ نُفوسهم ويُسيطرُ على أرواحهم ويتراءى لهم في كلِّ جميلٍ في الكون شيطانًا لعينًا يقودُ إلى الهاويةِ، وإبليسًا من أبالسةِ الرذيلةِ يدعو إلى دينِ الهوى وشرعِ الشهوات؟! كم من شابٍ كانت الشهوةُ له عائقًا من سلوكِ الهدايةِ، وكم كانت السبب في انحرافهِ وضلاله!! والله المستعان.
إنَّ الانسياقَ وراءَ الشهوةِ يُدمر إرادةَ الإنسان، ويُحطمُ كيانَ الإنسانيةِ، ويفقدها وعيها وإرادتها، ويقُودُها على نغمِ القطيعِ الذي يرقُصُ على إيقاعِ نزواته، فيعبدُ شهواتهِ، ويظلُّ يُمارسُ هذه العبودية، ويُسخِّر كلَّ طاقاتهِ للشهوةِ والهوى، إنَّها من أشدِّ الشهواتِ وأخطرِها على الشبابِ خاصةً في هذا الزمنِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما تركتُ بعدي فتنةً أضرّ على الرجالِ من النساء"، وقال: "مَن يضمنُ لي ما بينَ لحييهِ وما بين رجليه أضمن له الجنة"، وسُئل عن أكثرِ ما يُدخلُ الناسَ النار فقال: "الفمُ والفرج". لمن هذا الحديث؟! إنَّهُ لكُلِّ الشباب، ولكُلِّ من يُعاني ما يعانيهِ الشباب من طوفانِ الشهواتِ العارم، إنَّهُ خطابٌ لكلِّ من يُريدُ أن يتسامى بروحهِ، وأن يبقى لهُ دينهُ، ويصان عرضهُ وشرفه.
يا معشرَ الشبابَ ويا غيرَ الشباب: الشهوةُ الجنسيةُ غريزةٌ، جُبلتْ عليها النفسُ البشرية، فقد جعلَ اللهُ سبحانهُ هذا الميلَ الغريزي في كلٍّ من الرجلِ والمرأة؛ لتحقيقِ هدفٍ سام وهو بقاءُ النوعِ الإنساني، فلولا هذا الدافعُ الجنسي لما كان التناسلُ والتكاثر الذي عمرَ وجه الأرض جيلاً بعد جيل، وقد حمى الإسلامُ هذه الشهوة من الانحراف بما شرعه من ضوابط وأحكام؛ فشرعَ الزواجَ وحضَّ عليه، ويسَّر سُبله وأسبابه، ليَكُون الطريق الشرعي لتصريفِ هذه الشهوة بما يحققُ السعادةَ والسكنَ النفسي والطمأنينةَ لكلا الزوجين، وبما يُطهِّرُ النفسَ من أدرانها ويَحفظها من الآفات، ولكنَّ الهوى المستحكم في النفوسِ يصرفُ الإنسانَ عن طريقِ الحلالِ ليوقعهُ في الحرام، ويزينُ لهُ الباطلَ فيصبحُ العقلُ أسيرًا لذلك الهوى، مُنقادًا وراءهُ حتى يؤدي ذلك إلى طُغيانِ الشهوةِ وتدسية النفسِ، ليكونَ صاحبُها كالبهائم. وفي ذلكَ يقولُ الإمامُ ابن القيم -رحمهُ الله-: "أمَّا مشهدُ الحيوانيةِ وقضاءُ الشهوةِ فمشهدُ الجُهَّالِ الذين لا فرقَ بينهم وبينَ سائرِ الحيواناتِ إلاَّ في اعتدالِ القامةِ ونطقِ اللسانِ، ليس همهم إلاَّ مجردَ نيل الشهوةِ بأيِّ طريقٍ أفضت إليها، فهؤلاءِ نُفوسُهم نفوسٌ حيوانية، لم تترقَّ عنهُ إلى درجةِ الإنسانيةِ فضلاً عن درجةِ الملائكة، وهم في أحوالهم متفاوتونَ، بحسبِ تفاوتِ الحيواناتِ التي هم على أخلاقها وطباعها".
يا معشرَ الشباب: إنَّ الشهواتِ إذا تسعَّرت نارُها واشتدَّ سُعارها ولم تُلجَم بلجامِ التقوى والخوفِ من الله، فإنَّهُ حينئذٍ تورثُ انحرافًا في الغريزةِ، وهذا الانحرافُ له آثار إنسانية وإيمانية واجتماعية وسلوكية ونفسية ومرضية، له آثار إنسانية حينما ينحطُ الإنسانُ بانحرافِ غريزتهِ إلى الحيوانية، بل إلى ما هو أحطُّ منها، فمُنذُ تلكَ اللحظةِ التي يقطعُ بها الإنسانُ صلتهُ باللهِ يغدو حيوانًا يعيشُ بغرائزهِ ويحيا لنزواتهِ، وبها تتعطلُ فيه نوازعُ الخير وتصبحُ الشهواتُ أكبرَ همهِ والدنيا مبلغَ علمهِ، فبانحرافِ الغريزةِ الجنسيةِ ينحطُ الإنسانُ من أحسنِ تقويمٍ إلى أضلّ سبيل، ذلك هوَ الخسرانُ المبين.
ولهُ آثارٌ إيمانية بأن يُسلب من المؤُمنِ إيمانه، فَيُرفَعُ من قلبه عندما ينحرف، وتستعبدهُ شهوتهُ، فلا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.
كم كانتِ الشهواتُ سببًا في الحورِ بعد الكور، وكانت الخطوةُ الأولى نحو الردةِ والكفر، واقرؤُوا إن شئتم تفسير قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الحشر:16]. ألم تسمعوا حكايةَ ذلكَ الرجلِ الذي ابتُلي بعشقِ المردان، فعشقَ شابًا اسمهُ أسلم، واشتدَّ كلفهُ به، وتمكّن حبهُ من قلبهِ، فمرضَ بسببه، ولزمَ الفراشَ، ولم يزل يزدادُ مرضُه حتى قاربَ الوفاة، فلامهُ جلساؤُهُ، لكنَّهُ ختمَ حياتهُ بقولهِ:
أسلمُ يـا راحةَ العليـل | ويا شفاءَ الْمدنفِ النحيل |
لقيـاكَ أشهى إلى فؤادي | من رحمةِ الخالقِ الجليـل |
وربما وجدتَ عابدًا زاهدًا فارقَ الدنيا كافرًا، كانت بدايةُ انحرافهِ نظرة، والنظراتُ تورثُ الحسرات، أولم تسمعوا عن حافظٍ للقرآن تنصر، وآخرَ كان مؤُذنًا فتركَ الأذانَ وارتد؟! لماذا؟! لقد كان السببُ نظرةً أُولى، وهكذا فإنَّ التهاونَ في وقايةِ شهوةِ الفرجِ والانحرافِ ولو كان يسيرًا سيؤدي شيئًا فشيئًا إلى ما هو أخطر، حتى يقعَ المرءُ فريسةَ طغيانِ الشهوةِ التي يصعُبُ التخلصُ من شُرورها، وتُؤدي في النهايةِ إلى طمسِ قلبِ صاحبها وانسلاخهِ من الأخلاقِ الفاضلة، هذا بالإضافةِ إلى ما يُصيبهُ من الأمراضِ النفسيةِ من قلقٍ واضطراب وذبولِ أحاسيس ومشاعرِ الغيرةِ والعرضِ والشرفِ والحياء والرجولة، وما يعتريه من الأمراضِ الجسديةِ التي يعوز علاجُها ويستعصي على أهلِ الطبِ دواؤُها.
يا معشرَ الشباب: إنَّ بدايةَ الانحرافِ في هذه الشهوةِ سببهُ الأساسي مرضُ القلبِ وعدمُ رسوخِ الإيمانِ فيه، فإذا ما عُرضَ لهُ شيءٌ من الفتنةِ مالَ إليها وتأثرَ بها، فازدادَ مرضًا على مرض. وفي ذلكَ يقولُ ابنُ تيمية -رحمه الله- في قولهِ تعالى: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) [الأحزاب:32]: هو مرضُ الشهوةِ؛ فإنَّ القلبَ الصحيحِ لو تعرضت له المرأةُ لم يلتفت إليها، بخلافِ القلبِ المريض بالشهوةِ، فإنَّهُ لضعفِهِ يَميلُ إلى ما يعرضُ له من ذلكَ بحسبِ قوةِ المرضِ وضعفه، فإذا خضعنَ بالقولِ طمعَ الذي في قلبهِ مرض، إنَّ القلبَ الذي تذوقَ حلاوةَ الإيمانِ لا يُمكنُهُ أن ينصاعَ لوساوسِ الشيطان، أو يفتنَ بما يُعرضُ لهُ من الشهواتِ والمغريات؛ لأنَّ نورَ الإيمانِ إذا استقرَّ في القلبِ طردَ عنهُ الظُلمات، وما قصةُ يوسفُ -عليه السلام- إلاَّ خير مثال.
إنَّ الشهوةَ الجنسيةِ وقُودُها النظرُ إلى الحرام، بل هو الخطوةُ الأولى، نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلام فموعدٌ فلقاءُ.
إنَّ النظرةَ الأولى تُجرئُ على ما بعدها، والعينُ مرآةُ القلبِ، فإذا غضَّ العبدُ بصرهُ غضَّ القلبُ شهوتَهُ وإرادته، والنظرةُ تفعلُ في القلبِ ما يفعلُ السهمُ في الرميةِ، فإن لم تقتُلهُ جرحتهُ، وهي بمنزلةِ الشرارةِ من النارِ، تُرمى في الحشيشِ اليابسِ، فإن لم تُحرقهُ كلهُ أحرقت بعضهُ:
كلّ الْحوادثِ مبدؤهـا من النظرِ | ومعظمُ النارِ من مستصغرِ الشررِ |
كم نظرةٍ فتكت فِي قلبِ صاحبِها | فتكَ السهامِ بلا قوسٍ ولا وتـرِ |
والمـرءُ مـا دامَ ذا عيْنٍ يُقلبُهـا | في أعينِ الغيرِ موقوفٌ على الخطرِ |
ولخطورةِ النظرِ وعلمِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بعظيمِ أثرهِ حذَّرَ أصحابهُ منهُ بل مما يفضي إليه في قولهِ: "إياكم والجلوسِ في الطرقات"، ثُمَّ قال: "فإذا أبيتم إلا المجالسَ فأعطوا الطريق حقها"، قالوا: وما حق الطريق؟! قال: "غضُّ البصرِ، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، وأمرٌ بالمعروف، ونهيٌ عن المنكر". هذا مع أنَّ طُرقاتِ المدينةِ لم تكن كطُرقاتِ المسلمين اليوم مليئةً بالتبرجِ والسفور ومظاهر الإغراءِ والفتنةِ، وإنَّما كانَ النظرُ بهذهِ الدرجةِ من الخُطورةِ لأنَّهُ يتبعهُ ما بعده، فحين ينظُرُ المرءُ نظرةً محرمة ترتسمُ الصورةُ في قلبه ويُزينُها الشيطانُ له، فيُثيرُها في كلِّ موقف، وحين يخلُو بنفسهِ ويأوي إلى فراشهِ يعيدُ الشيطانُ الصورةَ في ذهنهِ فيتذكرُها، ويُفكرُ فيها ويطولُ معهُ التفكيرُ حتى يُصبحُ له ديدنًا وشأنًا، وحين يطولُ التفكيرُ بصاحبهِ، ويستولي عليهِ، فقد يتطورُ به الأمرُ إلى التفكيرِ بالفعلِ والممارسةِ، وتبدأُ المسألةُ من كونها مجرد أفكارٍ إلى أن تتحولَ إلى نيةٍ، ثُمَّ إلى تخطيطٍ وعزيمةٍ، ثمَُّ إلى الوقوعِ ربما في الفاحشةِ والفساد، فإن لم يكن كذلكَ فقد يؤدي به إلى ممارسةِ العادةِ السرية، والوقايةُ خيرٌ من العلاج.
يا معشر الشباب: إنَّ الشهوةَ نارٌ لا يشتدُّ أوارها إلا بالتساهلِ في أسبابها ومُوقداتها، فكيف يسلمُ من داءِ الشهوةِ من يتساهلُ في مُشاهدةِ الأفلامِ والمسلسلات أو متابعةِ القنواتِ بحُجةِ الأخبارِ والمناظرات؟! وكيفَ ينجو من نارِ الشهوةِ من يسمعُ الغناءَ أو يرتادُ تجمعاتِ النساء؟! وكيفَ يسلمُ من داءِ الشهوةِ من يُقلبُ المجلاتِ الهابطة أو يُشاهدُ القنواتِ الساقطة؟!
يا معشرَ الشباب: لا تغتروا بالتزامكُم، ولا تُعجبوا بأعمالكم، ولا تأَمنوا مكرَ الله، فأولُ داءٍ يسري إلى نُفوسِ الصالحين هو العجبُ والغرورُ بالطاعةِ، فإذا استحكمَ هذا الداءُ فهو علامةٌ على تسلطِ شهوةِ حبِ النفسِ، ونذيرُ خطرٍ بأنَّ هذهِ الشهوةِ الخفيةُ تُمهدُ الطريقَ لتسلط الشهواتِ الأخرى.
لقد تساهلَ شبابٌ صالحون بالنظرِ إلى النساءِ عبرَ القنواتِ الفضائية، وتساهلَ آخرونَ في مُشَاهدةِ مواقعَ الإنترنت الفاضحة، وتساهلَ فئةٌ في قراءةِ صحفٍ ومجلاتٍ ساقطة، كلُّ ذلك اعتمادًا على قاعدةِ الالتزام، ولعمرُو اللهِ، ذاكَ بابٌ خطير ومزلقٌ عظيم، تساقطَ فيه أخيارٌ، وزلَّ فيه عُبادٌ أطهار، إنَّهُ لا يأمنُ مكرَ اللهِ إلاَّ القومُ الخاسرون، ومن حامَ حولَ الحمى يُوشكُ أن يقعَ فيه.
تلك -معاشرَ الشبابِ- لفتةٌ سريعةٌ إلى الداءِ الأعظم والمشكلةِ الكبرى، قد صوّرت لكم الداءَ ومصدره، ويبقى الأهمُّ وهو السبيلُ للخلاصِ والطريقُ لمواجهةِ هذه الشهوةِ وللسلامةِ من آثارِها وأخطارها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يسّر لنا سبل الهدى والتقى والعفاف، ونجانا بفضله مما يحذر المرء منه ويخاف، وأكرمنا بجوده الذي ليس على أحد بخافٍ، وجعلنا بكرمه ومنته من المسلمين الأحناف، أحمده سبحانه وأشكره أن شرع لأمة الإسلام من الحدود ما يحفظ بها عليها أمنها الأخلاقي والاجتماعي والمالي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
يا معشرَ الشباب: أُدركُ أنكم في زمنٍ تواجهون فيه تيارًا جارفًا وطوفانًا هادرًا من الشهوات، يلاحقُكم أينَما كنتم وحيثما حللتم، حتى ليقولُ القائل: وماذا تُجدي المواعظُ والخطب؟! إنَّكم تقولون للشبابِ: كُن صينًا وعفيفًا وهو يخرجُ فيسمعُ إبليسَ يخطبُ بلغةِ الطبيعةِ الثائرةِ في السوقِ على لسانِ حالِ المرأةِ المتبرجة وفي الحدائقِ وعلى السواحلِ، على لسانِ النساءِ السافرات وفي القنواتِ الإعلامية على لسانِ المناظرِ المتهتكةِ المثيرة، وفي المكتبةِ بل والبقالةِ على لسانِ الجرائدِ والمجلاتِ المصورة والرواياتِ الغراميةِ الماجنة، وفي المدارسِ والشارعِ على لسانِ أصحابهِ المستهترين، بل وفي جوارِ بيتِ الله حيثُ النساءِ اللاتي لم يأتينَ يبغينَ حجةً ولا عُمرةً ولكن ليفتنَّ الشبابَ المغفل!!
إنَّ الشبابَ تتعبدهُ الشهوةُ فيخضعُ لها؛ لأنَّ سهامها تَنصَبُّ عليه من كلِّ جانب، فلا يطيقُ أن يتقيها، فيُصورُها لهُ خيالهُ عالمًا مسحورًا عجيبًا وجنةً فتانةً، فيتمنى دخولَها، فلا يجدُ من دونها حجابًا، بل يجدُ من يسوقهُ إليها ويُحفِزُهُ عليها، فلا يخرجُ منها أبدًا، ولا عليه إن ماتتِ الأمةُ أو عاشت، فهل من علاجٍ لهذا الداء؟!
يا معشر الشباب: إنَّ العلاجَ هينٌ ميسور والعقاقيرُ دانية، لا ينقُصها إلا يدٌ تمتدُ إليها، فتأخُذُها لتكونَ سببًا في الشفاءِ بإذنِ ربِّ الأرضِ والسماء.
إنَّ أقوى علاجٍ لشهوةِ الجنسِ ولكلِّ الشهواتِ قوةُ الإيمانِ باللهِ -تبارك وتعالى-؛ فالإيمانُ سلاحُ المؤمنِ في مواجهةِ ما يُضلهُ من الشهواتِ والشبهات، فلا بُدَّ من تربيةِ النفسِ على الخوفِ من الله ومراقبتهِ في السرِّ والعلانية.
إنَّ المؤمنَ إذا تربى على الإيمانِ بالله -سُبحانهُ وتعالى- ومراقبتهِ في السرِّ والعلانيةِ وخشيتهِ في المنُقلبِ والمثوى فإنَّهُ يُصبحُ إنسانًا سويًا وينشأُ شابًا تقيًا، لا تستهويهِ مادةٌ، ولا تستعبدهُ شهوةٌ، ولا يتسلطُ عليه شيطانٌ، ولا تعتلجُ في أعماقهِ وساوسُ النفسِ الأمارةِ، فإذا دعتهُ امرأة ذات منصبٍ وجمال قال: إنِّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمين، وإذا وسوسَ لهُ شيطانٌ قال: ليس لكَ عليَّ سلطان، وإذا زينَّ لهُ قُرناء السُوءِ طريقَ الفحشاءِ والمنكرِ قال: لا أبتغي الجاهلين.
أخي الشاب: حينما تُغلق عليك بابكَ ولا يراكَ أحدٌ وتتحركُ كوامن الشهوةِ في نفسكَ فتبحثُ لها عن متنفسٍ غير شرعي تذكر حينها أنَّ اللهَ -عز وجل- في تلكَ الساعةِ يراكَ، ويعلمُ ما في نفسكَ وما تُخفي في صدرك، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر:19].
وإذا خلوتَ بريـبةٍ فِي ظلمةٍ | والنفسُ داعية إلَى الطغيانِ |
فاستحيِ من نظرِ الإلهِ وقُل لها | إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يراني |
أخي الشاب: ولكي تأمنَ غوائلَ الشهوةِ تذكر يومَ وقُوفكَ بين يدي اللهِ -تباركَ وتعالى-، وأنكَ ستلقى اللهَ يومَ تُبلى السرائر، يومَ لا يخفى من الناسِ خافية، تذكر شهادة الملائكةِ عليكَ بما فعلت: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12]، وتذكر شهادة جوارحك: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [فصلت:20]، وتذكر شهادة الأرضِ بما عليها قد فعلتَ: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) [الزلزلة:4].
إنَّ من يتذكرُ ذلك ويُوقنُ به فلن تحدثهُ نفسُهُ أو تسوِّلُ لهُ بعملٍ يُسخطُ ربهُ، وشهوةٍ محرمةٍ تُغضبُ خالقه.
أخي الشاب: إذا حدثتكَ نفسُكَ باقترافِ شهوةٍ فتذكر أنَّها لذةُ ساعةٍ ثمَّ تنقضي، وتعقُبُها الحسراتُ والزفراتُ؛ قال ابنُ الجوزي: "إنَّ الهوى يَحولُ بين المرءِ وبين الفَهمِ للحال، فلا يرى إلاَّ قضاءَ شهوتهِ، ولو ميَّزَ العاقلُ بين قضاءِ وطرهِ لحظةً وانقضاءِ باقي العُمرِ بالحسرةِ على قضاءِ ذلكَ الوطرِ لما قربَ منهُ ولو أُعطي الدنيا، غيرَ أنَّ سكرةَ الهوى تحولُ بينهُ وبين ذلك. آهٍ كم من معصيةٍ مضت في ساعتها كأنَّها لم تكُن، ثمَّ بقيت آثَارُها، وأقلُّهَا ما لا يَبرحُ ولا يَزولُ من المرارةِ في الندمِ والهزيمةِ، أمَّا الشهوةُ:
تفنى اللذاذاتُ ممن نالَ صفوتَها | من الحرامِ ويبقى الإثمُ والعارُ |
تبقى عواقبُ سُوءٍ فِي مغبتِهـا | لا خيرَ في لذةٍ من بعدها النارُ" |
أخي الشاب: أغلقِ البابَ الذي تُشمُ فيهِ روائحَ الشرِّ بالبعدِ عن المثيراتِ، فالصور ومشاهدةُ الأفلامِ والبحثُ عن المواقعِ الهابطةِ والتساهلُ في قضايا مُشاهدة الصورِ والمحادثاتِ وتبادل الرسائل الإلكترونيةِ وغيرها هي من أبوابِ الشرِّ، والبعدُ عنها وقايةٌ للنفسِ من غوائلِ الشهوةِ وشرورِها.
يا أخي الشاب: إذا علمتَ أنَّ قرينَ السُوءِ هو المُزيِّنُ للشهوةِ والمُسَهِّلُ للفاحشةِ فهل فكرتَ بجدٍ -وأنتَ تُريدُ طاعةَ اللهِ- أن يكونَ لكَ قرينُ خيرٍ، يبقى لكَ ودُّهُ ونفعُهُ دنيا وأُخرى؟! (الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67].
يا أملَ الأمةِ: إذا حدثتكَ نفسُكَ أن تُذهبَ دِينَك وتُرِيقَ ماءَ حياتِك وعفتِكَ بلذةٍ مُحرمةٍ فتذكرْ أنَّكَ بذلكَ تحرم نفسكَ ما هو خيرٌ وأبقى وأتقى وأنقى، إنَّهُنَّ الحورُ العين اللاتي لو اطلعت إحدَاهُنَّ على أهلِّ الأرضِ لملأت ما بينهما ريحًا ونورًا، ولَنَصِيفُها على رأسها خيرٌ من الدُنيا وما فيها.
إنَّ ثَمنَ العِفةِ وجزاء الصبرِ على المغرياتِ جنةٌ فيها ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشر: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان:12]. (أفتستبدلونَ الذي هو أدنى بالذي هو خير)، لمَّا ذكرَ اللهُ شهواتِ الدُنيا وزينتها قالَ بعده ذلك: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:15]. فحصنوا أنفسكم شباب الإسلام، وانتظروا حور العين في الجنة -إن شاء الله- ولا تستعجلوا.
يا معشرَ الشباب: احذروا الاستهانةَ بالذنبِ ولو صَغُر، فلا صغيرَ مع إصرار. والنظرةُ المُحرمةُ تورثُ الحسراتِ والزفرات، والعينُ تزني وزناها النظر.
ومن هُنا أقولُ للشبابِ الملتزمِ: كم نُخَادِعُ أنفسَنَا حينما نُبيحُ لها في السفرِ ما نعتبرُهُ نَحنُ عندَ غَيرِنا إحدى الكبر، ما الذي يُبيحُ لنا مُشاهدةِ الدُشوشِ ونحنُ نُحذِّرُ منها؟! أفي أمنٍ نَحنُ من مكرِ الله؟! أوَنظُنُّ أنَّ عقوبةَ الذنبِ هي خَسُفٌ ومسخٌ فقط؟! أوَليسَ في قُسوةِ قُلوبِنَا وحرمانِنَا من لذةِ الطاعاتِ أعظمُ عقوبةً؟! فلا تأمنْ غبَّ الذنبِ ولو بَعدَ حين.
يا معشرَ الشباب: الشهوةُ تَبدَأُ بخاطِرةٍ، فَدَافعها قَبلَ أن تُصبِحَ فكرةً، فإن صارت فكرةً فدافعها قبلَ أن تصيرَ إرادةً، فإنَّ صارتْ إرادةً فدافعها قبلَ أن تُصبحَ همةً، فإن صارت همةً فدافعها قبلَ أن تُصبحَ فعلاً، فإن أصبحتْ فعلاً فدافعها قبلَ أن تُصبحَ عادةً مُستحكمة يصعُبُ فِراقُها.
وأخيرًا -يا شبابَ الإسلام- إنَّ من يعرفُ الداءَ لا يُعجِزَهُ البحثُ عن الدواء إذا تسلحَ بالإرادةِ القويةِ والعزيمةِ الصادقة، وإذا أحسَّ بخطورةِ هذا الداءِ وسعى إلى دوائهِ، وإذا التجأَ إلى اللهِ ودعاهُ كما دعاهُ الصالحون المستغفرون، وإذا عمرَ وقتهُ بالمفيدِ، وشغلَ نفسهُ بكلِّ عملٍ صالح، حينها يَسلمُ لهُ دينهُ، ويبقى لهُ شَرفهُ وقَدرَهُ، وتسمُو رُوحَهُ وتزكو نفسُهُ، ويَحظى برضا خالِقهِ وتوفيقه.
معاشرَ المسلمين: إنَّ الحديثَ إلى الشبابِ لا يَعني أننا نُطالِبُهم أن يَكُونوا ملائكةً مقربين أو أنبياءَ معصومين، فهم بشرٌ يقعُ منهمُ الخطأُ والجنوحُ عن الحقِّ، مَثَلُهُم كمثلِ بقيةِ فئاتِ المُجتمعِ، وكلُّ ابن آدمَ خطاء، وخيرُ الخطائين التوابون، لكنِ المطلوبُ أن يكونَ الشبابُ في الموقعِ الصحيح، فإنْ أخطأَ حاسبَ نفسهُ وحاكمَ تَصرُفهِ، وتاب إلى ربهِ وعادَ إلى رُشدِهِ، وقبِلَ حُكمَ اللهِ ورسولهِ على فعالهِ.
وفي ذاتِ الوقتِ يجبُ على أبناءِ المجتمعِ أن يعلموا أنَّ الشبابَ إذا أخطأ أو صدرت منهُ هفوةٌ أو وقعَ مِنهُ ذنبٌ لا يعني أنَّهُ مغموسٌ في الإثمِ وميؤوسٌ من حياتهِ ومستقبله ما دامَ غير َمُصرٍ على عملهِ ولم يستمر في انحرافهِ، كما أنَّ الحديثَ إلى الشبابِ لا يعني براءةَ غيرهم، كما لا يَعني العُموم والشُمول والإحاطة واليأس، ففي الأمةِ شبابٌ مستقيمٌ نجا -بفضلِ اللهِ ورعايتهِ- من غوائلِ الشهوةِ وشُرُورِها، إنَّهم نماذجُ فذَّة، وفتيةٌ آمنوا بربهم وزادهم هُدى. واللهُ وحدَهُ المُؤمَلُ والمسؤولُ أن يُحَبب لنا ولشبابِنا الإيمانَ ويُزَيِّنهُ في قُلوبنا، ويُكَرِهَ لنا ولهم الكُفرَ والفسوقَ والعصيان، وأن يجعلنا وإيَّاهم من الراشدين.
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على البشير النذير والسراج المنير، كما أمركم بذلك اللطيف الخبير، فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...