الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | محمد بن سليمان المهنا |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
فأين الذين انغمسوا في الخطايا من تلك الصدقات التي تطفئها؟ وأين الخائفون من غضب الرب؟ وأين الخائفون من حر القبور؟ ألا يتقون ذلك بالصدقات؟. أين الطامعون في فضل الله؟ أين المشتاقون إلى الجنة؟ إلى هؤلاء جميعاً أسوق قول الله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى? تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) ..
أيها الناس: فإن الناظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد أن ثَمَّة موضوعاً لا يكاد ينتهي الحديث عنه إلا ويُرجَع إليه، افتح صفحات أول سورة في القرآن بعد الفاتحة تجد عشرات الآيات خصصت للحديث عن أهمية ذلك الموضوع في حياة الأمة. إنه موضوع الإنفاق في سبيل الله -عز وجل-.
نعم، الإنفاق في كل طريق يُرضي الله تبارك وتعالى، سواءً كان إنفاقاً واجباً أم مستحباً، وفي ذلك يقول ربنا -عز وجل-: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:274].
فمن كانت هذه حاله فلْيبشِرْ بأعظم موعود، وأكرم مورود، كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن سلام أنه قال: أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم انجفل إليه الناس، فكنت فيمن جاءه، فلما تأملتُ وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال: وكان أول ما سمعت منه: "أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعِموا الطعام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام".
وربما أنفق الإنسان نفقة يظنها صغيرة حقيرة فإذا جاء يوم القيامة وجد تلك الصدقة الصغيرة كأمثال الجبال، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، قال صلى الله عليه وسلم: "مَن تصدَّق بعدل تمرة من كسْبٍ طيِّبٍ فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل". ولا تعجب، فأنت تتقرب إلى أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
وفي الصحيحين أيضاً عن عدي بن حاتم الطائي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبين ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة". نعم! نصف التمرة ينفعك، فكيف بما زاد على ذلك؟.
وثبت في الأحاديث الصحيحة أن الصدقة تطفئ غضب الرب سبحانه، و أنها تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار، وأنها تطفئ عن أهلها حَرَّ القبور.
فأين الذين انغمسوا في الخطايا من تلك الصدقات التي تطفئها؟ وأين الخائفون من غضب الرب؟ وأين الخائفون من حر القبور؟ ألا يتقون ذلك بالصدقات؟. أين الطامعون في فضل الله؟ أين المشتاقون إلى الجنة؟ إلى هؤلاء جميعاً أسوق قول الله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران:92].
كان ابن عمر -رضي الله عنه- يقرأ القرآن فمرّ بهذه: (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، قال: ففكرت فيما أعطاني الله فما وجدت شيئاً أحب إليّ من جاريتي رُميثة، فقلت هي حرة لوجه الله. قال مولاه نافع: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد.
واستمع إلى قصة أبي طلحة عندما سمع هذه الآية: قال أنس -رضي الله عنه- كما في الصحيحين: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب ماله إليه بيرحاء، وهو بستان يانعُ الثمار عذبُ الماء، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخله أحياناً يشرب من مائه الزُلال.
قال: فلما نزلت هذه الآية: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، ذهب أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله! إن الله يقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، وإن أحب أموالي إلى بيرحاء، وإنها صدقة أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال صلى الله عليه وسلم: "بَخٍ بَخٍ! ذلك مال رابح، ذلك ما رابح".
ومن أبي طلحة ننطلق إلى طلحة بن عبيد الله أحد المبشرين بالجنة: أخرج الطبراني بإسناد صحيح عن سُعدى زوجة طلحة -رضي الله عنه- قالت: دخل عليَّ طلحة يوماً وهو خاثر النفس، فقلت له: مالك كالح الوجه؟ ما شأنُك؟ فقال: المال الذي عندي قد كثُر وأكربني، فقالت: وما يُغمك؟ ادع قومك (تعني فاقسمه بينهم)، فدعا طلحة قومه فقسم المال بينهم حتى لم يبق منه شيء، وكان أربعمائة ألف درهم.
أيها المسلمون: كأني بنفوس المؤمنين -أسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- كأني بها قد اشتاقت إلى البذل والإنفاق في سبيل الله تقرباً إلى الله، وطلباً للدخول في رحمته؛ ولذلك فإني أسوق إليكم أصنافاً من مشاريع الخير، ووجوه البر، وطرق الإحسان.
فمن أعظمها وأشرفها بناء المساجد، فعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة" أخرجاه في الصحيحين.
وفي رواية لابن ماجه: "ولو كمحفص قطاة أو أصغر". أتدرون -يا عباد الله- ما مفحص القطاة؟ إنها الحفرة التي تحفرها القطاة لتضع فيها بيضها! فلو كان المسجد بقدر تلك الحفرة أو أصغر بنى الله لبانيه بيتاً في الجنة.
فما أسعد ذلك المسلم الذي وفقه الله لبناء مسجدٍ بالأجر العظيم من الله! فوالله إنه لا يصلي فيه مُصَلٍّ، ولا يتعبد لله متعبد من قارئ للقرآن، أو عالم، أو متعلم، أو معتكفٍ، إلا كان له من أجره نصيب. فإين الطالبون فضل رب العالمين؟.
ومن أعظم أعمال البر نشر العلم النافع، سواء كان عن طريق طباعة الكتب، أو شرائها وتوزيعها، أو توزيع الأشرطة النافعة المشتملة على التلاوات القرآنية، والدروس العلمية، والدعوة إلى الله -عز وجل-.
حدث أحد الدعاة في بلاد غير إسلامية فيها أقلية إسلامية: كنا في جاهلية وبدع وضلال حتى جاءنا الحُجاج ومعهم كتب فيها العقيدة الصحيحة، فقرأناها وصلحت عقائدنا بعدها ولله الحمد.
ومن أعظم الأعمال العناية بتعليم أبناء المعلمين، وذلك بنشر المدارس الإسلامية، لاسيما في بلاد الكفر؛ ووالله -يا عباد الله-! إن المسلمين في بلاد الكفر لَيعانون معاناة شديدة بسبب دراسة أولادهم في مدارس الكفار، إذ ينسى أولئك الطلاب لغتهم، ويتعلمون عقائد القوم وأخلاقياتهم، والأدهى من ذلك والأمرّ إذا اقترب الفتى أو الفتاة من سن البلوغ، فهنا تبدأ المأساة الحقيقية.
إنها -والله!- مسؤوليتنا جميعاً، سواءً مَن أقام في تلك البلدان، أو إخوانهم في بلاد الإسلام، أن نسعى في حل تلك المشكلات، ومفتاح ذلك بذل المال في سبيل الله.
ومثل ذلك، وربما أعظم منه، نشرُ حِلَق تعليم القرآن بين المسلمين، ولئن كانت حال المسلمين في بلاد الإسلام حالاً مُرضية نوعاً ما فإنَّ حال المسلمين في بلاد الكفر حال سيئة للغاية، فبعض المسلمين الجدد لا يقرأ الفاتحة في صلاته إلا مترجمة!.
أما أولاد المسلمين فلا يكادون يحفظون من القرآن شيئاً، مع أن تعليم القرآن حلمٌ يتمناه آباؤهم وأمهاتهم؛ فالذي ينبغي على المسلمين أن يتكاتفوا في نشر تلك الحِلق، لاسيما وهي لا تكلف شيئاً سوى مرتَّبِ المدرسين عند عدم وجود المتبرعين.
هذه -يا عباد الله- أنواع من طرق الخير ووجوه الإحسان، اكتفيت بها خشية الإطالة، وإلا فالأنواع كثيرة جداً، ويكفي من القلادة ما أحاط العنق.
أيها المسلمون: لا يقولنَّ قائل إنه غير مُستطيع، إلا أن يكون فقيراً؛ فإن لم يكن فقيرا فلْيُنْفِقْ بحسب استطاعته، ولو بشيء يسير بين الحين والحين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان: 8-12].
بارك الله لي ولكم....