البحث

عبارات مقترحة:

الأعلى

كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...

المحسن

كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...

الشكور

كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

كان خلقه القرآن محمد صلى الله عليه وسلم

العربية

المؤلف مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. الآداب والأخلاق عنوان صلاح الأمم .
  2. فضل حسن الخلق .
  3. خلق النبي صلى الله عليه وسلم .
  4. لماذا يتكبر الناس؟! .

اقتباس

ومن شمولية هذا الدين وعظمته: أنه دين الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة، والصفات النبيلة، جاءت تعاليمه وقيمه بالأمر بالمحافظة على الأخلاق الحسنة في كل أحوال المسلمين صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، أفرادًا ومجتمعات وأسرًا وجماعات، ويكفي لبيان ذلك أن يحصر النبي -صلى الله عليه وسلم- مهمة بعثته وهدف رسالته في إصلاح الأخلاق وتهذيبها ..

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب70 :71].

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله -تبارك وتعالى- واشكروه على ما هداكم للإسلام وجعلكم من أمة خير الأنام -عليه الصلاة والسلام-، راقبوه ولا تعصوه، واعلموا أنكم لديه محضرون، وعلى أعمالكم محاسبون، وعلى تفريطكم نادمون.

أيها المسلمون: الآداب والأخلاق عنوان صلاح الأمم والمجتمعات، ومعيار فلاح الشعوب والأفراد، ولها الصلة العظمى بعقيدة الأمة ومبادئها، بل إنها التجسيد العملي لقيم الأمة ومُثُلِها، وعنوان تمسكها بالعقيدة، ودليل التزامها بالمنهج السليم، والصراط المستقيم، ولا يتم التحلي بالأخلاق العالية والآداب السامية إلا بترويض النفوس على نبيل الصفات وكريم السجايا والعادات، تعليمًا وتهذيبًا واقتداءً وتقويمًا.

ومن شمولية هذا الدين وعظمته: أنه دين الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة، والصفات النبيلة، جاءت تعاليمه وقيمه بالأمر بالمحافظة على الأخلاق الحسنة في كل أحوال المسلمين صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، أفرادًا ومجتمعات وأسرًا وجماعات، ويكفي لبيان ذلك أن يحصر النبي -صلى الله عليه وسلم- مهمة بعثته وهدف رسالته في إصلاح الأخلاق وتهذيبها بقوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ديـنٌ يُشَيَّـدُ آيَةً فـي آيَـةٍ

لَبِناتُهُ السوراتُ وَالأَدواءُ
الحَقُّ فيهِ هُوَ الأَساسُ وَكَيفَ لا وَاللهُ جَلَّ جَـلالُهُ البَنّاءُ

إن حسن الخلق وانتشار الأخلاق الفاضلة في التعامل بين الناس لهو أساس بناء الأفراد والأسر وصلاح الأمم والمجتمعات، فمتى تحلى الناس بالأخلاق الفاضلة والآداب السامية والصفات النبيلة رفرفت على المجتمع السعادة، وعاش الجميع في ترابط فريد وتكاتف، وانشرحت الصدور وتيسرت الأمور، بذلك جاءت وصيته -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر وغيره فيما رواه الترمذي وصححه أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".

وعنده -رحمه الله- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم خلقًا".

بل لقد وعد -صلوات الله وسلامه عليه- صاحب الخلق الحسن بالأجر العظيم والثواب الجزيل من الله تعالى يوم القيامة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون"، قالوا: يا رسول الله: قد علمنا "الثرثارون والمتشدقون"، فما المتفيهقون؟! قال: "المتكبرون". رواه الترمذي وأحمد.

وعند أبي داود وأحمد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم". وما وضع في الميزان للعبد الصالح يوم القيامة أثقل من حسن الخلق، فهو أكثر ما يدخل الناس الجنة ويبعدهم عن النار، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء". رواه الترمذي.

وعند الترمذي بسند صحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: "تقوى الله وحسن الخلق". وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: "الفم والفرج".

وروى أبو داود من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".

وهذا هو المطلوب من المسلم أن يعيش ذا تعامل حسن وذا خلق نبيل مع أهله وإخوانه، لدوام المحبة، وحسن العشرة، ورفع المنزلة عند الله يوم القيامة، فقد ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة.

قال الحسن البصري -رحمه الله-: "حسن الخلق: الكرم والبذل والاحتمال". وقال ابن المبارك -رحمه الله-: "حسن الخلق بسط الوجه، وبذل الندى، وكف الأذى". وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "هو أن لا تغضب، ولا تحقد، وأن تحتمل ما يكون من الناس، مع بسط الوجه، وكظم الغيظ لله، وإظهار الطلاقة والبشر للناس، والعفو عن المخطئ، وكف الأذى عن كل مسلم".

وعند الحاكم بإسناد صحيح من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عقبة: ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟! أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك".

ولقد ضرب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة، حتى الأخلاق الفاضلة تمسكًا وتوجيهًا قبل البعثة، كان -صلى الله عليه وسلم- ذا خلق نبيل، وأدب رفيع، حتى ما عرف بمكة أروع ولا أحسن خلقًا منه بأبي هو وأمي، صلوات الله وسلامه عليه، فلقبه قومه بالصادق الأمين لما رأوا من جلالة خلقه وسمو أدبه وكريم صفاته ونبيل عاداته، وصدق الله –عز وجل- حين أثنى عليه في كتابه العزيز بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [القلم:4]

لم يكن -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا ولا لعانًا ولا سبابًا، وكان أبغض الخلق إليه الكذب، وكان أحسن الناس وجهًا وأطيبهم خلقًا، وما نيل من حقه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله سبحانه، قال عنه أنس بن مالك -رضي الله عنه-: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَبَضَ بِقَفَائِي مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: "يَا أُنَيْسُ: ذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟!"، قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا ذَاهِبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قال أنس:" والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟! أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا". رواه مسلم.

وقال عبد الله بن الحارث -رضي الله عنه-: "ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

وقال جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه-: "ما حجبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضحك". متفق عليه.

وهذه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تبيّن خلقه العظيم وصفاته النبيلة بقولها: "كان خلقه القرآن". رواه أحمد.

كان يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقرى الضيف ويعين على نوائب الحق ويغيث ذا الحاجة الملهوف. كما رواه البخاري وغيره.

وكان -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في باب الأخلاق، والقدوة العظمى في باب الآداب، يتخول أصحابه بالكلمات الطيبة، ويشملهم بالابتسامات المعبرة عما يكنه لهم في صدره من محبة ووفاء، حتى ليصدق فيه قول القائل:

تراه إذا مـا جئتـه متـهللاً

كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفة غير روحه لـجاد بـها فليتق الله سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله

أما مع أهله وأزواجه فقد ضرب -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في ذلك، حيث كان شديد الملاطفة لأهله، حتى إنه ليكون في مهنة أهل بيته، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتيهما.

 
وروى البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت"، وكان -صلى الله عليه وسلم- يبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى شيء يسير، هين المؤونة، لين العريكة، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بسامًا متواضعًا من غير ذلة، جوادًا من غير سرف، رقيق القلب رحيمًا بكل مسلم، خافضًا جناحه للمؤمنين، لين الجانب لهم، يعود مريضهم، ويشهد جنازتهم، ويركب الحمار، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف، ودخل عليه رجل وهو يرتعد فرقًا من هيبته، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "هون عليك! فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة". رواه ابن هشام.

وهكذا كان صحابته من بعده -رضي الله عنه- أذلةً على المؤمنين أعزة على الكافرين، وقد صح أنهم كانوا يتبادجون بالبطيخ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس، يضرب بعضهم بعضًا بقشر البطيخ من باب المزاج وحسن العشرة -رضي الله عنه أجمعين-.

وسئل ابن عباس -رضي الله عنهما-: هل كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحكون؟! قال: نعم، وإن الإيمان في قلوبهم أمثال الجبال.

الله أكبر!! أين هذا ممن الإيمان في قلوبهم لا يساوي مثقال ذرة ومع ذلك يتكبرون على عباد الله ويسيئون العشرة حتى مع أهلهم وذويهم؟! وجوههم عابسة، وصدورهم ضيقة، لا تحتمل حتى الكلمة الطيبة، يعيش معهم أهلهم في عناء، ويحظون منهم بالجفاء، ويتطلعون في شفقة إلى ابتسامة حانية أو كلمة رحمية!! فالله المستعان.

عباد الله: هذا هو منهج الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى منهجًا متكاملاً ودينًا قويمًا وصراطًا مستقيمًا، وهذا هو منهج السلف الذين فهموا الإسلام فطبقوه في واقع حياتهم قولاً وعملاً ومنهجًا وسلوكًا، فهموا أن كل عمل في هذه الحياة -ولو كان ظاهره الدنيا- فالإنسان مأجور عليه طالما ابتغى الأجر عليه من الله، وقصد من ورائه الاستعانة به على طاعة الله، وفي ذلك يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر".

ألا فاتقوا الله -أيها الناس- واستمسكوا بالأخلاق الفاضلة، وتعوذوا بالله من سيئ الأخلاق، فقد كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- كما عند النسائي وأبى داود: "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله- وتمسكوا بالأخلاق الفاضلة والصفات الكريمة، لاسيما مع أهلكم وذويكم، فالأخلاق الحسنة سجية الأنبياء والمرسلين، ووصف المؤمنين المتقين تزيد الشريف شرفًا، وترفع الوضيع ذكرًا حتى تبلغه مقامات الأنبياء ودرجات الأولياء، وما وصل للمنازل العالية إلا بالتواضع والتخلق بالأخلاق الفاضلة، ولا أقرب لقلوب الناس وألصق بهم من صاحب الأخلاق الحسنة، ولا أوحش لقلوبهم وأبعد من صاحب الخلق السيئ.

قال -صلى الله عليه وسلم-: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طهر". رواه أحمد.

قال ابن رجب -رحمه الله-: "حسن الخلق من خصال التقوى التي لا تتم إلا بها، وإنما خصه -صلى الله عليه وسلم- بالذكر في قوله: "وخالق الناس بخلق حسن"؛ للحاجة إلى بيانه، فإن كثيرًا من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده، فنص -صلى الله عليه وسلم- على الأمر بإحسان العشرة إلى الناس، وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمال حقوق العباد بالكلية، أو التقصير فيها، والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جدًا.

ولقد كانت الأسوة بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- مثالاً يحتذى، ونبراسًا يقتفى لاسيما في مجال الأخلاق والتعامل مع الناس، وما ضعفت الأمة وجانبت طريق الصواب وبعدت عن الإسلام إلا بعد أن ضيعت أخلاق الإسلام التي جاء بها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.

يقول شوقي:

بنيت لهم من الأخلاق ركنًا

فخانوا الركن فانهدم اضطرابًا
وكـان جنـابهم فيها مهيبًا وللأخـلاق أجدر أن تهابَ

عباد الله: علام يتكبر الناس والجميع من تراب؟! وعلام يتجبر المتجبرون والموت مصرعهم؟! وبماذا يتعالى بعض الناس على بعض ويسيئون العشرة من الصديق والحميم والقبور بعد هذه الدار منازلهم؟!

كيف يتعالى الإنسان ويتكبر وهو مخلوق ضعيف فقير ناقص من كل وجه؟! فأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وبين جنبيه يحمل العذرة؟! إن الواجب على المسلم أن يتواضع لعباد الله تعالى، ويلين لهم جانبه، ويحب لهم الخير والنصح في كل حالة من أحوالهم، يحترم كبيرهم، ويحنو على صغيرهم، ويوقر عالمهم، ويحفظ لذي مكانتهم مكانته ومنزلته.

وهذا لا ينافي أن يكون للمؤمن هيبة يحفظ بها قدره، ويصون بها عرضه، فإن من قلّت هيبته قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل إيمانه، ومن أكثر من الضحك والمزاح مع الناس استخف به واجترأ الناس عليه، والسعيد من جمع بين التواضع والهيبة، فلم يتكبر على عباد الله، ولم يفقد نفسه هيبتها.

وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- على عظيم ما سمعتم من دماثة خلقه وعظيم تواضعه حييًا مهيبًا، حتى قال عنه عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: "والله ما ملأت عيني من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهابة وحياءً منه وإجلالاً، ولو سألتموني أن أصفه لكم لما استطعت".

وهكذا كان صحابته من بعده -رضي الله عنه- وأتباعهم الذين فهموا معنى الأخلاق والتواضع، فطبقوها واقعًا ملموسًا في حياتهم، فعاشوا سعداء أصفياء لم يعرفوا للتكبر رواجًا عندهم، وقد كانوا يملكون أسبابه ودواعيه.

فهذا على سبيل المثال لا الحصر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي بلغ من تواضعه وكريم خلقه أنه كان يتناوب مع خادمه الركوب على دابة واحدة حين ذهب إلى فلسطين فاتحًا وهو أمير المؤمنين، ولما جاء دوره ليمشي صادف ذلك ساعة الوصول إلى بيت المقدس، وكان في استقباله القساوسة والرهبان، فأبى الخادم أن يركب، لكن عمر أصرّ على عدالة القسمة بينه وبين خادمه، ودخل عمر فلسطين وهو يقود زمام الناقة وعليها خادمه، فما زاده ذلك في أعين القوم إلا إجلالاً وإكبارًا، حتى سمع نشيجهم وبكاءهم لعدل الإسلام ورحمته وتواضع أبنائه، ومع ذلك فقد كان -رضي الله عنه- ذا هيبة ووقار حتى قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: مكثت سنة كاملة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن آية من كتاب الله فلا أستطيع أن أسأله هيبة له.

ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على البشير النذير والسراج المنير صاحب الخلق الرفيع والأدب النبيل محمد بن عبد الله -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-.